الاسلام.. تطرف أم اعتدال؟
سيد قطب ومحمود محمد طه نموذجاً
مقدمة
لعل استخدام مصطلح “الوسطية” في الفكر الاسلامي ابتدئ مع قوله تعالى “وكذلك جعلناكم أمة وسطا” البقرة, 143([i]). إذ حسب أركون “حصل تاريخياً أن انبثقت في الاسلام نزعة إنسية ذات تلوين علماني وذلك في العصور الوسطى الأولى, ولكن هذه الإنسية أُجهضت بدأ من القرن الحادي عشر الميلادي لأسباب تاريخية .. وليس لأن الله قال.. فالفاعلون الاجتماعيون (أي البشر) هم الذين يقولون ذلك”([ii]), ولكن يمكننا الحديث أنه ومنذ بداية القرن العشرين بدأت الدعوات لاختيار منهج ومصطلح “الاعتدال والوسطية” عبر أساطين المدرسة الإصلاحية بدءاً من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده بالخصوص، وكان يحمل استخدام هذا المصطلح طابع التجديد مع المحافظة على الهوية الإسلامية ضد الهوية الغربية المستعمرة([iii]), ثم بعد مرحلة الاستقلال, وظهور الحكومات القومية لاحقاً, ومعها صعود الحركات الجهادية والتي انفلتت عن الطوق, ولم تكن على المثال السعودي مع “اخوان من أطاع الله”, خرجت دعوات “الاعتدال والوسطية” بشكل أكثر توسعاً, ودرجت حتى يمكننا اعتبارها وقد صارت مذهبا معاصراً, ليصبح هذا المذهب كما يبدو رداً على دعوات التكفير([iv]) ثم الجهاد والعنف والتطرف, وهنا يمكن فرز تلكم الدعوات ضمن مسربَين رئيسيين:
1- الحركة الاسلامية ومرحلة “الصحوة”, ومن أبرز شخصياتها محمد الغزالي, ولاحقا يوسف القرضاوي([v]).
2- موقف السلطات الرسمية([vi])والتي اختارت لنفسها تبني دعوات الاعتدال والوسطية لعدة أسباب منها:
أ- لمحاربة الحركات الجهادية([vii]).
ب- نفاقا للغرب أو خوفاً([viii]), وإلا فإن اختيار الاعتدال لم يكن عن قناعة, كما وليس دعما لفكر في مقابل فكر.
جـ- دفعاً عنها تهمة الإرهاب وفزّاعتهُ (دعماً أو تبشيراً به).
د- لبس عباءته ادعاءً وتستُّراً، بينما تدعم حواضن أخرى في الخفاء لغاياتٍ مختلفة.
المشكلة ليست بالتراث
أصبح هذا الواقع المُعقد بما يجمع من دعوات سلفية, وسلفية جهادية وصوفية ومعتدلة وثم سلطوية – إذا أغفلنا الجانب الشيعي لخصوصيته ومفارقته الحالة السنيَّة- كل ذلك أصبح عامل صراعٍ فكري وديني كبير، حتى أنه قسّم الناس بين ” معتدلين” و “متشددين” وحواضن للفريقين، وكل فريقٍ يزعم أنه يمثل الإسلام وحده، فترى المتطرفين منهم يستدلّون بأدلةٍ من الكتاب والسنة والتراث والتاريخ، والمعتدلون كذلك يستدلون أيضاً من الكتاب والسنة والتراث والتاريخ, وصار كل فريقٍ يريد أن يحصل على حصرية التحدث باسم الإسلام، بينما يرى غيره مخالفاً للحقيقة([ix]).
ولمعالجة هذه القضية سنأتي إلى المرتكزات ونفككها إلى ثلاث مستويات:
1- النص المقدس (الكتاب وصحيح السنة).
2- التراث الفقهي.
3- التجربة التاريخية (من زمن تولي الصِّديق وحتى انهيار الخلافة 1924م).
1- النص الديني
باستقراء للنص الديني فإنه يمكننا أخذ أدلة استند عليها المتطرفون, وأدلة استند عليها المعتدلون, يمكن أخذ مثال يتجلى فيه الاختلاف في المخرجات من النص الديني, وهو “التفرقة الممارساتية بين المسلمين وغيرهم”.
أ. القرآن, ونضرب على ذلك مثالاً واحداً للتوضيح فحسب، حيث يستدل المتشددون -المتطرفون- بقوله تعالى: )قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله( سورة الممتحنة:4, بالبراءة من كل من ليسوا المسلمين وبل معادتهم([x]), وقوله تعالى” )وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا( سورة النساء: 141. دليلاً على عدم جواز مشاركة غير المسلمين بالسلطة([xi]).
إن هذه الآيات وغيرها يمكن اعتبارها حجة دينية مقنعة للمتطرفين في عصرنا.
هذه الآيات وغيرها كثير، يستدل بها المتشددون في عصرنا على أنها حجة دينية لا مناص من التزامها.
بينما نرى المعتدلين والوسطيين يأولون آيات سورة النساء السابقة بما يُخرجها عن مدلولات المتشددين ومخرجاتهم([xii]).
ب. أما السنة النبوية من صحيحٍ أو متواتر, يمكننا هنا الوقوف عند بعض الأحاديث للاستشهاد، مثلاً حديث: “أخرجوا المشركين من جزيرة العرب” صحيح البخاري, وأحاديث “قتل المرتد”([xiii]) , وأحاديث سمل عيون العرنيين([xiv]), وغيرها مما يستدل به المتطرفون في ممارساتهم.
بينما ترى المعتدلين وهم يستدلون بقول النبي لأحد قادته: “فإذا قبلوا عقد الذمة فأعلمهم أن لهم ماللمسلمين وعليهم ماعلى المسلمين”([xv]), وبأحاديث اقتراح النبي اعطاء ثلث ثمار المدينة جزيةً لقبيلة غطفان لتركها حلف قريش يوم الخندق, وأيضا حادثة صلح الحديبية وغير ذلك مما يؤسسون له دينيا لمذهبهم.
2- التراث الفقهي:
لنأخذ مثالاً واحداً مُؤثراً في الحالة الوطنية: (التعامل مع غير المسلمين), فترى المتشددين يأخذون الفتاوى التي تمنع بناء الكنائس في بلاد المسلمين وتجديدها([xvi]), وفتاوى عدم جواز تولي غير المسلمين للحكم([xvii]).
وأما المعتدلون فستراهم يستدلون بقول من يقول من الفقهاء بجواز بناء الكنائس في بلاد المسلمين([xviii]), وجواز الاستعانة بغير المسلم بما دون الخلافة العظمى فقط, لأنها خلافة عن النبوة([xix]), ومع عدم وجودها بزمننا فكل المناصب يجوز لغير المسلمين توليها مادامت المصلحة تقبل بذلك.
3- التجربة التاريخية ( من تولي الصديق وإلى سقوط الخلافة).
يتفق كاتب الدراسة مع د. حسنى نصر بأن “الحضارة الاسلامية تميزت بالنزعة التاريخية”([xx]) ومن هنا سوف نرى المتطرفين أو المتشددين -لاينظر الباحث للفرق بين المصطلحين هنا- يستدلون مثلاً بقضية محاربة أبو بكر الصِّديق لمانعي الزكاة([xxi]), واستدلالهم بقضية خالد بن الوليد واتهام الفاروق عمر بن الخطاب له أن في سيفه رهقا([xxii]), وردُّ الصّديق أنَّه رهق على أعداء الله([xxiii]), وستراهم يستدلون بحادثة قتل الجعد بن درهم على جواز قتل المبتدعين([xxiv]).
بالمقابل فسترى المعتدلين وهم يستدلون بتعطيل عمر بن عبد العزيز للجهاد, وعدم أخذه الجزية ممن أسلم([xxv]), وتراهم يستدلون بموقف عمر بن الخطاب من خالد بن الوليد وعزله له, إضافة لمشاركة النصارى بجيش صلاح الدين([xxvi]) مثلا.
ليس هناك قطعٌ
في هذه الرحلة القصيرة يمكننا القول:
أولاً: كلا الخيارين “التطرف”و”الاعتدال” له سلف ودليل, بالتالي وبقراءة موضوعيَّة يمكننا الزعم أن الدِّين (نصا وفقها وتاريخا) ممتلئ بالاستشهادات لكلا الطرفين, وإذا نزعنا تحزباتنا وأسبقياتنا الفكرية, سنخلص إلى نتيجة مفادها: أنه لا يمكننا الحكم على متطرف بأنه متطرف ولا معتدلٍ بأنه مُتحلل, هذا لأن المُتطرف يزعم أنّه يُطبق دينه ويتبع تراثه ويُكمل تاريخه, ولأن المعتدل يرى نفسه كذلك, وفي الحالة الدينية سيكون المُرجِّح الوحيد هو صاحب الدِّين, أي الله جل جلاله, بما أن وصل السماء بالأرض انقطع مع وفاة رسول اللهr الذي كان يملك الحق الحصري بالتحدث عن الله جل جلاله, فإذا كان الترجيحُ يحتاج إلى مُرَجِّح خارجيِّ مقبول حُكمه, صعُب عندها ترجيح أي الخيارين هو المقصد الديني والفقهي المُنسجم مع التاريخ العضوي للأمة, وصار الأمر تبعاً لقناعات المسلمين واختياراتها.
بين سيد قطب ومحمود محمد طه
هنا يظهر المثال واضحا في أن الاعتدال والتشدد عبارة عن خيار بشري, وأنه لا يوجد قطع إلهي بترجيح أحدهما, من خلال شخصيتين شكّلتا حالة مشابهة في التأثير الفكري والتعامل الواقعي معهما:
1- سيد قطب:
سيد قطب تم اعدامه لأجل فكره -إضافة لمعارضته لجمال عبدالناصر- القائم على تكفير الأنظمة والشعوب, مع أنَّ خطاب سيِّد قطب أدبيٌ بلاغيّ, إلَّا أنَّ عموميَّة كلماته أعطت دلالة على تكفير المجتمع المسلم, مثل قوله: “عندما تستقر حقيقة لا إله إلا الله .. عندئذ فقط يبدأ هذا الدِّينُ في تقرير النُّظم, وفي سنِّ الشرائع.. إنَّهم حين يدعون النَّاس لإعادة إنشاء هذا الدِّين يجب أن يدعوهم أولاً إلى اعتناق العقيدة, حتى لو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين”([xxvii]).
ويصف سيِّد كلَّ ماحوله؛ حتَّى المساجدَ ومجالس العلم والذِّكر والَّدعوة أنَّها جاهلية, بتعميمٍ واضح, فيقول: ” نحن اليوم في جاهليَّة كالجاهليَّة الَّتي عاصرها الإسلام أو أظلم, كلُّ مافي حولنا جاهليَّة, تصوُّر النَّاس وعقائدهم وتقاليدهم وموارد ثقافتهم, فُنونهم وآدابهم, شرائعهم وقوانينهم, حتَّى الكثيرُ مما نحسبه ثقافةً إسلاميَّة ومراجعَ إسلاميَّة وفلسفة إسلاميَّة هو كذلك من صنع الجاهليَّة”([xxviii]).
2-محمود محمد طه
والذي أُعدم([xxix]) أيضاً لأجل فكره الذي قرر فيه أن الإسلام عبارة عن الحالة المكيَّة فقط, وهي التي تدعو للدين مُجرداً من كل شيء, وتدعو للفضائل والتسامح والعفو والتزكية.. وأما الحالة المدنية النبوية فهي تفاعلٌ مع الواقع لا يلزمنا, وهي نسخٌ استثنائي للحالة الأولى بسبب السياق التاريخي, فالحالة المكيّة هي أصل الإسلام, والتي نزلت فيها: “وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ”، “فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ”، حيث يرى طه أنّ مُتلقِي الرسالة النبوية كقريش قد رفضوا الدعوة وبل ناوؤوها بالحرب والعصيان، وتآمروا على حياة النبي نفسه بالقتل، حتى اضطرّوه إلى الهجرة، ومن هنا ظهرت الحاجة إلى آيات الفروع، وهي آيات الجهاد التي مثّلها “وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ”، ثم كان الحديث النبوي “أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألاّ لا إله إلا الله”. فآيات الفروع التي نزلت في المدينة، ونسخت آيات الأصول التي نزلت في مكة، قد نسختها نسخا مؤقّتا فرضه السياق التاريخي للقرن السابع الميلادي، بما لا يعني تعميمه إلى الأبد خارج ذاك السياق، ولذلك فإنّ زماننا بحسب طه هو زمان بعث آيات الأصول حيث “لا إكراه في الدين”, سمّى طه ذلك بـ”الرسالة الثانية من الإسلام”، وهي عنده الرسالة الأصل، وقد كتب مؤلّفا حمل الاسم نفسه([xxx]), حيث عالج في كتابه مواضيع تُجيب عن أسئلة طرحه, يتمظهر ذلك في عناوين الفصل الخامس في كتابه المثير للجدل والتي هي:
– الجهاد ليس أصلاً في الإسلام
– الرق ليس أصلاً في الإسلام
– الرأسمالية ليست أصلاً في الإسلام
– عدم المساواة بين الرجال والنساء ليس أصلاً في الإسلام
– تعدّد الزوجات ليس أصلاً في الإسلام
– الطلاق ليس أصلاً في الإسلام
– الحجاب ليس أصلاً في الإسلام
-المجتمع المنعزل رجاله عن نسائه ليس أصلاً في الإسلام
السؤال الآن هو: لماذا لم تنتشر فكرة محمود محمد طه وانتشرت لدى المسلمين أفكار سيد قطب, رحمها الله, والشخصيتان سقيا أفكارهما بدمائهما, فالفكرة سقطت مع سقوط الجسد, في مخالفة لقول غسان كنفاني أن الأجساد هي من تسقط لا الفكرة, لنعيد السؤال مرة أخرى: لماذا انتصرت فكرة سيد قطب على فكرة طه؟
قد يصح أن نقول أن التسويق من قبل الحركة الاسلامية (الصحوة) الذين امتلكوا مساحة شاسعة من العالم الاسلامي قد رجّح فكر سيد على فكر طه, ولكن هناك برأيي سببٌ آخر, وهو عدم قبول المخيال الاسلامي لفكرة نزع القداسة عن التراث, ورفض القطيعة مع مجمل السياق الاسلامي نصاً وسيرةً وخلافةً وتراثاً فقهياً وتاريخاً, وبالتالي سيصبح من لزوم فكرة محمود طه الانقطاع عن الهويَّة الاسلامية نحو العقلية النقدية المنفلتة غير المؤطرة([xxxi]), وبما أن المجتمع العلمي والثقافي بسبب الاستبداد السياسي لن يسمح تعدديَّةً فكريَّةً؛ سيكون اختيار الانغلاق على الذَّات واستجلاب حلول من الذات الاسلامية (نصاً أو تراثاً أوتاريخاً) هو الخيار الأكثر قبولاً للمسلمين, إذاً.. فالمسألة في أساسها عبارةٌ عن اختيار مصلحي!.
لماذا نختار الاعتدال والوسطية؟
نختارها لأننا نريد ذلك, نرى المصلحة([xxxii]) في ذلك, نجمع حولها المؤيدين بالحجة لذلك, وإلا فربما ننهزم أمام الدعوات المتطرفة لأسباب كثيرة منها:
1- محاربة الإسلام([xxxiii]).
2- التطرف ضد كل ماهو اسلامي([xxxiv]).
3- سجن العلماء خصوصا السلفيين منهم([xxxv]).
4- حالة الشعور بعقدة الدونيَّة, التي تسمح بتغلغل هذه الأفكار بالناس لتنتشر بينهم فكرة “الاستعلاء الديني”([xxxvi]), خصوصاً إذا دُعم كل ذلك بمتطرفين بالجانب الآخر([xxxvii]).
خاتمة
أختم بنقطتين:
النقطة الأولى: هي المثال الصارخ في فرنسا, من استخدام العلمانية فقط لمنع المسلمات من لبس الجلباب, لدرجة أن المدارس الفرنسية في المغرب منعت المسلمات في المغرب من دخول مدارسها إن لبسن الجلباب([xxxviii])!.
هذه الحالة سترى من يرد عليها من خلال النظرة العلمانية فقط, وسوف ترى من يدافع عنها من النظرة العلمانية فقط على اعتبار أن العلمانية اللائكية الفرنسية هي غيرها العلمانية الأمريكية مثلا, فالعلمانية الأمريكية في كل المجالات وفي الغالب ستكون محصورة في التعليم والسياسة وأمور هامشية بسيطة, أما في فرنسا ففاعلية العلمانية تمتد للشأن العام واللباس والحريات([xxxix]), إذاً, الأيدلوجية سواء كانت دينية أو لا دينية فهي سوف تعطي الدليل للشيء وضده, من هنا ضرورة استكمال توسيع النظر نحو منافذ أخرى غير أيدلوجية.
النقطة الثانية يجب الإقرار أولا أنَّ صاحب الدِّين حاجبٌ نفسه عنا([xl]), والله جل جلاله أو رسول عنه يخبرنا؛ هو الوحيد الذي يفصل بيننا جميعا, وفي حالة الحَجب هذه سيكون الزَّعم باحتكار الاسلام زعماً دون دليلٍ ولا حجةٍ من قِبل أيَّ تيارٍ كان, لهذا يمكننا القول مايلي:
– الاعتدال منهج وخيار عقليُّ وليس دينيّ, وهو أقرب لكونه خياراً شخصيّاً نرضاه, لأن البديل غير عقلي, أو غير مصلحيّ فيما نراه نحن كمجتمع أو أفراد.
حيث أنَّ قتل المُرتد في زمننا يستحيل تطبيقه مثلاً, أو حتى البوح به مع انتصار فكر الليبرالية والحرية الفردية وتقديسها وشيوع السوشيال ميديا المنفلتة من أي عقال.
– ينطلق حسن حنفي بأن “اليمين واليسار ليسا موقفين فكريين متمايزين بل هما أيضا اتجاهان في التفسير”([xli]) بمعنى أن الاعتدال عبارة عن قراءة ومنهج مشترك بين كل الأديان والتَّيارات الدينيَّة وبل غير الدينية, مثلها مثل التَّطرف.
– يمكن القول (كما أن المتشددون يتغذون ببعضهم, كذلك المعتدلون يتقوون ببعضهم).
– ضرورة التفكير خارج نطاق الدِّين حول أهمية الاعتدال حتى لو قلنا أن تلك النظرة هي من صُلب الدِّين, حتى يخرج لنا سؤال المرحلة: هل هناك مصلحة واقعية من التطرف أيَّاً كان, أم المصلحة بالاعتدال؟ هل العالم سيكون أكثر حرية وكرامة ورفاهية وعيشاً كريماً مع انتصار الدعوات المتطرفة؟, أم الاعتدال هو الدواء لكل الأمراض؟
– بتلك المنهجية نخرج من فكرة (الصراع الديني) بين الاعتدال والتشدد, والتي قد يغلب أحدها على الآخر بشكل نسبي, أو قد يخلق نوعاً من تشتيت وتفتيت الإسلام باعتباره ديناً عالمياً إلى أديان متعددة.
– لا شك أنَّ أيّ تصرفٍ بشريٍّ سيحُفه النَّقصُ سواء بالفكرة غير السويَّة والناضجة والكاملة, أو في التطبيق الذي قد يقُصر عن المثاليَّة, ولكن لحل معضلة مهاجمة الاعتدال بسلبياته, يجب وضع السلبيات للاعتدال ضمن جدولٍ مقابلٍ لسلبيات التطرف, وتبيين سبب الموازنة بينها, فسلبيات الديمقراطية من مشاركة الرعاع بالقرارت, ودخول الأموال السياسية لكسب الأصوات, لا تقاس أبداً بسلبيات الاستبداد والتغلب واحتكار فهم الدين والتحكم بالسلطة وكسر الارادة البشرية, ومن هنا تعتبر حكمةً قولُ القائل: “الديمقراطية أفضل خيار سيء!”([xlii]).
– ضرورة ألا يستغل المستبدون الاعتدالَ من باب النفاق ومحاربة الدِّين نفسه, فهذا سيُعتبر انتكاسةً حقيقية للاعتدال, بل يجب أن يكون الاعتدالً فكرة مثاليَّة تحكم ولا تُحكم, وبالتالي يحب على الاعتدال الحقيقي أن يكون عصياً على أن يكون مُتطرفا في ذاته معتدلا بالاسم!.
– من هنا وبحسب رؤية ومنهج تيار المستقبل السوري فإننا نوصي بضرورة أن يكون الاعتدال خياراً واقعياً مصلحياً يسحب البساط من تحت أقدام المتشددين أياً كانوا, وأن نمد يدنا كمسلمين نحو كل المعتدلين في كل الأطراف الدينية وغير الدينية, وأن نبتعد عن الصدام مع الذين اختاروا فكرة متطرفة بشكل ديني, لأنه قد يكون معتبراً ديانةً, وتوجيه النظر إلى الواقعية والمصلحة المعتبرة لنشتبك معهم عقلياً ومصلحياً وليس دينياً.
الباحث: جمعة محمد لهيب
قسم البحوث والدراسات
المكتب الديني
تيار المستقبل السوري
الهوامش:
[i] يرى حاج حمد أن الوسطية في الآية تدل على توسط مكاني جغرافي وليس فكري والجهاد مرتبط بالمكان وبالتالي يكون الجهاد فقط زمن الرسول ومابعده ليس جهادا, انظر: محمد أبو القاسم حاج حمد, الأزمة الفكرية الحضارية, في الواقع العربي الراهن, دار الهادي, بيروت, 2004م, 229.
[ii] محمد أركون, العلمنة والدين الاسلام المسيحية الغرب, دار الساقي, بيروت, ط3, 1996م, 41.
[iii] انظر: تشالز آدمز, الإسلام والتجديد في مصر, ترجمة عباس محمود العقاد, لجنة التأليف والترجمة والنشر, القاهرة, 1935, 24, 25., وانظر للافادة أيضا: مجلة العروة الوثقى, مقال: “لماذا صدرت الجريدة”, ص6..
[iv] يمكن الاستدلال على ذلك بكتاب “دعاة لا قضاة” الذي ألف باشراف مرشد الاخوان الثاني حسن الهضيبي, والذي كان ردا على تكفير أبو الاعلى المودودي لمن نطق بالشهادتين ولم يكمل باقي مخياله من الاسلام, انظر: دعاة لا قضاة ( الرد على المودودى) – اعتدال E3tidal
[v] انظر مثلاً كتابي القرضاوي: “الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف” و”الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط”.
[vi] يمكن الاستدلال بدعم السلطة للشيخ محمد متولي الشعراوي, ولتعيين وزير الأوقاف محمد حسين الذهبي, كما في سورية سيكون المثال واضحا مع دعم السلطة للمفتي الراحل أحمد كفتارو ومحمد سعيد رمضان البوطي.
[vii] نجد ذلك واضحا في كتاب “الجهاد في الاسلام” للبوطي, إضافة لكتابه “اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الاسلامية”.
[viii] تجلى ذلك بشكل واضح في سورية في دعم الحركات الصوفية مقابل تحجيم الحركات السلفية خوفا من تهمة دعم القاعدة بعد غزو العراق, حيث أن التصوف يعتبر جانبا دينيا معتدلا, ولو لم يكن في الحقيقة كذلك!.
[ix] لعل ذلك يكون واضحا مع محمد زاهد الكوثري(ت: 1952م) ونتاجه الصدامي مع السلفيين واللامذهبيين, وبالضفة الأخرى وإلى يومنا هذا مع العدناني والمقدسي والقنيبي وغيرهم..
[x] انظر لكتاب أبو محمد المقدسي “ملة ابراهيم ودعوة الأنبياء والمرسلين واساليب الطغاة في تمييعها وصرف الدعاة عنها”, منشور عبر المواقع السلفية الجهادية وهو غيرمطبوع.
[xi] انظر فتوى ابن باز حول ذلك: حكم الاستعانة بالكفار في مصلحة المسلمين (binbaz.org.sa)
[xii] روي هذا التأويل عن علي بن أبي طالب من طريق يسبع الحضرمي, ويبقى لرشيد رضا صاحب “المنار” تأويل لطيف مفاده أن الولاية بالدنيا والآخرة, ولكن بشروط لو تحققها الكافرون لتولوا بالدنيا, انظر: تفسير المنار, ج5, 466.
[xiii] مارواه مسلم في صحيحه: “وَالَّذِي لا إلَهَ غَيْرُهُ، لا يَحِلُّ دَمُ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسولُ اللهِ، إلَّا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ: التَّارِكُ الإسْلَامَ المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ.. الحديث”.
[xiv] في حديث الرهط العرنيين الذين قدموا عليه المدينة فاحتووهافقال لوخرجتم إلى ابلنا فأصبتم من ابوالها وألبانها ففعلوا, فصحوا فمالوا على الرعاء فقتلوهم واستاقوا الابل وارتدوا عن الاسلام فارسل لهم النبي r في آثارهم فأتي بهم فقطع أيديهم وارجلهم وسمل أعينهم وتركوا بالحرة حتى ماتوا, السلسة الصحيحة.
[xv] انظر: راشد الغنوشي, حقوق المواطنة, المعهد العالمي للفكر الاسلامي, 1993م 83.
[xvi] يقول القاضي تقيُّ الدِّين السُّبكي: “وقد أخَذ العلماء بقول ابن عبَّاس هذا، وجَعلوه – مع قولِ عُمَرَ وسكوتِ بقيَّة الصَّحابة – إجماعًا” انظر: فتاوى السبكي (2/391), وانظر دراسة السقاف في الدرر السنية: حكْمُ بِناء الكنائسِ والمعابد في الجَزيرة العربيَّة – الدرر السنية (dorar.net)
[xvii] ينقل القاضي عياض اجماع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر غير مسلم وأضاف “على أنه لو طرأ -للحاكم- عليه الكفر انعزل” انظر: شرح النووي على صحيح مسلم, 12, 229.
[xviii] فى الهامش لشهاب الدين أحمد الشلبى ” ص 280″ قال فى الفتاوى الصغرى : إذا أرادوا إحداث البيع والكنائس فى الأمصار يمنعون بالإجماع ، وأما فى السواد ذكر فى العشر والخراج أنهم يمنعون ، وفى الإجارات أنهم لا يمنعون, واختلف المشايخ فيه ، قال مشايخ بلخ : يمنع . وقال الفضلى ومشايخ بخارى : لا يمنع . وذكر السرخسى فى باب إجارة اسور والبيوت من شرح الإجارات : الأصح عندى أنهم يمنعون عن ذلك فى السواد . وذكر هو فى السير الكبير فقال : إن كانت قرية غالب أهلها أهل الذمة لا يمنعون ، وأما القرية التى سكنها المسلمون اختلف المشايخ فيها على نحو ما ذكرنا”. وسبق لدار الإفتاء المصرية فى عهد الدكتور نصر فريد واصل المفتى الأسبق إصدار فتوى عام 1999 ميلادية بجواز بناء الكنائس فى بلاد الإسلام؛ حيث جاء فيها: “أن الإسلام يعطى أهل الكتب السماوية نصرانية أو يهودية أو غيرهما الحرية الكاملة فى ممـارسة طقوسهم الدينية وإقامة معابدهم وتركهم وما يدينون، طالما أنهم لا يعادون الإسلام ولا يعينون عليه أحدًا”.
[xix] حقوق غير المسلمين في المجتمع.. قراءة في فكر القرضاوي | موقع الشيخ يوسف القرضاوي (al-qaradawi.net)
[xx] حسنى نصر, التاريخ الاسلامي في ضوء أسلمة المعرفة, مقال ضمن كتاب: “قضايا إشكالية في الفكر الاسلامي المعاصر مستخلصات أفكار ندوات ومحاضرات المعهد العالمي للفكر الاسلامي القاهرة 1986- 1996, محموعة باحثين, المعهد العالمي للفكر الاسلامي, 1997م, 229.
[xxi] انظر تأثير هذه الحالة على كتاب أبي الحسن الندوي “ردة ولا ابا بكر لها”.
[xxii] انظر القصة كاملة في: البداية والنهاية, ابن كثير, ج9, 462.
[xxiii] لابن تيمية تأويل مفيد في البحث حول شدة عمر ولين ابي بكر إذ يقول: “المتولي الكبير إذا كان خُلقه يميل إلى اللين، فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى الشدة؛ وإذا كان خلقه يميل إلى الشدة، فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى اللين؛ ليعتدل الأمر. ولهذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يؤثر استنابة خالد؛ وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يؤثر عزل خالد واستنابة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه؛ لأن خالدا كان شديدا كعمر بن الخطاب، وأبا عبيدة كان لينا كأبي بكر؛ وكان الأصلح لكل منهما أن يولي من ولاه؛ ليكون أمره معتدلا” انظر: مجموع الفتاوى, ج 28, 256
[xxiv] انظر مثلا كلام ابن عثيمين الذي كان يستدل به من نناقشه من مؤيدي القاعدة: الشيخ محمد بن صالح العثيمين-فتح رب البرية بتلخيص الحموية-08b-10 (alathar.net)
[xxv] انظر لاستدلال د. حبش حول ذلك: رسالة الجهاد من الغزو والفتح إلى الجيش الوطني, محمد حبش, نسخة الكترونية غير مطبوعة, 65.
[xxvi]انظر:شفيق جحا, المصور في التاريخ, ج6, 80.
[xxvii] سيِّد قُطب (1386هـ – 1966م), معالم في الطريق, دار الشروق, بيروت, ط6, 1399هـ \ 1979م, 33.
[xxviii] المصدر نفسه, 17.
[xxix] حكم بالاعدام مرتين, أُعدم في آخرهما في يناير 1985 في أواخر عهد الرئيس جعفر نميري. عُرف بين أتباعه ومحبيه بلقب (الأستاذ). ما زال الحزب الجمهوري ينشر فكره.
[xxx] لمطالعة فكرته المثيرة انظر كتابه: محمود محمد طه, الرسالة الثانية من الاسلام.
[xxxi] ويصح أن نقول ذلك على مدرسة القرآنيين مثل محمد شحرور وغيره.
[xxxii] يذهب الريسوني بعيداً ويعتبر (الشريعة مصلحة, والمصلحة شريعة) ويؤصل لذلك بشكل لافت, انظر: أحمد الريسوني و محمد باروت, الاجتهاد النص الواقع المصلحة, دار الفكر, دمشق, 2000م, 29.
[xxxiii] يتجلى ذلك بكتاب “صراع الحضارات” The Clash of Civilizations, للكاتب الأمريكي صاموئيل هنتغتون, الذي كان مخططا أمنيا للرئيس الأمريكي جيمي كارتر, حيث قرر أنه وبعد الحرب الباردة ستنتقل الحرب من القومية إلى الثقاقية, ورجح الثقافة الاسلامية التي اعتبرها ذات حدود دموية.
[xxxiv] واسلامي اسلامي أيضا, مثل الجماعات الشيعية المتطرفة التي تشد عصب الجماعات السنية المتطرفة وبالعكس.
[xxxv] انظر مثلا كيفية تأثير سجن العلماء ببيان هيئة العلماء المسلمين: “علماء المسلمين” يطالب بالإفراج فورًا عن كل المظلومين بسجون “الطغاة العرب” – علامات أونلاين (alamatonline.com)
[xxxvi] انظر مثلا الخطب المفرغة للشيخ القطان: التفريغ النصي – الاستعلاء الإيماني – للشيخ أحمد القطان (islamweb.net)
[xxxvii] خلُصت الشبكة السوريَّة لحقوق الإنسان, إلى تقديرِ أعداد الميليشيات الشيعيَّة غير السوريَّة المُقاتلة في سوريا, بما لا يَقل عن 35 ألف مقاتل، قبل الانسحابات, نتيجة الأحداث الأخيرة في العراق منذ 10 حزيران 2014م، وينتمي أغلبهم إلى العراق ولبنان وإيران وأفغانستان، حسب الترتيب, انظر: : الشبكة السورية لحقوق الإنسان, الميليشيات الشيعية في سورية, 5 \ 7 \ 2014م, تم أخذ الخبر بتاريخ: 20 \ 7 \ 2022م, https://snhr.org/.
[xxxviii] على نهج المدارس الفرنسية.. مؤسسة التعليم العالي الخاص HEM تمنع طلبتها من ارتداء الجلباب المغربي – الصحيفة (assahifa.com)
[xxxix] يفكك هذه الفروق كورو في أطروحته للدكتوراه والتي تم طبعها, انظر: أحمد ت كورو, العلمانية وسياسة الدولة تجاه الدين الولايات المتحدة فرنسا تركيا, الشبكة العربية للأبحاث والنشر, 2009م, 73 ومابعدها.
[xl] للدكتور عدنان ابراهيم خطبتين حول هذه القضية بعنوان “مشكلة احتجاب الله ذاتا وأفعالا”, انظر: مشكلة احتجاب الله ذاتا وأفعالا – ج1 | د. عدنان إبراهيم – Bing video
[xli] يرى حنفي أن اليمين واليسار ليسا موقفا سياسيا, بل موقفان من المعرفة كلها والمواقف العملية الحياتية, انظر: حسن حنفي, اليمين واليسار في الفكر الديني, دار علاء الدين, دمشق, 1996م, 6.
[xlii] النص منسوب لهنري كسينجر.