مقدمة:
شكّلت الثورات الشعبية محرّكًا رئيسيًا لتغيير الأنظمة الاستبدادية عبر التاريخ، بدءًا من ثورة المكابيّين ضد السلوقيّين في القرن الثاني قبل الميلاد، مروراً بثورة الفلاحين في إنجلترا وثورة ابن الأشعث وابن الزبير والحسين بتراثنا الإسلامي، وصولًا إلى الثورات الحديثة مثل الثورة الفرنسية (1789) والثورة الروسية (1917) وثورات الربيع العربي (2010-2011).
تلكم الثورات، رغم اختلاف سياقاتها، تشترك في سعيها لإسقاط أنظمة قمعية، لكن مصيرها بعد الانتصار يختلف جذريًا؛ فبعضها نجح في بناء دولة ديمقراطية (كالثورة الأمريكية 1776)، بينما أدى بعضها الآخر إلى فوضى أو ديكتاتورية جديدة (كالثورة الإيرانية 1979).
تجارب ثورية:
لنأخذ أربعة أمثلة على تحارب الثوارت المنتصرة:
- الثورة الفرنسية (1789–1799)
- – النجاحات: إسقاط النظام الإقطاعي، وإعلان حقوق الإنسان.
- – الإخفاقات: العنف المفرط (عهد الإرهاب)، ثم صعود نابليون كديكتاتور.
- – الأسباب: غياب رؤية سياسية موحدة، وتفكك التحالفات الثورية، بالإضافة للتدخلات الخارجية.
- الثورة الروسية (1917)
- – النجاحات: إنهاء حكم القيصر، وتوزيع الأراضي.
- – الإخفاقات: تحوّل النظام إلى استبداد ستاليني.
- – الأسباب: تركيز السلطة في حزب واحد، وقمع المعارضة.
- ثورة تونس (2010–2011)
- – النجاحات النسبية: انتقال ديمقراطي سلمي عبر الحوار الوطني.
- – التحديات: أزمات اقتصادية وبقاء النخب القديمة.
- – العوامل: دور المؤسسات العسكرية المحايدة، ومرونة النخب السياسية.
- الثورة الأمريكية (1776–1783)
- – النجاحات: تأسيس نظام جمهوري قائم على الدستور.
- – العوامل: وجود قيادة موحدة (جورج واشنطن)، وإطار مؤسسي واضح (دستور 1787).
ولعل مما سبق من تجارب عند دراستها بشكل أكثر عمقاً، يتبين لنا أن أسباب نجاح الثورات أو فشلها بعد الانتصار يعود إلى التالي:
أ. عوامل النجاح:
- القيادة الموحدة والمؤسساتية، كما في الثورة الأمريكية.
- الإصلاح الاقتصادي العاجل وتجنب السقوط في الفوضى كالحالة المصرية بعد 2011.
- التوافق الوطني، كتجربة جنوب إفريقية بعد الفصل العنصري (نيلسون مانديلا، 1994).
- الحيادية الأمنية، كدور الجيش التونسي في حماية الانتقال.
ب. عوامل الفشل:
- الفراغ السياسي، حيث يؤدي إلى صراعات داخلية كما في ليبيا.
- التدخل الخارجي، والذي يدمر السيادة الوطنية، كالحالة السورية منذ 2011.
- الانتقام من النظام السابق بشكل فوضوي بعيداً عن العدالة الانتقالية، فذلك يُعمّق الانقسامات، كما حدث في الثورة الفرنسية.
- غياب الرؤية الاقتصادية، والذي يؤدي إلى تفاقم الأزمات المعيشية، مما يغذي السخط.
الحالة السورية: ما بعد سقوط الاسد:
وسقط نظام الأسد، وكلنا يعيش تبعات تحديات جسيمة تشبه تجارب ثورات فشلت في تحقيق الاستقرار، ولأن معرفة المرض نصف العلاج، فإننا نُحدد هذه التحديات كي نبحث في تجاوزها.
- التحديات الرئيسية، وتتمثل بـ:
- – الانقسامات الطائفية والإثنية، والتي تحتاج إلى مصالحة وطنية وعدالة انتقالية كتجربة جنوب إفريقيا.
- – البنية التحتية المدمرة، وهذه تتطلب خطة إعمار بدعم دولي، مع تجنب التبعية الاقتصادية.
- – التدخلات الإقليمية والدولية، مثل إسرائيل وإيران وروسيا والتي قد تعيق بناء دولة مستقلة.
- – الجيوش الموازية، كالفصائل المسلحة التي قد ترفض نزع السلاح، أو تعود لحمله.
- عوامل النجاح المحتملة وتكون عبر:
- – إشراك جميع المكوّنات في الحكم، عبر دستور يرسخ التوافق الوطني (كما يقترح برهان غليون في "سوريا المستقبل").
- – دعم اقتصادي مع ضمان الشفافية، لتجنب الفساد الذي دمّر تجربة العراق بعد 2003.
- – محاسبة المجرمين دونما انتقام، كتجربة "لجنة الحقيقة والمصالحة" في جنوب إفريقيا.
- سيناريوهات الفشل، والتي تتمثل بـ:
- – تقسيم سورية بسبب التدخلات الخارجية والانقسامات الداخلية.
- – عودة الاستبداد، إن سيطرت نخب عسكرية أو طائفية على السلطة.
- – استمرار العنف إن فشلت عملية نزع السلاح.
السياق السوري وتعقيدات المرحلة الانتقالية، توصياتنا:
تعد سورية واحدة من أكثر الحالات تعقيدًا في تاريخ الثورات الحديثة، حيث خلَّفت الحرب بيننا وبين نظام الأسد (2011–2023) بنيةً اجتماعية ممزقة، واقتصادًا مدمرًا، ومؤسسات دولة منهكة.
ففي أي سيناريو افتراضي لمرحلة ما بعد سقوط النظام البائد، كان سيكون التحدي الأكبر هو تحقيق الانتقال من حالة الحرب إلى الدولة الديمقراطية الموحدة، مع تجنب مخاطر التقسيم أو عودة الاستبداد.
وعليه فإننا في المكتب السياسي لـِ تيار المستقبل السوري نقدم توصياتٍ حسبَ رؤيتنا ومنهجنا، والذي نراه السبيل الأنجح لتجاوز التحديات والاستفادة من تجارب الثورات السابقة، وعليه فإننا نوصي بما يأتي:
- المصالحة الوطنية كأساس للوحدة، وذلك عبر:
- – إنشاء "لجنة حقيقة ومصالحة" على غرار نموذج جنوب إفريقيا (1995)، لمعالجة جرائم الحرب دونما إثارة انتقامات عشوائية.
- – دمج المكونات الطائفية والإثنية في الحكم عبر نظام متوافق عليه يضمن تمثيلًا عادلًا للأكراد والعرب، بالإضافة إلى جملة من يُسمَّون بالأقليات على اختلافهم.
- – حظر الخطاب الطائفي في الإعلام والتعليم لبناء هوية وطنية جامعة
- إعادة بناء المؤسسات وتفكيك دولة الفساد، من خلال:
- – إصلاح القضاء وإنشاء محكمة دستورية مستقلة لضمان سيادة القانون.
- – تفكيك شبكات الفساد الاقتصادي، عبر إصلاح النظام المصرفي وشفافية الموازنة.
- – إعادة هيكلة الجهاز البيروقراطي باستبعاد العناصر المرتبطة بقمع النظام السابق، وتدريب كوادر جديدة.
- إصلاح القطاع الأمني ونزع السلاح، ويكون عبر:
- – دمج الميليشيات في جيش وطني موحد، مع ضمان تمثيل جميع المكونات.
- – جعل جميع الأجهزة الأمنية تابعة لوزارة الداخلية المدنية.
- – تدريب قوات أمنية محايدة بمساعدة دولية لضمان حماية المدنيين دون تحيُّز.
- التعافي الاقتصادي كشرط للاستقرار، وذلك عبر:
- – إطلاق "مشروع مارشال سوري" بتمويل دولي لإعادة بناء البنية التحتية، مع ربط المساعدات بالإصلاح السياسي.
- – إصلاح النظام الضريبي لتحقيق عدالة اجتماعية وتمويل الخدمات العامة.
- – دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة لامتصاص البطالة، خاصة بين الشباب.
- الحفاظ على السيادة ومواجهة التدخل الخارجي، وذلك عبر:
- – إعلان حيادية سورية في الصراعات الإقليمية لمنع تحولها إلى ساحة لتصفية الحسابات .
- – تفعيل الدبلوماسية الشعبية لبناء تحالفات دولية تدعم الانتقال دون شروط مُذلّة.
- – فرض قيود على الاستثمارات الأجنبية لحماية الموارد من النهب (مثال: تجربة العراق بعد 2003).
- تعزيز المشاركة السياسية عبر الإصلاح الانتخابي من خلال:
- – اعتماد نظام انتخابي نسبي لضمان تمثيل الأقليات.
- – تأسيس مجلس تشريعي انتقالي يمثل كل المحافظات حتى إجراء انتخابات حرة.
- – حماية حرية الأحزاب والنقابات عبر قانون يمنع احتكار السلطة.
الخاتمة:
إن تاريخ الثورات يُظهر أن الانتصار العسكري أو السياسي هو بداية المعركة الأصعب، فمعركة البناء في سورية، كحالة معقدة، تحتاج إلى نموذج انتقالي يجمع بين المصالحة والإصلاح المؤسسي، مستفيدين من أخطاء الثورات السابقة.
والنجاح لن يكون ممكنًا دون إرادة وطنية حقيقية، ودعم دولي غير مشروط، ورؤية تشاركية تُجنّب البلاد الوقوع في فخ "الديكتاتورية الجديدة".
وعليه، فإننا نرى في تيار المستقبل السوري أنه لا يمكن لسورية أن تنتقل إلى الديمقراطية دون عقد اجتماعي يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن، والدولة والمجتمع ويُبنى على:
- العدالة الانتقالية (محاسبة الرموز الفاسدة دون إقصاء جماعي).
- التوازن بين المركز والأطراف (مثلاً لا مركزية إدارية لا طائفية، أو ما اقترحناه في دراسة سابقة باللامركزية المشتركة، والمنشورة بموقعنا الرسمي بعنوان: المركزية واللامركزية والخيار الثالث بينهما" ).
- الشراكة الدولية المسؤولة (دعم دون وصاية).
إن التجارب التاريخية تُظهر أن الانتقال الناجح يتطلب صبرًا زمنيًا (10–15 سنة)، وإرادة سياسية، وتضحيات شعبية.
ومن هنا،ولما بعد عشر سنوات من الحرب، نستحق كسوريين فرصة لكتابة تاريخ جديد، وزمن مجيد يليق بحاضرنا نحن ومستقبل أبنائنا كذلك.
المكتب السياسي
فريق البحث
قسم البحوث والدراسات
دراسات
تيار المستقبل السوري
المراجع:
- غليون، برهان.
- (2012). سوريا المستقبل: من الثورة إلى الدولة. مركز الدراسات العربي.
- بشارة، عزمي. (2013). الانتقال الديمقراطي: الإشكاليات والتجارب. مركز دراسات الوحدة العربية.
- مناع، هيثم. (2014). الأمن والإرهاب في سوريا: من الدولة البعثية إلى الثورة. دار التنوير.
- فرزات، علي. (2016). الهوية السورية في ظل الثورة: التحديات والآفاق. المعهد الفرنسي للشرق الأدنى.
- Brinton, C. (1938). The Anatomy of Revolution. Vintage Books.
- Skocpol, T. (1979).
- States and Social Revolutions. Cambridge University Press.
- Goldstone, J. (2014). Revolutions: A Very Short Introduction. Oxford University Press.
- Arendt, H. (1963). On Revolution. Penguin Classics.
- Jebnoun, N. (2017). Modern Middle East Authoritarianism: Roots, Ramifications, and Crisis Routledge.