المكتب السياسيالمكتب العلميدراساتدراسات سياسيةقسم البحوث و الدراسات

اللامركزية

مقدمة:

تعريفات كما تقسيمات كثيرة لمصطلح “اللامركزية” تجعل الغوص في شروحها يحتاج دراسة مستقلة، لكن يمكن القول أن اللامركزية التي يتم قصدها بكل الحوارات التي ناقشناها مع الأطراف السورية ممن يتبنى فكرة طرحها، هي اعتبارهم أن اللامركزية مفهوم سياسي وإداري يشير إلى توزيع السلطة والصلاحيات بعيدًا عن مركز سياسي واحد (مثل الحكومة المركزية) وتفويضها إلى وحدات فرعية أو مستويات حكومية أدنى.

وبعبارة أخرى، هي عملية نقل بعض صلاحيات اتخاذ القرار والتنفيذ من المستوى الوطني إلى المستويات المحلية أو الإقليمية مع استمداد شرعية القرار من الكيان المركزي العام، وإلا أصبحنا نتكلم عن دول وليس مراكز متعددة ضمن دولة واحدة!

في هذه الدراسة نحاول تقديم قراءة هادئة لمفهوم اللامركزية حسب هذا التعريف، محاولين تجلية الموضوع مع فتح باب نقده لمزيد الاستفادة والإفادة، كما ونرحب هنا بكل رد يأتي لننشره في قسم البحوث والدراسات في تيار المستقبل السوري ليزيد القضية اشتباكاً معرفياً ومفاهيمياً مفيداً، فنحن لا نزعم احتكار الحقيقة ونؤمن بنسبيتها البشرية لهذا نحتاج دائما للاشتباك المعرفي ليخلصنا من تيه الصراع المفاهيمي.

حول اللامركزية:

عُقدت فعاليات مؤتمر المسار السوري الديمقراطي في العاصمة البلجيكية بروكسل، وسعى المشاركون لتوحيد الجهود وبناء مستقبل أفضل لسورية، بمشاركة ودعم مجلس سوريا الديمقراطية “مسد”، على مدار يومي 25 و26 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، وبمشاركة قوى سياسية ومدنية تضمّ حوالي خمسين منظمة ومائة شخصية مستقلة، من الداخل السوري والمهجر، وبحسب لجنة الإعداد والمتابعة للمؤتمر، فإن المؤتمر يهدف إلى تعزيز الجهود للوصول إلى حلٍّ سياسي وفق قرار مجلس الأمن رقم 2254، وبناء سورية حرة ديمقراطية لامركزية، وتطوير الجهود التي بذلتها مؤسسات المعارضة حتى الآن والتكامل معها.

وكان لذكر اللامركزية، إضافة لمشروع قسد بدعم هذا النظام، خلاف ظاهر وخفي بين السوريين حوله، مما يجعل الاقتراب من مقاربة مفهوم اللامركزية شائكا لمن لا يريد أن يغرق بمستنقع التحزبات والصراعات، ولكن، نحاول القراءة بعقلية باردة علنا نصل لتكوين صورة عامة شاملة تعيننا على تقريب وجهات النظر حول المسار الموحد للسوريين.
وبعد تحديد التعريف ندلف لتحديد الصفات والسمات لمعنى اللامركزية بحسب ما وجدنا من تقاطع التنظير السياسي والرغبة السورية المنادية باللامركزية، لنجد أن سمات اللامركزية:

  1. توزيع السلطة: يتم توزيع الصلاحيات والمسؤوليات بين مختلف المستويات الحكومية.
  2. زيادة المشاركة: تشجع اللامركزية على مشاركة المواطنين في عملية صنع القرار على المستوى المحلي.
  3. التنوع: تعكس اللامركزية التنوع الثقافي والاجتماعي للمجتمعات المحلية.
  4. الكفاءة: يُعتقد أن اللامركزية يمكن أن تؤدي إلى تحسين الكفاءة في تقديم الخدمات العامة.
  5. المرونة: تتيح اللامركزية للمجتمعات المحلية التكيف مع احتياجاتها الخاصة.

إذاً، وبحسب هذه السمات، سيكون من أهم الأسباب التي تدفع إلى تبني اللامركزية:

  1. تعزيز المشاركة الديمقراطية وتوفير الخدمات الحكومية من المواطنين.
  2. تلبية الاحتياجات المحلية المتنوعة وتعزيز التنمية المستدامة.
  3. الحوكمة الرشيدة، عبر تحسين الشفافية والمساءلة في إدارة الشؤون العامة.
  4. إدارة التنوع الثقافي والاجتماعي وحل النزاعات على المستوى المحلي.

ومن خلال نقاشات السوريين، وجدنا أنهم يتحدثون عن ثلاثة أنواع لِ اللامركزية:

  1. اللامركزية السياسية: نقل صلاحيات اتخاذ القرار السياسي إلى المستويات المحلية.
  2. اللامركزية الإدارية: نقل صلاحيات تنفيذ الخدمات العامة إلى المستويات المحلية.
  3. اللامركزية المالية: نقل الموارد المالية إلى المستويات المحلية.

وبحسب ما سبق، فإننا نرى أن هناك صعوبات وتحديات أمام تحقيق اللامركزية في سورية، ولعل أهم تلك التحديات:

  1. عدم توفر الكفاءة اللازمة للمؤسسات المحلية من أجل القيام بمسؤولياتها الجديدة.
  2. ممكن أن يؤدي ضعف الرقابة المركزية إلى انتشار الفساد في المستويات المحلية.
  3. عدم المساواة، والتي تخلقه اللامركزية حيث تؤدي إلى زيادة التفاوت بين المناطق الغنية والفقيرة.

ومما يجب ملاحظته أن اللامركزية مفهوم متطور يتغير مع مرور الوقت ويختلف تطبيقه من بلد إلى آخر. كما تختلف تطبيقات اللامركزية من بلد إلى آخر، فهي تتأثر بالعوامل التاريخية والثقافية والسياسية وحتى الدينية والعرقية.

بين المركزية واللامركزية:

المركزية واللامركزية نظامان إداريين مختلفان يتعلقان بتوزيع السلطة واتخاذ القرار في المؤسسات والحكومات، ولكل منهما مزاياه وعيوبه، وتعتمد اختيار النظام الأنسب على طبيعة المؤسسة وأهدافها وظروفها المحيطة.
فالمركزية نظام يتركز فيه اتخاذ القرار وصنع السياسات في يد سلطة مركزية واحدة، وعادة ما تكون الإدارة العليا.

الإيجابيات:

  1. وحدة القرار، وسهولة اتخاذ القرارات بسرعة وفعالية.
  2. التحكم وسهولة مراقبة الأداء وتقييمه.
  3. تسهيل التنسيق بين مختلف الأجزاء.
  4. توفير بيئة عمل أكثر استقرارًا.

السلبيات:

  1. زيادة الروتين والبيروقراطية.
  2. قلة المرونة وصعوبة التكيف مع التغيرات السريعة.
  3. تثبيط المبادرات والابتكار.
  4. يمكن أن يؤدي إلى عدم رضا الموظفين عن قلة مشاركتهم في صنع القرار.

إما اللامركزية فهي كما سبق نظام يوزع فيه اتخاذ القرار وصنع السياسات على مستويات مختلفة داخل المؤسسة، مما يمنح الوحدات الفرعية بعض الاستقلالية في اتخاذ القرارات المتعلقة بشؤونها.

الإيجابيات:

  1. المرونة، وسهولة التكيف مع التغيرات المحلية.
  2. تشجيع المبادرات والابتكار.
  3. زيادة رضا الموظفين عن المشاركة في صنع القرار.
  4. التخصص والتركيز على الاحتياجات المحلية.

السلبيات:

  1. التشتت وصعوبة تحقيق التجانس والوحدة في اتخاذ القرارات.
  2. تكرار الجهود المبذولة في مختلف الوحدات.
  3. صعوبة تنسيق الجهود بين مختلف الوحدات.
  4. عدم الكفاءة، إذ قد يؤدي إلى عدم كفاءة بعض الوحدات الفرعية.

هذا ويعتمد اختيار النظام الأنسب بينهما على عدة عوامل، منها:

  1. حجم المؤسسة: المؤسسات الصغيرة قد تكون أكثر ملاءمة للنظام المركزي، بينما المؤسسات الكبيرة المعقدة قد تحتاج إلى نظام لامركزي.
  2. طبيعة العمل: الأعمال التي تتطلب سرعة في اتخاذ القرارات قد تكون أكثر ملاءمة للنظام المركزي، بينما الأعمال التي تتطلب مرونة وتكيفًا مع الظروف المحلية قد تكون أكثر ملاءمة للنظام اللامركزي.
  3. ثقافة المؤسسة: المؤسسات التي تتميز بثقافة قوية ومتماسكة قد تكون أكثر ملاءمة للنظام المركزي، بينما المؤسسات التي تشجع على الاستقلالية والابتكار قد تكون أكثر ملاءمة للنظام اللامركزي.
  4. البيئة الخارجية: تتأثر اختيار النظام بالبيئة الخارجية التي تعمل فيها المؤسسة، مثل المنافسة والتغيرات التكنولوجية.

الواضح أنه لا يوجد نظام مثالي، ولكل نظام مزاياه وعيوبه، كما يمكن تطبيق مبادئ المركزية واللامركزية على مختلف المستويات، سواء كانت مؤسسات تجارية أو حكومية أو حتى مجتمعات، وغالبًا ما تتبنى المؤسسات الكبيرة نظامًا هجينًا يجمع بين المركزية واللامركزية، حيث يتم ترك بعض القرارات للمركز والبعض الآخر للوحدات الفرعية.

اللامركزية وتطبيقها:

بين دولة يتم انتقالها للامركزية ودول تجتمع بعقد لامركزي، يمكن تطبيق اللامركزية في كلا الحالتين، ولكل حالة خصوصيتها ومميزاتها:

  1. اللامركزية في بلد واحد:
    • غالبية الدول التي تطبق اللامركزية تقوم بذلك ضمن حدودها الجغرافية، ويكون أهدافها:
    • أ. تقريب الخدمات من المواطنين.
    • ب. تعزيز المشاركة الشعبية في صنع القرار.
    • جـ. تطوير المناطق المختلفة بشكل متوازن.
    • د. حماية التنوع الثقافي واللغوي.
    • هـ. تخفيف الضغط على الحكومة المركزية.
    • هناك العديد من الدول الأوروبية، مثل سويسرا وألمانيا، تعتبر نماذج ناجحة للامركزية داخل حدود دولة واحدة.
  2. اللامركزية بين عدة بلدان (الاتحادات):
    • يتمثل في تكوين اتحاد بين عدة دول، حيث تحتفظ كل دولة باستقلالها، ولكن يتم تجميع بعض الصلاحيات في مؤسسات اتحادية مشتركة. ومن أهداف ذلك:
      • أ. تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي.
      • ب. خلق سوق مشتركة.
      • جـ. توحيد السياسات في بعض المجالات (مثل السياسة الخارجية والدفاع).
      • د. حماية المصالح المشتركة.
      • والأمثلة على ذلك هي الاتحاد الأوروبي، الاتحاد الأفريقي.

العوامل المؤثرة على نجاح اللامركزية:

يبقى اختيار نظام اللامركزية مرتبطا بعدة عوامل يجب دراستها قبل الدعوة إليها، من ذلك:

  1. الاستعداد السياسي بمعنى وجود إرادة سياسية قوية لتطبيق اللامركزية.
  2. الوضع الاقتصادي المساعد عبر وجود موارد كافية لدعم الحكومات المحلية.
  3. التنوع الثقافي والاجتماعي مع قدرة النظام على التعامل مع التنوع.
  4. الشفافية والمساءلة، ووجود آليات واضحة للرقابة والمساءلة.

إن اختيار تطبيق اللامركزية داخل دولة أو بين عدة دول يعتمد على مجموعة من العوامل المتداخلة، ويجب دراسة كل حالة على حدة. فاللامركزية ليست وصفة سحرية، ولكنها أداة يمكن أن تساهم في تحقيق التنمية المستدامة والديمقراطية، إذا ما تم تطبيقها بشكل صحيح.

تحديات اللامركزية في سورية:

تواجه سورية تحديات كبيرة في تطبيق اللامركزية، وذلك بسبب الأزمة التي تعيشها منذ سنوات والانقسامات السياسية والاجتماعية. بعض التحديات الرئيسية التي نراها:

  1. الأزمة الحالية: تسببت الحرب الجارية في تدمير البنية التحتية للمؤسسات الحكومية، وتشتت السكان، وخلقت فجوات كبيرة بين المناطق. هذا الوضع يجعل من الصعب بناء مؤسسات محلية قوية قادرة على تحمل المسؤوليات الموكلة إليها.
  2. الانقسامات السياسية والاجتماعية: تعمقت الانقسامات السياسية والاجتماعية خلال سنوات الصراع، مما يجعل من الصعب تحقيق توافق حول شكل اللامركزية وتوزيع الصلاحيات.
  3. المخاوف الأمنية: تخشى بعض الأطراف من أن تؤدي اللامركزية إلى تقسيم البلاد وتقوية الأطراف الانفصالية.
  4. الوضع الاقتصادي المتردي: يواجه الاقتصاد السوري أزمة حادة، مما يحد من قدرة سلطات الأمر الواقع على توفير الموارد اللازمة لتطبيق اللامركزية.
  5. غياب الإدارة الفعالة: تفتقر العديد من المناطق إلى الإدارة الفعالة والكفاءات اللازمة لتولي المسؤوليات المحلية.
  6. الفساد: انتشر الفساد في مؤسسات سلطات الأمر الواقع كلها، مما يهدد بعرقلة جهود الإصلاح.
  7. التدخلات الخارجية: تتعرض سورية إلى تدخلات خارجية متعددة، مما يزيد من تعقيد المشهد السياسي ويجعل من الصعب اتخاذ قرارات مستقلة.

بالإضافة إلى هذه التحديات، هناك تحديات أخرى تتعلق بتطبيق اللامركزية بشكل عام، مثل:

  1. تحديد الصلاحيات التي ستمنح للمحافظات بشكل واضح، وتحديد العلاقة بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية.
  2. توزيع الموارد المالية والبشرية بشكل عادل بين المناطق المختلفة.
  3. بناء قدرات المؤسسات المحلية لتتمكن من القيام بمسؤولياتها.
  4. المشاركة المجتمعية المحلية في عملية صنع القرار.

ولكن رغم هذه التحديات، فإن تطبيق اللامركزية في سورية بهدف تحقيق الاستقرار والتنمية، ممكن، وذلك من خلال:

  1. بناء الثقة بين مختلف الأطراف المعنية.
  2. إجراء إصلاحات إدارية واسعة النطاق.
  3. مكافحة الفساد بكل الوسائل المتاحة.
  4. على المجتمع الدولي تقديم الدعم اللازم لعملية الانتقال السياسي.

إن تطبيق اللامركزية في سورية يتطلب جهدًا طويل الأمد وتعاونًا بين جميع الأطراف المعنية، كما أن على السوريين أن يتحملوا مسؤولية بناء مستقبل أفضل لبلدهم، وأن يعملوا معًا للتغلب على التحديات التي تواجههم.

خاتمة:

نرى السؤال حول ما إذا كان النظام المركزي أم اللامركزي هو الأنسب لسورية سؤال معقد، ولا يوجد جواب واحد ينطبق على جميع الظروف! فكل نظام له مزاياه وعيوبه، وتأثيره يعتمد على العديد من العوامل المتغيرة، مثل الوضع السياسي والأمني والاقتصادي والمجتمعي في البلاد.

ومن وجهة نظر البعض من الخبراء، فإن النظام اللامركزي قد يكون الحل الأنسب لسورية على المدى الطويل، وذلك للأسباب التالية:

  1. التنوع: يمكن للنظام اللامركزي أن يأخذ في الاعتبار التنوع الكبير في سورية، ويمنح كل منطقة قدرًا أكبر من الاستقلالية في إدارة شؤونها.
  2. المشاركة الشعبية: يشجع النظام اللامركزي على المشاركة الشعبية في صنع القرار، مما يعزز الشعور بالملكية لدى المواطنين.
  3. التنمية المحلية: يمكن للنظام اللامركزي أن يحفز التنمية المحلية، ويستثمر في الموارد المحلية.
  4. حل النزاعات: يمكن للنظام اللامركزي أن يساعد في حل النزاعات القائمة، من خلال منح المناطق المتنازع عليها قدرًا أكبر من الاستقلال.

ولكن يبقى الوضع السوري أنه لا وجود لحل سحري يُخلصنا من أزمتنا السورية! بل يجب على السوريين أن يتحاوروا ليصلوا إلى توافق حول مستقبل بلادهم، وأن يكون أي نظام سياسي جديد قائماً على مبادئ الديمقراطية والعدالة والمساواة، وأن يضمن حقوق جميع المواطنين، سواء كان مركزياً أو لامركزيا، مع ضرورة دراسة ايجابيات وسلبيات كل نظام على حده، ومحاولة تقديم ما يناسب الواقع السوري، وبما يعود بالنفع المطلق على سورية أرضاً وشعباً.

المكتب السياسي
فريق البحث
دراسات
قسم البحوث والدراسات
تيار المستقبل السوري

المراجع:

  1. بمشاركة “مسد”.. بدء فعاليات مؤتمر المسار السوري الديمقراطي في بروكسل.
  2. اللامركزية المغالطات والموجبات.
  3. اللامركزية الإدارية وبناء الدولة وليس الدويلات.
  4. تقييم تجارب تطبيق اللامركزية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
  5. سورية ونظام اللامركزية السياسية.
  6. اللامركزية الإدارية في لبنان ودورها في تطوّر الخدمة العامة والإنماء المتوازن.
  7. حول المركزية واللامركزية في سورية: بين النظرية والتطبيق.
  8. اللامركزية الادارية الموسعّة: تحدّيات وإمكانات.
  9. موقف جديد من النظام السوري تجاه اللامركزية.
  10. الإدارات اللامركزية بين التاريخ والواقع الراهن.
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى