تيار المستقبل السوري والأستاذ جودت سعيد
في الذكرى السنوية الثانية لوفاته، أجزم أنني من القلائل الذين كانوا يشرفون بزيارة بيت الأستاذ الدكتور جودت سعيد رحمه الله في مدينة اسطنبول، وكنت حريصاً منذ السنوات الأولى لانطلاق الثورة السورية على مجالسته والاستماع له ومنه، وكنت أتعمد سؤاله حول مواضيع تحتاج منا قراراً في تيار المستقبل السوري، وكان رحمه الله يتعمد معي مبدأ رسم الخريطة وتحديد معالمها دونما إعطاء جوابٍ صريح مباشر، وكأني به يومئذ يريد منا أن نعمل حسب ما توجِّهنا له عقولنا وفهمنا للأحداث والمتغيرات (مع مراعاة عدم الخروج عن الإطار العام والذي كان يتميز به فكره وقلمه ومذهبه).
لم تكن علاقتي مع الدكتور جودت سعيد حديثةً أو وليدة الصدفة! فقد كان الفضل لوالدي الدكتور الشيخ إحسان بعدراني والذي كان يصحبنا لزيارته في بيته في قريته “بئر عجم”، ولطالما شهد منبر جامع المرابط في قلب العاصمة السورية دمشق، والذي يبعد أمتاراً عن بيت ومقر سكن رأس النظام السوري، وكرسيّ التدريس والوعظ في المسجد نفسه، صعود الدكتور جودت سعيد عليه بدعوة مباشرة من سماحة الوالد (خطيب ومدرّس جامع المرابط في حي المهاجرين بدمشق) على امتداد عقود، وكان يملك سحراً عجيباً يجذب إليه المستمع بتقاسيم وجهه وتعابير جسده، فلغة الجسد ولباسه المميز وعيونه التي تقدح فكراً وعزماً لا تكاد تخطئ المتابع له.
بقيت على تواصل معه رحمه الله بعد خروجنا من سورية عام ٢٠١١م، بشكلٍ مستمر، عن طريق ابنته العزيزة السيدة كوثر جودت سعيد إلى أن توفاه الله تعالى.
وقد حضرت العام الفائت ذكرى تأبينه في جمعية الشركس في اسطنبول وحظيت بلقاء أحبابه وأهله والحصول على بعض كتبه ومؤلفاته.
وهنا يسعدني أن أنقل ما قرأته عند صديقي الدكتور أمير ناشر النعم في صفحته على الفيس بوك، والتي أعتبر أنها تمثلني شخصياً، حيث قال:
” قال مرةً دوستويفسكي في رواية المراهق: “الشباب نقيٌ طاهرٌ لمجرد أنّه شباب”. وقد تحقّقت هذه المقولة في جودت سعيد في شبابه وكهولته وشيخوخته وإلى اللحظة التي أُعلِنت فيها وفاته في مدينة إسطنبول صباح الأحد 30 كانون الثاني/ يناير سنة 2022، فنعاه الناس في الشرق والغرب، وذكره طلابه ومحبوه الذين توزّعوا على مختلف التيارات والاتجاهات بألقاب كثيرة على رأسها: المعلّم، وداعية العلم والسلم، ومنظّر اللاعنف، ورائد النضال السلمي، والمربي الكبير، والمفكر الإسلامي، وغير ذلك من الألقاب والأوصاف، وكتب بعضهم، لكيلا يغتر الناس بتلك الأوصاف، عن انحرفاته الفكرية والعقدية وعن شذوذ بعض أطروحاته وضلالها، وتورّع قسم ثالث عن وصمه مباشرة بالكفر والضلال، ولكنه أورد بعض عباراته وأقواله مجتزأةً متسائلًا عنها تساؤلًا استنكاريًا، تاركًا مهمة التفسيق والتكفير لتعليقات قارئيه ومتابعيه، وكان كثير من هؤلاء يصرّحون بأنّهم لم يقرؤوا كتبه، ولم يلتقوا به شخصيًا، ولكنّ ذلك لم يمنعهم من نسج شرانق التشكيك به، ومِن حَثْو تراب تسخيف آرائه وأقواله بخفّة واستهتار فوق جثمانه المسجّى الذي أطبقت عليه للتوّ عين الردى.
لم ينلْ جودت سعيد في حياته الاعتراف الإيجابي من معظم المشايخ السوريين، فقد تجاهلوه من طرف، وبخسوه أفكاره ودعوته من طرف ثان، وقالوا: هو ليس رجل فكر، ولكنه رجل فكرة. فكرة لم يوافقوا عليها، ولم يتذوقوها، ولم يحاولوا فهمها ولا الاقتراب منها! لقد كانت الفروق بينه وبين بقية المشايخ فروقًا جوهرية، ولا سيما في الإيقاع! كان وجوده بينهم يحدث إرباكًا لا تخطئه العين ولا الأذن، فقد كان كضارب إيقاع أصمّ في فرقة موسيقية منسجمة ومتناغمة، يضرب آلته في سياقٍ خارج أداء الفرقة، ويستغرق في ذلك الضرب استغراقًا يخرجه من حدود وجوده فضلًا عن حدود الفرقة الموسيقية التي لا تستوعب على الإطلاق كيف يخرج هذا الخروج فيفسد صفاءها وانسجامها”.
رحم الله الاستاذ الدكتور جودت سعيد، وإننا في تيار المستقبل السوري ملتزمون نهجه ومنهجه العام كأحد مؤسسي نظرية “الإسلام اللاعنفي”.
مكتب الرئاسة
الدكتور زاهر بعدراني
رئيس تيار المستقبل السوري