هل تنجح سورية في تنفيذ اشتراطات إلغاء عقوبات قانون قيصر؟

مقدمة:

يمثل التصويت الأخير لمجلس النواب الأمريكي لإلغاء "قانون قيصر" ضمن حزمة تفويض الدفاع الوطني لعام 2026م، نقطة تحول تاريخية في العلاقة بين واشنطن ودمشق.
يأتي هذا الإجراء بعد عام من التغيرات الجذرية في المشهد السوري، والتي شملت الإطاحة بنظام بشار الأسد وتشكيل حكومة انتقالية بقيادة أحمد الشرع.
ومع ذلك، فإن عملية الإلغاء ليست مُطلقة، بل هي مسار مشروط وآلي يرتبط بتحقيق دمشق لجملة من المتطلبات السياسية والأمنية والاقتصادية على مدى أربع سنوات.
تسعى هذه الورقة إلى تحليل قدرة الحكومة السورية الجديدة على الوفاء بهذه الاشتراطات، مع التركيز بشكل خاص على الأبعاد الاقتصادية والسياسية.

تستند الدراسة إلى تحليل السياق الراهن، والإنجازات الأولية، والتحديات البنيوية العميقة التي ستحدد مدى نجاح سورية في استغلال فرصة رفع العقوبات للانتقال من اقتصاد محاصر ومعزول إلى اقتصاد منفتح وقادر على إعادة الإعمار والاندماج في النظامين المالي والتجاري العالميين.

الجانب الاقتصادي، بين فرص الانتعاش والعوائق البنيوية:

يرتبط رفع عقوبات "قانون قيصر" بشرط تعزيز الشفافية المالية ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ويمثل الوفاء بهذا الشرط بوابة للانتعاش الاقتصادي، ولكنه يكشف في الوقت ذاته عن حجم التحديات.

فرص ومكاسب رفع العقوبات:
يُتوقع أن يؤدي الإلغاء إلى تحويلات إيجابية فورية ومتوسطة المدى على الاقتصاد السوري، أبرزها:

  • إعادة الاندماج المالي العالمي: حيث سيسمح بربط النظام المصرفي السوري بشبكة "سويفت" العالمية مجدداً، مما يسهل التحويلات المالية، واستيراد السلع الأساسية، ويفتح الباب أمام التمويل الخارجي.
  • تحفيز الاستثمار والتمويل: فمن المتوقع أن يؤدي زوال خطر العقوبات الثانوية إلى جذب استثمارات أجنبية، حيث بلغت الاتفاقيات والمذكرات الموقعة قيماً أولية تُقدر بـ 28 مليار دولار. كما سيمكن رفع العقوبات سورية من العودة للتعامل مع مؤسسات التمويل الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين.
  • انتعاش القطاعات الإنتاجية: سيتيح رفع الحظر وصول القطاعات الصناعية والزراعية إلى التكنولوجيا وقطع الغيار والمعدات الحديثة، مما يسمح بإعادة تشغيل المنشآت المعطلة.

كما سيشهد قطاعا النقل والطيران والنفط والغاز تحسناً ملحوظاً.

التحديات البنيوية والاشتراطات:
رغم هذه الفرص، فإن الطريق نحو تعاف حقيقي محفوف بتحديات هيكلية تجعل استيفاء الشروط الأمريكية أمراً معقداً:

  • أزمة النظام المصرفي والشفافية: حيث يعاني القطاع المصرفي من آثار العزلة الطويلة، وضعف البيانات المالية الرسمية، ومشاكل الحوكمة والفساد الموروثة.
    لهذا فإن بناء نظام مالي شفاف يتطلب إصلاحاً جذرياً يتضمن استقلالية البنك المركزي، وتبسيط القوانين، ووضع آليات رقابية صارمة لمكافحة الفساد.
  • الاعتماد على الاستيراد وضعف الإنتاج: فلا يزال الاقتصاد يعاني من عجز تجاري هيكلي بسبب ضعف الصادرات واعتماده الكبير على الواردات، بينما تبلغ القدرة الإنتاجية مستويات متدنية.
  • محدودية أثر رفع العقوبات دون إصلاح داخلي: حيث يحذر الخبراء من أن رفع العقوبات وحده، دون إصلاحات مؤسسية مصاحبة، قد لا يحقق النتائج المرجوة وقد يحول الفرصة إلى "فرصة ضائعة" تعيد إنتاج دوار التهميش والفساد.

فالاستثمارات تحتاج إلى بيئة تشريعية مستقرة وبنية تحتية مادية وقانونية سليمة.

الفرص الاقتصادية لرفع العقوبات والتحديات المرتبطة بها:

  • الفرصة: إعادة الاندماج في النظام المالي العالمي.
  • التحدي المرتبط: ضرورة إصلاح النظام المصرفي وبناء الشفافية المالية لمكافحة غسل الأموال (شرط أمريكي رئيسي).
  • الفرصة: جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
  • التحدي المرتبط: الحاجة إلى تحديث القوانين، وضمان الاستقرار، ومكافحة الفساد لخلق بيئة جاذبة.
  • الفرصة: انتعاش القطاعات الإنتاجية (الصناعة، الزراعة).
  • التحدي المرتبط: ضعف البنية التحتية واعتماد البلاد الهيكلي على الاستيراد.

الجانب السياسي، اشتراطات ذات أبعاد سيادية وأمنية:

تتركز الاشتراطات السياسية والأمنية المرتبطة بإلغاء "قانون قيصر" على نقاط حساسة تمس السيادة والداخل السوري بشكل مباشر، وتتطلب من الحكومة الجديدة تحقيق توازنات معقدة.

الاشتراطات الرئيسية وتقييم القدرة على التنفيذ:

  • مكافحة الإرهاب وإخراج المقاتلين الأجانب: حيث يُطلب من سورية مواصلة الحرب ضد تنظيم داعش، وإبعاد المقاتلين الأجانب عن المناصب الحساسة، وقد أظهرت الحكومة إرادة وإدارة في هذا الملف من خلال عمليات أمنية مشتركة مع الولايات المتحدة ضد خلايا التنظيم، وعمليات داخلية ضد فلول النظام السابق المرتبطة بتجارة المخدرات.
    ومع ذلك، يبقى ملف "المقاتلين الأجانب"، وخصوصاً أولئك المرتبطين بحلفاء سابقين، ملفاً شائكاً يتطلب حلاً طويل الأمد.
  • ضمان حقوق الأقليات وتمثيلها: يشترط القانون احترام حقوق المكونات الإثنية والدينية وضمان تمثيلها العادل في مؤسسات الحكم، وقد اتخذت خطوات أولى في هذا الاتجاه عبر الانتخابات التشريعية الأخيرة التي دخل فيها نواب من الأكراد والتركمان والأقليات الدينية إلى المجلس، إلا أن ترجمة هذا التمثيل الشكلي إلى مشاركة حقيقية في السلطة وحماية فعلية للحقوق يظل تحدياً كبيراً.
  • تنفيذ الاتفاقات السياسية الداخلية (اتفاق 10 آذار مع "قسد"): فيُشترط تحقيق تقدم في تنفيذ الاتفاق الذي أقرت بموجبه "قوات سوريا الديمقراطية" بوحدة الأراضي السورية وبالحكومة الحالية، ويبقى العائق الأكبر هو عدم التوصل لآلية واضحة لدمج قوات "قسد" في الجيش السوري، وهو ما يجعل الاتفاق هشاً وقابلاً للانتكاس مع تغير الموازين الإقليمية.
  • الامتناع عن العمليات العسكرية الأحادية ضد الجوار (بما فيه إسرائيل) حيث يفرض هذا الشرط قيوداً على السيادة العسكرية للسورية، ويفرض عليها بشكل غير مباشر دوراً في حماية أمن إسرائيل، رغم استمرار الهجمات الإسرائيلية على أراضيها، ويقيد هذا الشرط حرية الحركة العسكرية السورية ويعكس هيمنة سياسية أمريكية على ملف الأمن الإقليمي.

طبيعة المسار وآلية المراقبة:

تكمن تعقيدات المسار في كونه "تعليقاً مشروطاً" وليس إلغاءً كاملاً وغير قابل للتراجع!!
فبموجب القانون، يجب على البيت الأبيض تقديم تقارير دورية كل 180 يوماً لمدة أربع سنوات، مع الاحتفاظ بالحق في إعادة فرض العقوبات إذا ما رأى أن سورية فشلت في الوفاء بالشروط خلال فترتي تقرير متتاليتين.
وهذه الآلية تجعل الاستثمار والانتعاش الاقتصادي رهناً باستمرارية التقدم السياسي، وتخلق حالة من عدم اليقين قد تثني بعض المستثمرين.

الخلاصة والتوصيات:

تشير الأدلة إلى أن الحكومة السورية الجديدة حققت تقدماً أولياً ملحوظاً على الصعيدين الاقتصادي والسياسي يؤهلها للبدء في مسار رفع العقوبات.
فقد أعادت بعض الاستقرار الأمني في المدن الكبرى، وحسنت الخدمات الأساسية كالكهرباء، وفتحت قنوات اتصال مع المجتمع الدولي.
كما أن الإرادة السياسية الأمريكية بقيادة إدارة ترامب لدعم هذا المسار تبدو واضحة.

إلا أن التحديات البنيوية تظل جسيمة، وفرص النجاح الاقتصادي مرهونة بإصلاحات مؤسسية جذرية، ونجاح المسار السياسي رهن بقدرة النظام على استيعاب المكونات المختلفة وفرض سيطرته على كامل التراب الوطني، لا سيما عبر حل ملف "قسد".
وعليه فإننا نرى أن الطبيعة المشروطة والمرحلية لرفع العقوبات تجعلها أداة ضغط مستمرة في يد واشنطن.

وبناءً على هذا التحليل، نقدم في قسم البحوث والدراسات بالمكتب السياسي لـ تيار المستقبل السوري التوصيات التالية:

  1. للحكومة السورية: التعامل مع رفع العقوبات كـ "فرصة ضاغطة" للإصلاح الداخلي، حيث يجب تركيز الجهود المباشرة على الإصلاحات التقنية القابلة للإنجاز والتي تتفق مع الشروط الأمريكية والمصلحة الوطنية، مثل تسريع إصلاح القطاع المالي وإصدار قوانين مكافحة الفساد وغسل الأموال.
  2. للمجتمع الدولي والمستثمرين: بالنظر إلى التعافي السوري كعملية طويلة الأمد، فينبغي للدعم أن يكون مرحلياً ومرتبطاً بالإنجازات الملموسة على الأرض في مجالي الحوكمة والشفافة، مع إدراك المخاطر الناجمة عن هشاشة المسار السياسي وآلية المراقبة الدورية.
  3. للباحثين والمتابعين والمجتمع المدني: فإن مراقبة مؤشرات الأداء في التقارير الدورية الأمريكية التي ستكون وثيقة علنية مهمة لتقييم التقدم، كما أن تتبع حجم وتدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة سيكون مقياساً عملياً لثقة المجتمع الاقتصادي الدولي في استقرار هذا المسار.

وفي النهاية، فإن إلغاء "قانون قيصر" يفتح نافذة أمل لشعب سورية للتخلص من وطأة العقوبات الجماعية، ولكنه يضع الحكومة الجديدة أمام امتحان عسير في تحقيق مصالحة بين متطلبات الانفتاح الاقتصادي وإعادة الإعمار من جهة، وضرورات الإصلاح السياسي وبناء مؤسسات تتسم بالنزاهة والشمولية من جهة أخرى.

شاركها على:

اقرأ أيضا

النسخة الأولى من العدد الأول لمجلة أحوال

تسلم رئيس تيار المستقبل السوري النسخة الأولى من العدد الأول لمجلة أحوال التي ترصد الواقع وتروي الحكاية

12 ديسمبر 2025

إدارة الموقع

فعالية حوارية لاتحاد الصحفيين السوريين بدمشق

فعالية حوارية لاتحاد الصحفيين السوريين بدمشق بمناسبة ذكرى الحرية بحضور الدكتور زاهر بعدراني رئيس تيار المستقبل السوري

12 ديسمبر 2025

إدارة الموقع