مقدمة:
في الثالث عشر من تموز عام 2025، وقّعت الحكومة السورية الانتقالية اتفاقًا اقتصاديًا استراتيجيًا مع شركة "موانئ دبي العالمية"، بقيمة 800 مليون دولار، بهدف تطوير ميناء طرطوس وتحويله إلى مركز لوجستي صناعي يربط سورية بالأسواق الإقليمية والدولية.
وتضمنت الاتفاقية إنشاء محطة متعددة الأغراض، ومناطق حرة صناعية وتجارية، وموانئ جافة داخل البلاد، إضافة إلى تحسين البنية التحتية والخدمات المرافقة. هذا الاتفاق، الذي جاء بحضور رسمي للرئيس أحمد الشرع، يُعد خطوة محورية في جهود إعادة توطين سورية اقتصاديًا في المنطقة، بعد سنوات من العزلة والحصار نتيجة الصراع المستمر.
البعد الاقتصادي واللوجستي:
تمثل عملية تطوير ميناء طرطوس انعطافة حيوية في بنية الاقتصاد السوري، لما يشكّله الميناء من عقدة وصل بحرية بين أوروبا وآسيا، ولما يمتلكه من إمكانية إعادة تنشيط سلاسل الإمداد الإقليمية. ويشير الاتفاق إلى تحول من حالة الجمود الاقتصادي إلى منطق الاستثمار الاستراتيجي، لكن نجاح هذا التحول مرهون بعوامل متعددة، أهمها:
- جاهزية البنية المؤسسية المحلية لتنفيذ المشروع بكفاءة وشفافية.
- تضمين شروط عادلة في الاتفاقية تضمن توطين الوظائف واستفادة الموردين المحليين من الامتيازات اللوجستية.
- مواءمة المشروع مع خطط تنمية وطنية شاملة لا تقتصر على الساحل، بل تمتد لتربط طرطوس بالداخل السوري اقتصاديًا واجتماعيًا.
ومن الناحية اللوجستية، تتيح مرافئ دبي العالمية خبرة متقدمة في إدارة الموانئ الجافة ومراكز عبور البضائع، ما قد يُعزز موقع سورية كممر تجاري بين آسيا وأوروبا، ويُعيد لها دورًا إقليميًا فقدته خلال سنوات النزاع. البعد السيادي والقانوني:
غياب التفاصيل الدقيقة حول بنود الاتفاق، مثل مدة الامتياز، ونسبة الشراكة، وآليات فض النزاع، وحدود تدخل الشركة الإماراتية في إدارة الميناء، يثير تساؤلات مشروعة حول مدى احترام السيادة السورية على منشآتها الحيوية.
حيث إن تاريخ العقود الاستثمارية الكبرى في المنطقة، خصوصًا في حالات انتقال السلطة، يبرهن على أن ضعف التفاوض أو استثناء المؤسسات المحلية من المشهد قد ينتج عنه تفريط في الأصول الوطنية، أو خلق مسارات استثمارية موازية للدولة.
لذلك، فإن الاتفاق الحالي يُمثّل اختبارًا عمليًا لمدى قدرة الحكومة السورية الجديدة على تثبيت قواعد حوكمة رشيدة، واستعادة دور المؤسسات الرقابية، وتعزيز الشفافية في إدارة الشؤون الاقتصادية.
فأي تفريط في هذه العناصر قد يُقوّض شرعية الحكومة الانتقالية، ويُعيد إنتاج شبكات الزبائنية التي سادت في العهد السابق.
البعد الجيوسياسي وإعادة التموضع الإقليمي:
من الناحية الجيوسياسية، تطرح الاتفاقية تساؤلات مهمة حول إعادة تموضع سورية في الخارطة الإقليمية. فالتوجه نحو شراكة اقتصادية مع الإمارات، بدلًا من الحلفاء التقليديين زمن الأسد الأب والابن كروسيا أو إيران، يُشير إلى رغبة في تغيير الشراكات والتحرر من نمط الاصطفاف الأمني الصارم.
فالإمارات، بوصفها فاعلًا اقتصاديًا إقليميًا، تمتلك أدوات ناعمة للدخول إلى الساحات الانتقالية دون فرض أجندات مباشرة، مما يُتيح لسورية مساحة تفاوضية أوسع في رحلتها بترسيخ مؤسسات الدولة الحديثة بعيداً عن المحور الشرقي.
لكن في المقابل، فإن دخول رؤوس أموال خليجية إلى الاقتصاد السوري قد يُعيد إنتاج التفاوتات الاجتماعية إذا لم تكن مرفقة برؤية توزيع عادلة، وقد تفتح الباب لصراعات نفوذ داخل مؤسسات الدولة بين أطراف مختلفة.
ويبقى نجاح هذه الشراكة مرتبطًا بقدرة سورية على الحفاظ على استقلال قرارها الاقتصادي، وتحديد سقف التدخلات، دون الدخول في مسارات تُفقدها صلابة السيادة الوطنية.
التحديات البنيوية والفرص التنموية:
تواجه الاتفاقية جملة من التحديات البنيوية، أهمها هشاشة البنية المؤسسية التي تُعاني من آثار الحرب، ونقص الكفاءات الإدارية المتخصصة، وغياب هيئات رقابة اقتصادية مستقلة قادرة على متابعة تنفيذ الاتفاق ومحاسبة الجهات المنفذة.
ومن دون تجاوز هذه العقبات، فإن المشروع مهدد بالتحوّل إلى "امتياز فوقي"، يُدار عبر مكاتب مغلقة لا علاقة لها بحاجات الناس أو شروط العدالة.
وفي المقابل، يحمل المشروع فرصة لإعادة بناء العقد الاقتصادي والاجتماعي في سورية، إذا ما تم توظيفه بالشكل السليم، من خلال:
- ضمان توطين الوظائف وتوزيع العوائد بطريقة عادلة.
- إطلاق برامج تدريب مهني ونقل المعرفة الإدارية والتقنية للشباب السوري.
- دمج المشروع ضمن خطة تنمية وطنية تشمل مختلف المحافظات، بدلًا من حصره بالساحل.
- توسيع المساءلة العامة، ومشاركة الإعلام والهيئات المدنية في مراقبة التنفيذ.
تُصبح هذه الاتفاقية أكثر من مجرد مشروع بنية تحتية، بل تتحول إلى رافعة لبناء القدرات المحلية، وترسيخ سيادة القرار الاقتصادي، وتوطيد الثقة بين المواطن والدولة.
التوصيات الإستراتيجية:
استنادًا إلى مجمل التحليل، نقترح في المكتب الإقتصادي لـ تيار المستقبل السوري ما يلي:
- نشر نص الاتفاقية الكامل على الملأ، لإرساء مبدأ الشفافية ولتفادي أية تأويلات أو شائعات حول مضمونها.
- تشكيل لجنة وطنية مستقلة للرقابة، تضم خبراء من القطاعات الاقتصادية والبلديات والمجتمع المدني، تتولى متابعة تنفيذ المشروع، وتصدر تقارير دورية عن مدى التزام الأطراف ببنود الاتفاق.
- إصدار قانون خاص بالشراكات الاستثمارية الكبرى، يُنظّم العلاقة بين الحكومة والمستثمر الأجنبي، ويضمن احترام السيادة، ويضع ضوابط قانونية لفض النزاعات، ويحدد آجال الامتياز وشروط الانسحاب.
- إدماج مشروع تطوير ميناء طرطوس ضمن خطة اقتصادية وطنية شاملة، تتضمن ربط الساحل ببقية المحافظات، وتحفيز الصناعات المحلية، وتفعيل خطوط الإنتاج الداخلي في خدمة التجارة البحرية.
- تأمين تشغيل وتوظيف أبناء المنطقة في مختلف مراحل المشروع، وتحفيز الموردين المحليين، لضمان تشابك المشروع مع البنية الاجتماعية السورية، ومنع نشوء اقتصاد معزول أو نخبوي لا يخدم إلا أطرافًا محدودة.
- التنسيق مع الجهات الإماراتية لإنشاء برامج تدريبية ومهنية تستهدف الشباب السوري، من أجل بناء كوادر محلية قادرة على إدارة وتشغيل المرافق المستحدثة، وتجنّب الاعتماد الدائم على كفاءات خارجية.
- فتح المجال أمام المؤسسات الإعلامية والحقوقية لتغطية تطورات المشروع، وإتاحة المنصة للمواطنين للمساءلة والتعبير، بما يُرسخ ثقافة الرقابة المجتمعية ويعزز الثقة في التوجهات الاقتصادية الجديدة.
خاتمة:
إن الاتفاقية الموقّعة بين سورية وموانئ دبي العالمية تمثل لحظة فارقة في مسار إعادة تموضع سورية اقتصاديًا وسياسيًا، وتقدّم اختبارًا مبكرًا لمدى قدرة الحكومة الانتقالية على إدارة الملفات الحيوية ضمن رؤية تنموية متماسكة. ومن خلال ترسيخ قواعد الشراكة العادلة، وحماية الأصول الوطنية، وتفعيل المؤسسات الرقابية، يمكن لهذا المشروع أن يتحول من صفقة استثمارية إلى منارة لبناء نموذج اقتصادي جديد في سورية ما بعد النزاع.
وفي نهاية المطاف، ليست البنية التحتية وحدها هي التي تُعيد بناء الدولة، بل المنهجية التي تُدار بها، والموقع الذي يُعطى للمواطن فيها، والقدرة على تحويل الفرص إلى أسس لعقد اجتماعي–اقتصادي يعيد للسوريين ثقتهم في المستقبل.