مقدمة:
في العقدين الأخيرين، تحوّل الكبتاغون من مادة شبه مجهولة خارج النطاق الطبي إلى أحد أبرز منتجات الاقتصاد غير الرسمي في الشرق الأوسط، وخصوصًا في سورية. لم يكن الكبتاغون مجرد مخدّر، بل أصبح أداة سياسية، ومصدر تمويل للأطراف المسلحة، وشبكة متشابكة من الفساد، والجريمة المنظمة، والتواطؤ المؤسسي. يهدف هذا المقال إلى تحليل تطور الكبتاغون في سورية عبر ثلاث مراحل مركزية: ما قبل حكم الأسد، خلال فترة سيطرته، ثم بعد انهيار نظامه، كما يستعرض الآثار النفسية والاجتماعية والاقتصادية للمادة، ويقدم تصورًا لتفكيك إرثها المدمر.
الكبتاغون في سورية: تحليل إحصائي لاقتصاد المخدرات وتداعياته الأمنية والاجتماعية
لم تعد تجارة الكبتاغون في سورية مجرد مسألة جنائية، بل تحوّلت إلى أحد أكثر المؤشرات دلالة على انهيار بنية الدولة وظهور اقتصاديات الحرب. فالإحصائيات الأخيرة الصادرة عن مؤسسات دولية ومصادر رسمية سورية وعربية تكشف عن حجم غير مسبوق لهذه التجارة، وتبيّن كيف استُخدمت كأداة تمويل للنظام الأمني السابق، ثم كشريان اقتصادي للفصائل المسلحة وشبكات التهريب العابرة للحدود.
1- إنتاج سورية من الكبتاغون عالميًا:
تشير تقارير مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) إلى أن سورية، حتى عام 2023، كانت مسؤولة عن نحو 80٪ من إنتاج الكبتاغون عالميًا، وقد أكدت بعثة فرنسا لدى الأمم المتحدة هذا الرقم في جلسة رسمية، مبيّنة أن مصانع في اللاذقية وريف دمشق هي المصدر الأول للحبوب التي اجتاحت الأسواق الخليجية والأوروبية.
2- القيمة السوقية لتجارة الكبتاغون:
قدّرت تقارير دولية أن تجارة الكبتاغون في سورية بين عامي 2020 و2023 بلغت قيمتها السنوية ما بين 8 و10 مليارات دولار، ورغم أن هذه الأرقام تختلف باختلاف منهجية التقدير، فإن جميع المصادر تتفق على أن هذه التجارة تجاوزت ربع الناتج المحلي الإجمالي السوري في بعض السنوات.
وبحسب صحيفة وول ستريت جورنال، فإن النظام السوري السابق جنّى أرباحًا تصل إلى 2.4 مليار دولار سنويًا من تجارة الكبتاغون، عبر شبكات يديرها الجيش والأجهزة الأمنية، خاصة الفرقة الرابعة.
3- مصادرات وشبكات ما بعد سقوط النظام:
منذ ديسمبر 2024 وحتى منتصف 2025، أُعلن رسميًا في دمشق عن:
- مصادرة 320 مليون حبة كبتاغون، بعضها كان مهيأ للتصدير عبر لبنان والأردن.
- ضبط 121 طنًا من المواد الأولية، أبرزها مواد كيميائية من الهند والصين.
- إتلاف أكثر من مليون حبة في منشآت الصبورة وكفرسوسة، بحضور إعلامي ومراقبة محلية.
كما تم الكشف عن 13 مستودعًا سريًا لصناعة الكبتاغون في دمشق، حلب، وطرطوس، غالبيتها كانت واجهات لمصانع غذائية أو ورشات بلاستيكية.
4- التهريب الإقليمي والدولي:
- في السعودية وحدها، ضُبطت 65 مليون حبة كبتاغون عام 2022، مصدرها سورية عبر الحدود الأردنية.
- في إيطاليا، تم اعتراض شحنة عام 2020 تحتوي على 84 مليون حبة كبتاغون كانت قادمة من ميناء اللاذقية داخل لفائف ورقية.
- الأردن نفّذ سلسلة من الضربات الجوية داخل الأراضي السورية عام 2025 ضد شبكات تهريب تنشط قرب درعا والسويداء.
وفي ذات السياق، حذّر تقرير صادر عن UNODC في حزيران 2025 من انتقال بعض معامل الكبتاغون إلى ليبيا، نظرًا لتشابه ظروف الانهيار الأمني، وظهور شبكات تهريب برعاية محلية.
5- التأثيرات الاجتماعية والصحية:
- كشفت تقارير صحية في السعودية أن نحو 40٪ من الشباب بين 12 و22 عامًا تعرّضوا للكبتاغون بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
- تشير شهادات من داخل المخيمات السورية إلى ازدياد حالات التسمم العصبي بسبب تعاطي حبوب مغشوشة تحتوي على نسب مرتفعة من الفينثيلين.
كما وثّقت تقارير صحفية استخدام الكبتاغون داخل الفصائل المسلحة كمحفز نفسي في المعارك، مما أدّى إلى ظهور أعراض الذهان والانهيار العصبي في صفوف المقاتلين، خصوصًا في مناطق الريف الشرقي.
تُظهر هذه الأرقام أن الكبتاغون لم يكن عارضًا هامشيًا في المرحلة السورية السابقة، بل أحد محركات اقتصاد الحرب وأداة لتفكيك المجتمعات المحلية من الداخل. وبعد سقوط النظام المركزي، ورثت سورية شبكة إنتاج وترويج يصعب تفكيكها دون تعاون إقليمي، وإعادة بناء سلطات رقابية، ونظام عدالة تعافوي يفصل بين الضحية والمجرم.
أولًا، ما قبل الأسد – سياق محدود لتداول المخدرات:
سورية ما قبل السبعينيات لم تكن منطقة انتشار واسع للمخدرات، بما فيها الكبتاغون. كانت البلاد تعتمد على منظومة قانونية تقليدية تنظم تداول الأدوية المخدّرة في إطار طبي صرف، بناءً على قانون العقاقير الصادر عام 1961 والذي حظر تداول المؤثرات العقلية دون وصفة طبية.
حتى أوائل السبعينيات، لم يُرصد استخدام الكبتاغون في السياقات السورية، إذ كان يقتصر إنتاجه واستعماله في أوروبا لعلاج حالات نقص الانتباه والخدار.
لم تنخرط سورية في شبكات التصنيع أو الترويج، ولم تكن هناك بيئة ملائمة لاحتضانه كمنتج غير قانوني.
ثانيًا، عهد الأسد – الكبتاغون كأداة أمنية واقتصادية:
مع صعود حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970، وانكماش الاقتصاد السوري تدريجيًا، بدأت تتشكّل منظومة موازية داخل مؤسسات الدولة، فيها تنشط شبكات التهريب والترويج من خلال أجهزة المخابرات والأمن.
إلا أن دخول الكبتاغون إلى المعادلة لم يظهر بوضوح إلا في العقد الأخير من حكم بشار الأسد، خصوصًا بعد عام 2011.
وبتحليل لواقع الكبتاغون بعد الثورة تشير تقارير صادرة عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) إلى أن سورية أصبحت خلال فترة الحرب مركزًا إقليميًا لتصنيع الكبتاغون، وخصوصًا في مناطق سيطرة النظام، هذا وقد وثّقت تحقيقات صحفية من قبل صحيفة نيويورك تايمز والجارديان تورط الفرقة الرابعة التابعة للجيش السوري، بقيادة ماهر الأسد، في تنظيم مصانع كبتاغون في اللاذقية وريف دمشق. كما كانت الموانئ السورية، خصوصًا ميناء اللاذقية، أن شكّلت بوابة لعبور الكبتاغون إلى الخليج عبر شحنات مموّهة.
وفي العلاقة بين الأمن والكبتاغون تم استخدام الكبتاغون داخل السجون، وأحيانًا في العمليات العسكرية، لإبقاء الجنود والمقاتلين في حالة يقظة وعدوانية، وتحوّلت المادة إلى أداة لضبط السلوك داخل المناطق الخارجة عن السيطرة أو الخاضعة لرقابة أمنية ضعيفة.
ثالثًا، بعد سقوط النظام المركزي – تشظي السوق وخصخصة الفساد:
مع تآكل سلطة الدولة وتراجع قدرة النظام على إدارة شبكاته، وُلدت مجموعات غير رسمية تولّت مهمة تصنيع وترويج الكبتاغون، سواء داخل مناطق المعارضة "سابقآ" أو مناطق الإدارة الذاتية شمالًا. كما أصبح الكبتاغون لا يُنتج فقط لأغراض التهريب، بل أصبح مادة شائعة بين الشباب السوري، خصوصًا في المخيمات والمناطق المحاصرة، كمصدر للطاقة أو الهروب الذهني من الواقع.
وفي ديناميكيات السوق بعد 2020 نرى وجود شبكات محلية في إدلب والباب والحسكة بدأت بتصنيع الكبتاغون بإمكانات محدودة، وغالبًا بجودة منخفضة لكن بأسعار زهيدة. ليكون الكبتاغون الرخيص متاحًا للمراهقين والعمال في ظروف اقتصادية قاسية، وغاب أي تدخل مؤسسي لتقويض انتشاره، كما وقد ظهرت مواد مشابهة تحتوي على نسب مختلفة من "فينثيلين" بعضها مغشوش، تسبّب بأعراض عصبية شديدة وارتفعت حالات التسمم.
إن انتشار الكبتاغون في سورية بعد انهيار سلطة الأسد لم يكن من فراغ، بل استثمرت فيه شبكات التهريب الدولية التي تنقل المادة من لبنان والأردن وتركيا، إضافة إلى الحدود المفتوحة والتراخي في الرقابة جعلت سورية نقطة تجميع وتوزيع إقليمي.
رابعًا، الآثار النفسية والاجتماعية والاقتصادية للكبتاغون:
١- التأثيرات النفسية:
- يسبب الكبتاغون نشاطًا عصبيًا مفرطًا، ويفاقم القلق، ويؤدي إلى ذهان متقطع في حالات الاستخدام المزمن.
- تظهر أعراض انسحاب صعبة تشمل الاكتئاب، والارتباك، والرغبة القهرية في التكرار.
٢- التأثيرات الاجتماعية:
- يعمل الكبتاغون على خلق دوائر انحراف شبابي، حيث يتم تداوله في الأحياء والمخيمات كعملة بديلة أو أداة لكسب الولاء.
- انتشر بين طلاب المدارس الثانوية، وبعضهم يستخدمه كمحفز للمذاكرة دون إدراك تبعاته النفسية.
- ينهار التواصل الأسري عند وجود مدمن كبتاغون، حيث تظهر عدوانية غير مبررة، وغياب للمسؤولية الاجتماعية.
٣- التأثيرات الاقتصادية:
- تحوّل الكبتاغون إلى اقتصاد موازٍ يعادل أحيانًا أرباح زراعة القمح أو الزيتون، مما جعله مصدر دخل لمجموعات محلية.
- تكلفة التعاطي الممتدة تستهلك قدرة الأسر الفقيرة، وتزيد من معدلات الجريمة.
- تفقد الدولة القدرة على ضبط السوق، وتُقوّض بنيتها القانونية والرقابية.
خامسًا، استراتيجيات التخلص من إرث المخدرات في سورية:
لاشك أن واقع المخدرات وعلى رأسها المخدرات في سورية داعية لدق ناقوس الخطر الاجتماعي، وبالتالي فإننا في مكتب شؤون الأسرة نقترح استراتيجية شاملة للتخلص من هذا الإرث السيء:
- تأسيس هيئة وطنية مستقلة لمكافحة المخدرات، مرتبطة بمجلس تشريعي رقابي وليس بالأجهزة الأمنية. وتعتمد على الخبراء في الطب، القانون، والاجتماع، وتعمل وفق خطط واقعية في ظل الدولة المفككة.
- إصلاح القانون السوري الخاص بالمخدرات، فالقانون الحالي يخلط بين التعاطي والإتجار، ويغيب فيه مفهوم التأهيل. كما يجب اعتماد نموذج يفرّق بين المستخدم كضحية والمتاجر كمجرم.
- بناء منظومة علاج وتأهيل في الداخل السوري، تشمل مراكز مجانية لعلاج المدمنين دون وصم. وبرامج إعادة اندماج للمجتمع، تشمل التدريب المهني والدعم النفسي.
- إطلاق حملات إعلامية تربوية، وينبغي أن تكون بلغة شبابية، مرئية، وتستخدم وسائل التواصل بفاعلية. إضافة لإشراك شخصيات مؤثرة وواقعية، بعيدًا عن النمط الوعظي.
- التعاون الإقليمي، فلا يمكن احتواء الكبتاغون دون تنسيق مع العراق ولبنان والأردن وتركيا، مع ضرورة إنشاء قاعدة بيانات مشتركة حول المواد والطرق المستخدمة في التهريب.
خاتمة:
الكبتاغون ليس مجرد مخدر؛ هو سردية عن السلطة، والانهيار، والاستغلال.
في سورية، تحوّل إلى مرآة تكشف هشاشة الدولة، وعبث النظام البائد بشعبه ومجتمعه للبقاء على عرشه المتهالك، والفراغ الذي ولّد اقتصادات بديلة لا تعترف بالقانون.
إن التخلص من إرث الكبتاغون يتطلب إرادة وطنية تتجاوز الخطاب الأمني، وتنتقل إلى خطاب العدالة والتعافي المجتمعي فما بعد الكبتاغون ليس مستقبلًا صحيًا فحسب، بل هو شرط ضروري لعودة المعنى إلى الحياة الوطنية.
قائمة المراجع:
- United Nations Office on Drugs and Crime (UNODC). (2022). Synthetic Drugs in the Middle East. Vienna: UNODC. متاح على الرابط: https://syntheticdrugs.unodc.org
- Hubbard, B. (2023, June 5). how Syria Became a Narco-State. The New York Times. متاح على الرابط: https://www.nytimes.com/2023/06/05/world/middleeast/syria-captagon-drug.html
- Chulov, M. & McKernan, B. (2022, July 5). Captagon: Inside Syria’s multi-billion dollar drug industry. The Guardian. متاح على الرابط: https://www.theguardian.com/world/2022/jul/05/captagon-inside-syria-billion-dollar-drug-industry
- BBC Arabic. (2023). الكبتاغون: من الحبة إلى الأزمة الإقليمية [تحقيق مصوّر]. متاح على الرابط: https://www.bbc.com/arabic/media-65921051
- United Nations Office on Drugs and Crime (UNODC). (2025, June). Captagon and Synthetic Drug Threat Assessment – Middle East Report. Vienna: UNODC.
- New Lines Institute. (2024). The Syrian Narco-State: An Investigation into Captagon Production and Trade. Washington DC: New Lines Institute for Strategy and Policy.
- Al-Quds Al-Arabi. (2025, May 21). سورية بعد الأسد: كشف 13 مصنعًا للكبتاغون ومصادرة ملايين الحبوب. متاح على الرابط: https://www.alquds.co.uk
- Wall Street Journal. (2022, December 14). Syria’s Drug Trade: How the Regime Profited from Captagon. متاح على الرابط: https://www.wsj.com
- AFP Factbook. (2023). Drug Smuggling Trends in Syria and the Gulf. Paris: Agence France-Presse.
- وزارة الداخلية السعودية. (2022). تقرير رسمي حول ضبط شحنات الكبتاغون خلال العام. الرياض: إدارة مكافحة المخدرات السعودية.
- وزارة الداخلية السورية المؤقتة. (2025, June). بيان مصادرة منشآت تصنيع الكبتاغون. دمشق.
- France 24 Arabic. (2023, October 9). الكبتاغون على حدود الأردن وسورية: تهديد أمني متصاعد. متاح على الرابط: https://www.france24.com/ar
- Institute for Global Affairs. (2024). Middle East Drug Economies in Conflict Zones: Syria Case Study. London.