بحوث ودراساتمكتب شؤون الأسرة

إنجابٌ في زمن الحروب

حين تسير في سورية اليوم، ترى وجع الحرب وتداعياتها وقد أحاطت بالشعب السوري كله من كل حدبٍ وصوب، حتى بات كل السوريين يعلمون أنهم في حالة حرب متواصلة ممتدة، حرب حقيقية يتجاوز نار رصاصها قتل أجسادهم، ليؤثر على اقتصادهم وتعليمهم ومعيشتهم، وواقعهم ككل.
وإذا ضيقنا الدائرة قليلاً من الوطن الكبير (سورية)، للوطن الصغير (العائلة)، فسوف نرى حجم المعاناة الحقيقية التي تعيشها كل الأسَر السورية! فمن جانب التعليم مثلاً وحسب الإحصائيات التي نقلها موقع “سوريا” في مقال بعنوان (خطورة واقع التعليم في الشمال السوري) فإن40% من المدارس تضررت بالحرب أو تم تحويلها لأمور أخرى كمَشافٍ وغيرها، ومع موجات النزوح الداخلية فقد ارتفع عدد الطلاب دونما ارتفاعٍ يُذكر لعدد المدارس بل تناقصها أحياناً لأسباب متعددة، كما أن انتشار المخيمات العشوائية البعيدة عن المدارس، وتدني أجور المعلمين بشكل كبير للغاية، إضافة إلى تدني الوضع الاقتصادي والفاقة، وفقدان الثقة بالتعليم المجاني، والذي إن سلّمنا بوجوده على حالهِ فإنه سيكون ضمن ظروف سيئة متخلفة، الأمر الذي اضطر أولياء أمور الطلاب للتوجه مرغمين في أحيان كثيرة نحو التعليم الخاص، كل ذلك كان له التأثير السلبي وما زال!
ولعل عدم قدرة الكثير من السوريين تحمل أعباء ومصاريف دراسة أبنائهم دفعهم للزج بأطفالهم ضمن سوق العمالة المبكرة، فحسب التقارير الإحصائية لوحدة تنسيق الدعم، فقد بلغت نسبة المتسربين عن مقاعد الدراسة نحو 65%، وازدادت في إدلب لتبلغ 69%، كما قالت وزارة التعليم الوطنية التركية، إن نحو 35% من الأطفال السوريين لا يتلقون التعليم في تركيا في العام الدراسي 2021- 2022. وكنسبة يمكن الوثوق بها إحصائياً فهو رقم مرعبٌ، خاصةً إذا علمنا أن من آثاره انخراط الاطفال في حداثة عمرهم ضمن الجبهات العسكرية كملاذ وحيد أمامهم، فتراهم ينتسبون إلى جهة عسكرية، أو يقبلون العمل كمرتزقة لدى الدول للمشاركة بالحرب في سورية أو خارجها حسب الجهة المشغّلة والممولة.
وأما في ميدان الصحة، فحال المستشفيات بشكل عامٍ يُرثى له، مع عدم وجود عددٍ كافٍ من الأطباء، إضافة إلى أحوال المشافي العامّة الرخيصة التي لا يخفى واقعها على السوريّين، والتي تتجنب الدخول في عمليات جراحية صعبة أو معقدة! وفي دراسة لمكتبنا العلمي في تيار المستقبل السوري بعنوان: “الواقع الصحي في سورية” يتضح حجم المعاناة الصحية، خاصة من ناحية عدد الأطباء، حيث يُقدّر عددهم بـ 1200 طبيب فقط، ففي محافظة إدلب شمال غربي سورية التي يسكنها نحو 2.8 مليون نسمة، يوجد فيها 56 مستشفى، و2000 سرير، و235 غرفة عمليات، و237 عناية فائقة، ويتوفر فيها 1500 طبيب.
كما أن مناطق الحسكة والرقة بحاجة إلى تدخُّل سريع لمواجهة النقص الشديد في الواقع الصحي، حيث لايوجد في المنطقة الممتدة بين تل أبيض ورأس العين سوى مستشفى عام واحد يحتوي على 18 سريراً، و3 غرف عمليات، و5 غرف عناية مشددة، و18 طبيباً فقط. لتكون العائلة أمام امتحان طلب معونة المجتمع نحو السفر خارجا للعلاج.
ومن الجانب الاقتصادي، وحسب دراسةٍ للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بعنوان: “الأزمة الاقتصادية في سورية أسبابها وتداعياتها واتجاهاتها”، فقد تسببت الأزمة الاقتصادية خلال الأشهر الأولى من عام 2020 في انهيارٍ متسارع في سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار، وارتفاعٍ عام في الأسعار أدى إلى دخول قرابة مليون ونصف المليون شخص إلى خانة فقدان الأمن الغذائي؛ إذ رفعت تقديرات الأمم المتحدة في برنامج الغذاء العالمي عدد من هم غير آمنين غذائيًا في سورية إلى 9.3 ملايين شخص، بينما كانت التقديرات في نهاية 2019 تشير إلى 7.9 ملايين شخص، وفي نهاية 2018 نحو 6.5 ملايين شخص لهذا أصبح السوريون بين نارين: نار البطالة والعيش على المساعدات – والتي سيتوقف هذا العام جلُّها-،
ونار العمل الذي لا يسدّ رمق عيش المواطن السوري، ولتكون الوجهة في الكثير من الأحيان إما نحو الجماعات المتطرفة، أو ميليشيات المخدارت، أو التوجه لبطن المحيط (أبو اليتامى) كما يمسيه السوريون.

إذاً، فالواقع يقول أننا نعيش حالةً مأساويةً كبيرةً، وهنا يأتي السؤال لماذا نورثها لأطفالنا؟
بمعنى لماذا نرى أن معدل الولادات في سورية بات كبيراً على حِمل العائلة وإمكاناتها؟ حيث تنقل صحيفة النهار بتاريخ 18/ 8 / 2022م، أنه بالتوازي مع كل حالة ولادة لبنانية، هناك 6 حالات ولادات سورية!.
ثم ما هي نتيجة كل تلكم الولادات!! ألم نرَ قبل أيام ذلك الصبي الذي فرمته آلة عملٍ حديديةٍ كبيرة! ألا نرى تلكم الفتيات اللواتي يلممن قوت يومهن من سلات القمامة، عدا عن الفساد المجتمعي الخفي والذي لا تُظهره عدسات الكميرات ولا إحصائيات مراكز الدراسات والأبحاث، لكننا نشعر به ونلمسه نحن من حالات الدعارة الخفية المخيفة، وحالات بيع الأعضاء السرية، وحالات تجارة المخدرات وتهريبه، أو الانتساب لجهات وجبهات عسكرية فاسدة، وغير ذلك كثير وكثير.

لاشك أن الواقع اليوم ليس هو لا يعكس حقيقة واقعنا كسوريين، فنحن مجتمع لا زال تميكنا فيه بعاداتنا وتقاليدنا وديننا هو ما يحفظنا من الانهيار الكامل! (وإن ذكرنا بعضاً من واقعنا المؤلم ضمن دراستنا هذا).
ففي استبيان عملنا عليه مدة شهر في تيار المستقبل، حيث شمل خمس مناطق سورية في الشمال السوري، ومنطقتين في ادلب، ومنطقة في شرق الفرات، وثلاث مناطق تخضع لسيطرة النظام السوري، ونتحفظ عن ذكر أسماء المناطق وأسماء المساعدين في هذا الاستبيان لضرورات أمنية، استهدفنا فيه العوائل الفقيرة، حيث بلغت 276 عائلة، ممن تجاوز عدد أطفالها 3 أطفال دون 18 سنة، إحدى تلكم العوائل كان ربّ الأسرة متزوجاً من 3 زوجات ولديه منهن 16 طفل كلهم دون الـ 18 سنة ويقطن بمخيم!.
طبعاً كان الاستبيان شخصياً، وكان مؤلفاً من سؤال واحد فقط: ما هو سبب إنجابك الأطفال في هذا زمن الحروب؟ وكانت النتيجة على النحو الآتي:
1- ضماناً للمستقبل وللشيخوخة 44%.

2- أقدار الله، وما نحن إلا أسباب، (قناعة دينية) 27%.

3- تكثيراً للنّسل وتقويةً لعدد العائلة (عادات وتقاليد) 18%.

4- لا إجابة، (دون رؤية) 11%.

إذاً، فحالة الحرب، وغياب الأمن من خلال غياب الدولة، وتفتت الوطن واستمرار النزوح فيه، وغيرها من الأمور، لم تكن سبباً ومانعاً لإنجاب الأطفال لديهم، (ونترك هذه النقطة بالتحديد للمختصين بعلم الاجتماع لتكوين دراسةٍ حول تلكم المفارقة العجيبة.
ونترك لأهل العلم من رجال الدين لنسمع فتواهم بقضية الإكثار من إنجاب الأطفال في ظل تلكم الظروف، وتركِ ذلك للقناعة الدينية!

لكن ومن جانب آخر، ما هي الحلول لمشكلة انجاب الأطفال غير المدروسة هذه؟
إن أولى الحلول هي إيقاف الحرب بأي وسيلةٍ كانت، والانتقال بسورية نحو حل سياسي وطني شامل في أسرع وقت، على أن يكون من أولويات الدولة الوطنية السورية الحديثة إخضاعَ جُلّ ميزانيتها لضمان حقوق الأطفال بالعيش الكريم، وضمان حق التعلم، ثم العمل.
وموازٍ لتلك الخطوة يأتي دور الدين، ورجال الدين في التوعية بحقوق الطفل، منذ اختيار الأم وما يأتي بعده من حقوق.
على أنّ نشر التوعية بحقوق الطفل لتشمل كل المناطق السورية، وبكل الوسائل الإعلامية الرسمية منها وغير الرسمية، وهذه مهمة الإعلاميين والناشطين، من خلال التشديد على أن (بناء عائلةٍ) في عصرنا، وإنجاب الأطفال لا يعد أمراً يُترك للأقدار وحسب! لكنه يحتاج دراسةً وتفكيراً وتدبيراً، وهو مسؤولية اجتماعية وقانونية ودينية وأخلاقية، وإلا فإن هؤلاء الأطفال سيكونون أكثر عرضة للتوجه نحو التطرف والفساد بكل أنواعه!
أخيراً، نوصي في تيار المستقبل السوري حسب رؤيتنا ومنهجنا أن يكون هناك مؤسسة سورية وطنية تُعنى بقضية الطفل، وتشمل كل المناطق السورية المختلفة، وتستجلب دعم الحواضن المجتمعية والدينية والانسانية المختلفة داخلياً وخارجياً، ونحن جاهزون في مكتب المرأة والطفل (مكتب الأسرة) أحد مكاتب تيار المستقبل السوري، أن نقدم كل التسهيلات المدنية والقانونية واللوجستية بما نملكه، خدمة لهذا المشروع الذي يهدف لما يلي:
1- توعية العوائل بحقوق الأطفال قبل الزواج والإنجاب.

2- البحث عن بدائل تعليمية وإرشادية للعوائل، إضافة للأطفال دون 18 سنة، والذين يعيشون بحالة سيئة تعليمياً واقتصادياً.

3- البحث عن مشاريع واقعية عبر استجلاب المفكرين، وعلماء الاجتماع السوريين، لإيجاد حلول اقتصادية وتفعيل دور ضمان الشيخوخة وغيرها من قضايا كانت السبب في إنجاب الأطفال بشكل مضر بهم وبمجتمعهم كذلك.

الباحثة: إيمان المحمد
مكتب الاسرة
تيار المستقبل السوري.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى