تجربة "ربيع دمشق" وخريف "تماسك"

ربما لو أمكن بشار الأسد العودة للماضي لما اختار مسار إنهاء "ربيع دمشق" الذي كان السبب الأكبر للوصول نحو تأزم سياسي وطني مما هيئ المناخ السوري للثورة التي أنهت حكمه للأبد.

ولد "ربيع دمشق" بعد وفاة حافظ الأسد منتصف يوليو/تموز 2000، ومنذ بداية "ربيع دمشق" وحتى فبراير/شباط 2001 شهدت سورية تغيرات نسبية، مع وجود منسوب من حرية التعبير وإنشاء منتديات سياسية غير رسمية، حيث انتشرت منتديات أو صالونات سياسية غير رسمية، حتى لم تبق بلدة إلا ونادى مثقفوها بإنشاء صالون، ليبلغ عددها نحو 170 صالون ومنتدى.

ذاك الجو هو ما سمح بإصدار "بيان الـ 1000″ في يناير/كانون الثاني 2001، والذي نادى موقعوه بديمقراطية تعددية حزبية، ورفع حالة الطوارئ.

كما وصدر بيان آخر من جماعة من المحامين السوريين طالبوا فيه بمراجعة دستورية شاملة، وإلغاء القوانين والمحاكم الاستثنائية وإطلاق الحريات العامة.

كل ذاك الحراك كان داعياً لتكون سورية على السكة الصحيحة! فالسلطة آنذاك كانت متقبلة لحد ما ذاك الجو، مما أدى للقيام بسلسلة تدابير إصلاحية في الأشهر الأولى من تولي بشار الأسد سدة الحكم، أعقب ذلك إعلان عدد من قرارات العفو، وإطلاق سراح المئات من السجناء السياسيين بعد إغلاق سجن المزة في نوفمبر/تشرين الثاني 2001. 

وأخذ المثقفون ينشطون بالتشخيص واضعين يدهم على الجرح، لكن غلطة العمر لـِ بشار الأسد حين استمع لما قيل أنهم الحرس القديم، فما لبث أن تم إغلاق كل المنتديات بعد توقيف 10 معارضين، حيث اعتقل رياض سيف ورياض الترك ومأمون الحمصي وعارف دليلة مع آخرين، ووجهت إليهم تهمة "محاولة تغيير الدستور بوسائل غير مشروعة"، كما عمد الأسد لسلسلة اعتقالات واسعة، وزادت الرقابة الأمنية لينتهي "ربيع دمشق" خلال 7 أشهر، مما جعل منظمة "هيومن رايتس ووتش" تصف تلك الفترة وما لحقها، بـِ "العقد الضائع".

ومن الملفت للنظر أنه في منتصف أبريل/نيسان صدرت الوثيقة الثانية "للجان إحياء المجتمع المدني" بعنوان "توافقات وطنية عامة"، ليتلوها بيان جمع 185 مثقفاً تضامنوا فيها مع البيانات الصادرة داخل سورية، وطالبوا بإطلاق الحريات العامة، حيث ردَّ وزير الدفاع يومها مصطفى طلاس على البيانات قائلاً "إننا أصحاب حق، ولن نقبل بأن ينتزع أحد منا السلطة لأنها تنبع من فوهة بندقية ونحن أصحابها، لقد قمنا بحركات عسكرية متعددة، ودفعنا دماءنا من أجل السلطة"!.

حتى إذا جاء صيف 2002 أطلق الأسد حملة إعلامية إصلاحية، بالتزامن مع سلسلة اعتقالات لم تتوقف، مما أطفأ "ربيع دمشق" سريعاً، فخمدت الأصوات، وتفككت "حركة المعارضة".

 

عادت المعارضة بزخم أكبر، وذلك يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول 2005 لتطلق "إعلان دمشق"، وهو وثيقة وقعت عليها قوى سياسية وشخصيات مستقلة دعت في الإعلان إلى إنهاء حكم الأسد، وإقامة نظام ديمقراطي تعددي مع رفع حالة الطوارئ، وإلى "انتقال تدريجي وسلمي إلى الديمقراطية والمساواة بين جميع المواطنين في سوريا علمانية وذات سيادة"، وذلك في أول بيان ضد حكم الأسد مباشرة، وبسببه توحشت مخابرات الأسد لتعتقل الكثيرين، ومورست أشكال كثيرة من القمع، بدايةً من الاعتقالات القسرية والتعسفية، والمنع من السفر، ومنع التظاهر السلمي.. 

مما ألهب ذلك أزمة جديدة بداية عام 2011، فانطلقت الثورة السورية 2011 لتكون التجلي الأبرز لحالة إنهاء "ربيع دمشق" الذي كان استخدام الحل القمعي معه سبباً بدمار سورية وأفول سلطة آل الأسد.

 

وانطلاقاً من تلك التجربة، يمكن فهم سماح قيادة دمشق لاجتماع مجاميع وكيانات مشبوهة أغلبها النسب والانتساب والتحالفات، حيث أعلنت تيارات وأحزاب ومنظمات سياسية، السبت الماضي 2025/03/22م ، تشكيل جسم جديد في دمشق تحت مسمّى "تحالف المواطنة السورية المتساوية" (تماسُك)، وأطلقت بياناً تأسيسياً طالبت من خلاله بنظام "لامركزي" في سورية، والدعوة لمؤتمر وطني عام يستند إلى "روحية القرار 2254″، ومؤكدة التزامها ببناء دولة ديمقراطية مدنية تعددية، تقوم على المواطنة والعدالة والكرامة. 

كل ذلك جرى عبر بيان تأسيسي صدر عنها من وسط العاصمة دمشق.

حيث ضم التحالف السياسي الجديد 35 حزباً علمانياً، منها أحزاب كردية، كما أعلن عنه من دون نشر قائمة بهذه الأحزاب (فقط تسريبات)، ولم يحدد بيان إطلاق التحالف المختصر، ولا المداخلات خلال المؤتمر، ولا الخطوات القادمة لآليات عملهم ولا كيفية تواصلهم مع الشعب أو الدولة، وجاء التحالف تحت مسمى “تحالف المواطنة السورية المتساوية- تماسك” وتحت شعار “الدين لله والوطن للجميع”.

والغريب بالأمر أن هذه الأحزاب المشكِّلة للتحالف رفضت أن تسمي نفسها بالمعارضة أو بالموالاة، وأصرت أن دورها هو المشاركة في بناء سورية الجديدة ضمن قوالبها هيَ، هذا التناقض هو ما حدى بعد أقل من 24 ساعة على إعلان البيان التأسيسي لتحالف المواطنة السورية المتساوية (تماسك) لإنسحاب أحزاب (وما زال الانسحاب بازدياد)، فانسحبَ الحزب الشيوعي (إعتراضاً على القرار 2254 لأنه صناعة إمبريالية).

وانسحب الحزب السوري القومي (بسبب بنود متعلقة بحل القضية الكردية). 

كما صدر توضيح من رابطة الصحفيين السوريين أنها لم تشارك (شارك شخص بصفة شخصية فتمت إضافة الرابطة كاملة). في حين لم يصدر التحالف أي بيان أو تعليق بهذا الخصوص بل قامت إدارة الصفحة بالتعديل على المنشور وحذف أسماء المنسحبين.

ولا ندري بعد نشر هذا المقال مالذي سيحصل مع الباقين!!.

 

أخيراً، نرى موقفاً إيجابياً من الدولة السورية الوليدة بفتحها باب الحريات لاستمزاج رأي الشارع السوري برمّته، ودراسة حالة الأحزاب، وعلى أي قواعد وقواسم مشتركة تجتمع ، وبالمقابل بدل أن نجد "ربيع دمشق 2″ ينشط في دمشق، فإننا نجد نشاطاً سياسياً لكيانات مشبوهة معظمها ممن نشط زمن النظام البائد، وذات ارتباطاتٍ مريبة، ويكادون يشكلون لوناً واحداً أو طيفاً مشتركاً.

ولا يعني ذلك موقفاً سلبياً من هذا التجمع ابتداءً، بل من الجيد أن ينتقل السوريون نحو العمل السياسي العلني، وإنما هذا المقال لتسليط الضوء على أن المستفيد من تجربة ربيع دمشق ليس شرطاً ان يكون ربيعاً مثلَه، فربما كان خريفاً تتساقط أوراقه فتَعرَى أشجاره.

 

وهنا نجد أنه يجب فعلا اتخاذ خطوات مؤسسية وتشريعية وتنظيمية واضحة من الدولة السورية الجديدة، بعيدًا عن التأثيرات الخارجية المشبوهة أو النزعات الداخلية المدمرة، ويمكن تلخيص هذه الخطوات في النقاط التالية:

 

  1. إطار قانوني وتشريعي عادل ومنفتح:
  2. – وضع قانون أحزاب حديث يضمن التعددية الحقيقية ويمنع التدخلات الخارجية، مع حظر التمويل الأجنبي المشبوه.  
  3. – تفعيل دور القضاء المستقل في مراقبة المشهد الحزبي لمنع تسلل القوى غير الوطنية.  
  4. – وضع شروط وضوابط قانونية تحمي الأحزاب من الاختراقات المصلحية أو الطائفية أو الانفصالية.  
  5. ضمان بيئة سياسية صحية وتنافسية:
  6. – إلغاء الممارسات الإقصائية وتمكين الأحزاب من العمل بحرية وفق الدستور والقانون.  
  7. – تشجيع التيارات السياسية الوطنية على طرح برامج واضحة للحكم والاقتصاد والتنمية، بعيدًا عن الخطاب الأيديولوجي المتعصب أو التفتيتي.  
  8. – تعزيز الحياة البرلمانية وجعل الانتخابات البرلمانية والمحلية بوابة حقيقية لتقييم الأحزاب وفق قدرتها على تحقيق المصلحة الوطنية.  
  9. إصلاح الإعلام والخطاب السياسي: 
  10. – منع الخطاب التحريضي والتشويه المتعمد للأحزاب الوطنية لصالح أجندات مشبوهة.  
  11. – دعم الإعلام الوطني المستقل ليكون منصة حقيقية للحوار بين الأحزاب، بعيدًا عن الاستقطاب الأعمى أو الهيمنة الرسمية.  
  12. – توعية الشعب حول الفرق بين الأحزاب ذات الرؤية الوطنية وبين الكيانات المرتبطة بقوى خارجية تريد التحكم بمصير البلاد.  
  13. الشفافية والرقابة على التمويل السياسي  
  14. – إنشاء هيئة رقابة مستقلة لمتابعة تمويل الأحزاب ومنع أي تدفق مالي خارجي مشبوه.  
  15. – إلزام الأحزاب بنشر تقارير دورية عن مصادر تمويلها وكيفية إنفاقها لضمان نزاهة الحياة السياسية.  
  16. تعزيز المشاركة الشعبية والشبابية  
  17. – تسهيل انضمام الشباب والكفاءات الوطنية إلى العمل السياسي، بدلًا من تركه محتكرًا من قبل النخب القديمة أو القوى المتنفذة.  
  18. – دعم الأحزاب القائمة على البرامج الواقعية بدلًا من الشخصنة أو الشعارات الفارغة.  
  19. – إطلاق برامج وطنية لتشجيع التمكين السياسي للكوادر الوطنية في كل المحافظات والمناطق، دون تمييز أو إقصاء.  
  20. إعادة بناء الثقة بالمؤسسات السياسية  
  21. – تطهير المؤسسات من الفساد والتدخل الأمني في الحياة الحزبية لضمان حيوية المشهد السياسي.  
  22. – جعل العملية السياسية وسيلة للتغيير الحقيقي، وليس مجرد واجهة شكلية كما كان الحال سابقًا.  
  23. – تعزيز الدور الرقابي للمجتمع المدني في متابعة أداء الأحزاب لضمان بقائها ملتزمة بالمصالح الوطنية.  

 

بهذه الإجراءات وغيرها، يمكن للدولة السورية الجديدة أن تؤسس لحياة سياسية نظيفة، قائمة على التنافس الوطني الحقيقي بدلًا من أن تكون ساحة لتصفية الحسابات الداخلية أو تنفيذ أجندات خارجية.

المكتب السياسي

فريق البحث

قسم البحوث والدراسات

مقالات

تيار المستقبل السوري

 

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع