حول زيارة وفد رجال الأعمال السعوديين إلى دمشق ومسار التعاون الاقتصادي بين سورية والمملكة العربية السعودية

مقدمة:
الإطار المفاهيمي والتحليلي للعلاقات الاقتصادية السورية–السعودية:

يشهد الإقليم العربي في أعقاب جملة من التحولات الجيوسياسية، إعادة تقويم لعلاقات الدول فيما بينها، ليس فقط على أساس المحاور التقليدية أو الانتماءات السياسية، بل على أسس براغماتية تراعي المصالح التنموية، التحديات المناخية، والاستحقاقات الشبابية والاجتماعية المتزايدة.
وفي هذا السياق، تبرز العلاقات السورية–السعودية كحالة خاصة تمثل مفارقة بين إرث سياسي متوتر، وطموح اقتصادي معلن لم يُترجم حتى الآن إلى إطار مؤسسي واضح أو مستدام.

ونرى في لقاء يوم السبت 2025/07/19م بين الرئيس السوري أحمد الشرع ووفد من رجال الأعمال السعوديين في دمشق، أنه يتجاوز البعد البروتوكولي، ليندرج ضمن سلسلة من التحركات التي تشي بتبلور مناخ اقتصادي–دبلوماسي جديد، عنوانه: التوظيف المشترك للموارد والفرص في مرحلة ما بعد الحرب. وبالرغم من رمزية اللقاءات الأخيرة، إلا أن جوهر العلاقة بين دمشق والرياض في الحقل الاقتصادي ظل رهين التجاذب السياسي، والإرث القانوني المعطوب، والتباينات الهيكلية العميقة بين الطرفين.

إن بناء علاقة اقتصادية بين سورية والسعودية يتطلب تفكيكًا مفاهيميًا لثلاثة مستويات:

  1. طبيعة الاقتصاد السوري ما بعد الحرب:
    الاقتصاد السوري يعاني من اختلالات عميقة في الإنتاج، البنية التحتية، والتشريعات، ولا يمكن وصفه بالاقتصاد الريعي التقليدي فحسب، بل هو اقتصاد مشوه بفعل التدمير الممنهج لمراكز الإنتاج من قبل النظام البائد، هروب رؤوس الأموال، تفكيك السوق الداخلية، وفقدان الثقة بالسلطة النقدية والتجارية، وهذا الواقع يجعل من التعاون الخارجي ضرورة لا ترفًا، ولكن يُلزم في الوقت ذاته بضمانات تتجاوز الشكلية لخلق بيئة استثمارية حقيقية.
  2. التحول في السياسة الاقتصادية السعودية:
    منذ إطلاق رؤية المملكة 2030، يشهد الاقتصاد السعودي عملية تحوّل نحو تنويع مصادر الدخل، وتوسيع الشراكات خارج قطاع النفط.
    ويُعد فتح قنوات تعاون إقليمي أحد المرتكزات الاستراتيجية لهذا التحول، خصوصًا عبر القطاع الخاص، الذي بات يُمنح هامشًا أكبر للحركة والاستثمار خارج المملكة، وهنا تتلاقى مصالح الطرفين، لكن الالتقاء النظري لا يعني التوافق العملي دون هندسة مؤسسية دقيقة.
  3. الإطار الإقليمي للتنمية المشتركة:
    لا يمكن قراءة العلاقة السورية–السعودية بمعزل عن التوازنات الإقليمية، حيث تشكل هذه الشراكة المحتملة مدخلًا لنموذج جديد من التعافي متعدد الأطراف، يقوم على دمج جهود القطاع الخاص في عملية إعادة الإعمار، ولكن بشروط تضمن النزاهة، التوزيع العادل، وتفادي تسييس المال أو تسليعه في خدمة أطراف متنفذة.

البيئة الاقتصادية السورية – فرص الاستثمار وتحدياته البنيوية
تمثل البيئة الاقتصادية السورية اليوم حالة مركبة يصعب تصنيفها ضمن نماذج الاقتصاد التقليدي، نظرًا للتداخل العميق بين الانهيار الهيكلي، وإرث السياسات الريعية، والتبعات الكارثية للنزاع المسلح، فأي عملية لاستشراف مستقبل التعاون مع دول عربية ذات ملاءة مالية، مثل المملكة العربية السعودية، تستلزم أولًا الغوص في طبيعة هذا الاقتصاد: كيف يعمل، وما هي مكامن الضعف، وأين توجد الفرص.
في المرحلة الراهنة، تتصف البيئة السورية بالخصائص التالية:

  • ضعف البنية التحتية الإنتاجية والخدمية، حيث أكثر من 60% من المنشآت الصناعية والخدمية تعرضت للتدمير أو التعطيل نتيجة الحرب، مما جعل القطاع الخاص المحلي غير قادر على أداء وظائفه التقليدية في خلق فرص العمل وتوليد القيمة، وهذا الفراغ يفتح المجال للاستثمارات الخارجية، بشرط أن تُدار وفق نموذج تنموي يهدف إلى إعادة هيكلة الاقتصاد وليس مجرد تعظيم الأرباح قصيرة الأمد.
  • هشاشة المنظومة التشريعية والمؤسساتية، إذ تشير تقارير محلية ودولية إلى وجود تعارضات وتكرارات في القوانين المتعلقة بالاستثمار، إلى جانب غياب السلطة القضائية المستقلة، واستمرار حالة الانغلاق السياسي التي تمنع الشفافية في التراخيص وإسناد العقود.
    هذا السياق يعزز من مخاطر ما يُعرف بـ"المناخ الطارد للاستثمار"، ويستدعي تدخلًا إصلاحيًا على مستوى التشريع والحوكمة.
  • غياب الضمانات القانونية والتمويلية، فالعديد من المستثمرين يواجهون مشكلات متعلقة بحقوق الملكية، تذبذب سعر صرف العملة المحلية، وإمكانية سحب الأرباح، وهي عناصر أساسية تُقيّم من خلالها أي بيئة اقتصادية.
    ومع استمرار القيود على التحويلات المالية والعقوبات الاقتصادية، تبقى سورية منطقة عالية المخاطر، إلا إذا وُفرت آليات محايدة لضمان الالتزامات التعاقدية.
  • فرص كامنة في القطاعات الإنتاجية والخدمية، فرغم هذا الواقع، تحتفظ سورية بجملة من الفرص الاستثمارية غير المستغلة، أبرزها في القطاع الزراعي، الصناعات الغذائية، الطاقة المتجددة، والخدمات الطبية والتعليمية، فهذه القطاعات لا تمثل فقط حاجة داخلية، بل أيضًا إمكانية لخلق قيمة تصديرية، إذا ما استُثمرت ضمن شراكات رشيدة قائمة على الكفاءة والتوزيع العادل للمنافع.
  • دور الجاليات السورية والمغتربين، حيث تشكل الجاليات السورية – خصوصًا في دول الخليج وأوروبا – مصدرًا محتملًا لرأس المال والخبرة، لكن غياب الضمانات والشفافية يجعل عودتهم للاستثمار محفوفة بالمخاطر.
    لذا، فإن أي نموذج تعاون مع المستثمرين السعوديين يجب أن يأخذ في الحسبان بناء جسور ثقة جديدة بين الدولة السورية وقطاعها الاقتصادي المعولم.

مقاربة تيار المستقبل السوري لمسار الشراكة الإقليمية:

يرتكز تيار المستقبل السوري في رؤيته الاقتصادية على ثلاثة مبادئ تأسيسية تميز خطابه عن المقاربات التقليدية في إدارة العلاقات الاستثمارية الدولية: أولوية الإنسان على رأس المال، مركزية العدالة المؤسسية، ورفض تسليع الاقتصاد الوطني في خدمة القوى السياسية أو الأمنية. وانطلاقًا من هذه القيم، يتبنى المكتب الاقتصادي للتيار رؤية نقدية بناءة لمسار التعاون السوري–السعودي، تقوم على تحويل لحظة الانفتاح الاقتصادي إلى فرصة لإعادة تعريف قواعد العلاقة بين الدولة والمجتمع والقطاع الخاص.

1- فلسفة الاقتصاد التنموي مقابل الاقتصاد الريعي:

ينطلق التيار من قناعة مفادها أن سورية لا يمكن أن تعود إلى نموذج الاقتصاد الريعي الذي سيطر على العقود السابقة، والذي أسهم في خلق طبقة طفيلية مرتبطة بمراكز النفوذ الأمني والسياسي، على حساب العدالة التوزيعية والكفاءة الإنتاجية. التعاون الاقتصادي مع دول الخليج – وفي مقدمتها السعودية – يجب أن يُوظف في بناء اقتصاد تنموي متعدد الأطراف، تُديره مؤسسات مستقلة، ويُشارك في صياغته المجتمع المدني، والقطاع الإنتاجي المحلي، والخبرات السورية في الخارج.
هذا التحول يقتضي تفكيك العلاقة البنيوية بين المال السياسي والسلطة التنفيذية، وضمان ألا يُستخدم الاستثمار الخارجي كأداة لإعادة تدوير الامتيازات، أو لفرض أجندات غير تنموية على الشعب السوري.

2- الاستثمار كمدخل للحوار الوطني لا بديل عنه:

يرى التيار أن الاستثمار ليس غاية في ذاته، بل هو وسيلة لإعادة هيكلة العقد الاجتماعي السوري.
ومن هنا، يجب إدماج موضوع الشراكة الاقتصادية ضمن مسارات الحوار الوطني، بوصفه حقلًا يختبر جدية الدولة في الإصلاح، واستعدادها لتوزيع المنافع بعدالة، وخلق بيئة تشاركية حقيقية تُعيد للسوريين ثقتهم بالمؤسسات العامة والخاصة.
أي استثمارات تُبرم خارج هذا السياق، ومن دون رقابة مجتمعية أو مؤسسية مستقلة، ستكون عرضة للنقد الشعبي، والانكشاف الأخلاقي، وإعادة إنتاج علاقات التبعية والفساد، لا التنمية.

3- رفض الانتقائية والانغلاق:


في خضم الانفتاح السعودي الأخير، يحذر التيار من خطر الانتقائية في العقود، أو الانغلاق في منح الامتيازات، سواء بحجة “الشراكة الاستراتيجية” أو “الخصوصية السياسية”.
هذه السياسات لا تصنع اقتصادًا صحيًا، بل تُكرّس هيمنة بعض المجموعات على مفاصل الإنتاج والخدمات، وتُضعف من إمكانيات خلق منافسة عادلة، واستقطاب كفاءات محلية مغيّبة بفعل المركزية والتهميش.
من هنا، يُطالب التيار بضمان وصول فرص الاستثمار لكل المناطق السورية، وعدم اختزال المشروعات في جغرافيا ضيقة أو جهات محسوبة على السلطة، وضرورة اعتماد معايير شفافة ومعلنة في منح التراخيص والعقود، تُعرض للرأي العام وتخضع لتدقيق رقابي مستقل.

التصورات الاستراتيجية وتوصيات المدى المتوسط والبعيد:

في ضوء التحولات الاقتصادية والدبلوماسية الجارية بين سورية والمملكة العربية السعودية، يتبنى المكتب الاقتصادي في تيار المستقبل السوري تصورًا متكاملًا يرسم ملامح شراكة قائمة على النزاهة والعدالة والتكامل الإقليمي.
وهذا التصور لا يقتصر على القضايا المالية والتجارية، بل يُدمج الأبعاد المؤسسية والاجتماعية، ويضع التنمية الاقتصادية في صلب مشروع وطني جامع.

  1. هندسة مؤسسية جديدة للاستثمار:
    يجب تجاوز النموذج التقليدي القائم على الاتفاقات الثنائية بين الوزارات، والتوجه نحو إنشاء مؤسسات مستقلة ذات طبيعة تشاركية، مثل "المجلس السوري–السعودي للتنمية"، بحيث يضم خبراء اقتصاديين، ممثلين عن القطاع الخاص، منظمات المجتمع المدني، وجهات مستقلة معنية بالرقابة المالية والحوكمة، وهذا المجلس سيشكل مظلة تنسيقية تتابع، تراجع، وتقيّم الأداء الاستثماري، وتضمن توزيعه الجغرافي والاجتماعي بشكل عادل
  2. تطوير قانون استثمار وطني شفاف:
    لا يمكن الحديث عن جذب استثمارات عربية أو دولية دون قانون متقدم يراعي المستجدات العالمية في حقوق المستثمرين، الحماية القانونية، آليات التحكيم، والحوكمة البيئية والاجتماعية للمشروعات.
    ومن هنا، يوصي التيار بإطلاق ورشة تشريعية وطنية لإعداد قانون استثمار جديد يُطرح للنقاش العام، ويُقرّ عبر آلية ديمقراطية تضمن التشاركية والرقابة الشعبية.
  3. إشراك المجتمعات المحلية والمغتربين:
    التنمية لا يمكن أن تنجح إذا بقيت فوقية أو نُفذت من دون إشراك المجتمعات المحلية.
    لذا، يقترح التيار تشكيل مجالس اقتصادية محلية في كل محافظة، تُشارك في تحديد الأولويات الاستثمارية، وتراقب الأداء.
    كما يجب فتح باب الاستثمار أمام السوريين في الخارج، ضمن برنامج "عودة رأس المال الوطني"، يُمنح من خلاله المغتربون تسهيلات تشريعية وتمويلية مدروسة.
  4. التحصين ضد الاختلالات السياسية والفساد:
    من التحديات الكبرى أمام أي شراكة استثمارية هو تغلغل المال السياسي، وغياب الرقابة على العقود والتراخيص.
    لهذا، يجب اعتماد مبدأ "الشفافية الوقائية"، بحيث تُنشر كل اتفاقية استثمار وكل عقد مالي في سجل عام مفتوح، وتُخضع لمراجعة سنوية علنية من قبل مؤسسات مستقلة.
    كما يُقترح إدماج قواعد النزاهة في كل عقد استثماري، تشمل معايير واضحة للحوكمة البيئية والاجتماعية.
  5. تنمية تكاملية إقليمية:
    من المهم أن تكون الشراكة السورية–السعودية جزءًا من مشروع تكامل إقليمي لا ينحصر في المصالح الثنائية، ويمكن أن تتوسع المبادرة لتشمل شراكات ثلاثية أو رباعية مع الأردن، العراق، مصر، أو الإمارات، ضمن ما يسمى "تكتل التنمية المشرقية"، الذي يُركز على تنمية القطاعات الإنتاجية والخدمية على مستوى الإقليم، ومشاركة المعرفة والابتكار والاستثمار البشري والتكنولوجي.
  6. دمج الاقتصاد في مشروع إصلاح سياسي شامل:
    التعاون الاقتصادي لا يجب أن يكون معزولًا عن مسار الإصلاح السياسي والدستوري. على العكس، فإن خلق بيئة اقتصادية عادلة وشفافة يُعد اختبارًا حقيقيًا لمصداقية الإصلاح المؤسسي.
    ولهذا، يوصي تيار المستقبل السوري بأن يُدمج ملف الاستثمار ضمن وثيقة العقد الاجتماعي الجديد، ويُعترف به كبند مركزي في الحوار الوطني الذي يُعاد من خلاله تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع والسوق.

خاتمة:

يرى المكتب الاقتصادي في تيار المستقبل السوري أن اللحظة الاقتصادية الراهنة تشكل فرصة نادرة لتحويل الاستثمار من مجرد نشاط مالي إلى أداة استراتيجية لإعادة بناء الدولة والمجتمع.
إن العلاقات السورية–السعودية في حال أُديرت بشفافية، استقلالية، وتشاركية، يمكن أن تكون نموذجًا للتعافي المتكامل، وتساهم في فتح أفق جديد للمنطقة كلها نحو اقتصاد أخلاقي، تنموي، وعادل.
لهذا، تُصدر هذه الورقة بوصفها مساهمة فكرية وسياسية تهدف إلى تحفيز الحوار، وتنظيم الأولويات، وتقديم رؤى قابلة للتطبيق من أجل دفع مسار التعاون الاقتصادي نحو نموذج شراكة تنموية وطنية–إقليمية تحترم حقوق السوريين وتنهض بمقدراتهم.

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع