التوترات الطائفية في الساحل السوري بعد التحرير

يبرز الساحل السوري كمنطقة حاسمة في رسم ملامح المستقبل الوطني، في سياق التحولات الدراماتيكية التي شهدتها سورية بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، هذا الساحل، الذي يشمل محافظتي اللاذقية وطرطوس، هو رمز للتنوع الطائفي والتاريخي السوري، حيث يتركز السكان العلويون الذين شكلوا عماد النظام البائد.
تكشف الاحتجاجات التي اندلعت في 28 ديسمبر 2025، والتي أسفرت عن مقتل ثلاثة أشخاص على الأقل وإصابة عشرات آخرين، تكشف عن توترات عميقة تتجاوز المطالب المباشرة بالإفراج عن معتقلين سابقين أو تنفيذ فيدرالية سياسية. هذه الأحداث كما تظهر هي امتداد لسلسلة من التحديات الانتقالية التي تواجه سورية بعد "التحرير"، كما يُطلق عليه في الأدبيات الوطنية الجديدة.
من منظور وطني سوري، يجب أن نرى هذه التوترات كفرصة لإعادة بناء مجتمع متماسك يعتمد على مبادئ العدالة الانتقالية والحوار الشامل. هذا المقال يهدف إلى تقديم تحليل موضوعي، انطلاقاً من سياق تاريخي يركز على دور العلويين في تشكيل الدولة السورية الحديثة، مع نظرة مستقبلية تتضمن سيناريوهات متوقعة وتوصيات عملية، كما يعتمد التحليل على مصادر متنوعة، بما في ذلك تقارير دولية وتحليلات محلية، لضمان الشمولية والموضوعية.

السياق التاريخي، العلويون في مسيرة الدولة السورية:

لفهم التوترات الحالية في الساحل، يجب العودة إلى الجذور التاريخية للطائفة العلوية في سورية.
العلويون، الذين يشكلون نحو 10-12% من السكان السوريين، يعود أصلهم إلى الفرق الشيعية الإمامية، مع تأثيرات صوفية وغنوصية فريدة.
وخلال العهد العثماني، عانى العلويون من التهميش والاضطهاد، مما دفع الكثيرين إلى الاستقرار في المناطق الجبلية الساحلية للحفاظ على هويتهم الثقافية والدينية.
ومع الانتداب الفرنسي (1920-1946)، اعتمدت فرنسا سياسة "فرق تسد"، فأنشأت دولة علوية مستقلة في الساحل (1920-1936)، مما عزز الشعور بالانفصال عن الداخل السوري.
بعد الاستقلال عام 1946، اندمج العلويون تدريجياً في الدولة السورية، خاصة من خلال الجيش الذي أصبح ملاذاً للأقليات للارتقاء الاجتماعي.
كان صعود حزب البعث في 1963، ثم انقلاب حافظ الأسد في 1970، مثل نقطة تحول، فحافظ الأسد، العلوي الأصل، بنى نظاماً يعتمد على شبكات طائفية لضمان الولاء، مما أدى إلى تركيز السلطة في أيدي علوية في الجيش والمخابرات.
هذا النظام، رغم أنه قدم خدمات اجتماعية للعلويين، أثار استياءً طائفياً لدى الأغلبية السنية، خاصة خلال الثورة السورية عام 2011.
الثورة، التي بدأت كاحتجاجات سلمية ضد الفساد والاستبداد، تحولت إلى حرب أهلية طائفية بسبب قمع النظام الوحشي.
والعلويون، المرتبطون بالنظام، دفعوا ثمناً باهظاً: آلاف القتلى في الجيش، ومخاوف من انتقام طائفي.
بعد سقوط الأسد في ديسمبر 2024، تحت قيادة هيئة تحرير الشام (HTS) بقيادة أحمد الشرع، شهدت سورية مرحلة انتقالية هشة، والفترة ما بعد التحرير شهدت إفراجاً عن بعض المعتقلين، لكنها أيضاً شهدت مذابح طائفية ضد العلويين في مارس وأبريل 2025، أسفرت عن مقتل أكثر من 1500 شخص، مما عزز الشعور بالتهديد.
في هذا السياق، يُنظر إلى الساحل كقلعة أخيرة للعلويين، حيث يخشون الإقصاء من الدولة الجديدة. والاحتجاجات الأخيرة، التي دعت إليها شخصيات مثل الشيخ غزال غزال، تعكس مزيجاً من المطالب المشروعة (إطلاق سراح معتقلين، وإعادة وظائف) والمخاوف الطائفية (دعوات لفيدرالية أو حكم ذاتي).

وصف الأحداث الأخيرة ومواقف الداخل السوري:

اندلعت احتجاجات واسعة في اللاذقية وطرطوس، في 28 ديسمبر 2025، تجمّع فيها آلاف العلويين في ميدان الأزهري، مطالبين بتنفيذ فيدرالية سياسية، وإطلاق سراح نحو 9000 معتقل سابق من النظام، ووقف "القتل والانتهاكات" الطائفية.
جاءت هذه الاحتجاجات كرد فعل على تفجير مسجد في حمص قبل يومين، الذي أثار مخاوف من تصعيد طائفي. سرعان ما تحولت الاحتجاجات إلى اشتباكات عنيفة، مع إطلاق نار من مصادر غير معروفة، مما أدى إلى مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة أكثر من 40 آخرين. وقد نشرت قوات الأمن السورية دبابات وفرضت حظر تجول، في محاولة للسيطرة على الوضع.
داخلياً، أصدر وجهاء مدينة القرداحة (مسقط رأس عائلة الأسد) بياناً رفض فيه الدعوات للاعتصامات، معتبراً إياها "تحمل أبعاداً طائفية مقيتة وتقسيمية". هذا البيان، الذي حظي بدعم واسع من النشطاء السوريين عكس رفضاً لأي محاولات للتقسيم، مع الدعوة إلى الهدوء والتمسك بوحدة المجتمع.
رفض غالبية السوريون، دعوات الشيخ غزال غزال، متهمين إياه بالتحريض وخدمة أجندات فلول النظام السابق.
وقد ردت الحكومة السورية الجديدة بإفراج عن بعض المعتقلين كبادرة انفراج، لكنها رفضت أي دعوات تقسيمية، محذرة من "أجندات خارجية".
كما حذر محللون سوريون من خطر الإقصاء إذا لم تُطبق عدالة انتقالية، مشيدين برفض الدعوات التقسيمية كخطوة إيجابية.

المواقف الدولية، أمريكا واسرائيل مثالا:

على الصعيد الدولي، تتباين المواقف تجاه هذه الأحداث، مع تركيز على الحفاظ على الاستقرار الإقليمي. الولايات المتحدة، كما يظهر في سياستها بعد الأسد، ورغم دعم إدارتها لحكومة الشرع، تدعم الأقليات الدينية والعرقية، بما في ذلك العلويين، وتدعو إلى عملية انتقالية شاملة، كما تُحذر تقارير من مجلس العلاقات الخارجية (CFR) تحذر من أن التوترات الطائفية قد تعيق الاستقرار، وتوصي بضغط على دمشق لضمان حقوق الأقليات.
ومع ذلك، لم تصدر تصريحات رسمية أمريكية مباشرة حول احتجاجات 28 ديسمبر حتى الآن، ربما بسبب حداثتها، لكن التغطية الإعلامية في New York Times وCNN تعكس اهتماماً بالمخاطر الطائفية.
أما إسرائيل، فتركز على الجوانب الأمنية، خاصة في جنوب سورية. حيث تنقل التحليلات الإسرائيلية، كما في Times of Israel وJerusalem Post، الأحداث دون تحليلات عميقة، لكنها تربطها بمخاطر عدم الاستقرار الذي قد يؤثر على حدودها.
كما تُحذر معاهد مثل INSS من أن الاحتجاجات العلوية قد تعزز نفوذ إيران أو مجموعات متطرفة، مما يدفع إسرائيل إلى تعزيز وجودها في الجولان، وقد أكد رئيس الوزراء نتنياهو في تصريحات سابقة على ضرورة منطقة عازلة في جنوب سورية، معتبراً التوترات فرصة لتعزيز الأمن الإسرائيلي.
هذه المواقف وغيرها يبدو أنها تعكس مصالح إقليمية، حيث ترى الولايات المتحدة في الاستقرار مفتاحاً لمكافحة الإرهاب، بينما تركز إسرائيل على التهديدات العسكرية المباشرة مما يعطيها ذريعة احتلال أجزاء من سورية.

سيناريوهات متوقعة، بين الاندماج والتصعيد:
من منظور مستقبلي، يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات رئيسية لتطور الوضع في الساحل:

  1. سيناريو إيجابي، الاندماج الوطني: إذا نجحت الحكومة في تنفيذ عدالة انتقالية، مثل إنشاء لجان حوار طائفي وإعادة دمج العلويين في الجيش والإدارة دون تخويف السنة، قد يؤدي ذلك إلى تهدئة التوترات. يعتمد هذا السيناريو على دعم دولي، كما في توصيات Crisis Group، ويمكن أن يؤدي إلى سورية موحدة متعددة الثقافات بحلول 2030.
  2. سيناريو متوسط، التوتر المستمر: مع استمرار المطالب دون استجابة كافية، قد تشهد المنطقة احتجاجات دورية، مما يعيق التنمية الاقتصادية. قد يؤدي ذلك أيضا إلى نزوح علوي نحو لبنان أو روسيا، كما حدث في 2025، مع مخاطر من تدخل إيراني أو روسي لدعم فلول النظام البائد.
  3. سيناريو سلبي، التصعيد الطائفي: في حال تفاقم الاشتباكات، كما في مذابح مارس 2025، قد يؤدي ذلك إلى تقسيم فعلي أو حرب أهلية جديدة. هذا السيناريو محتمل إذا استغلت قوى خارجية التوترات، مما يهدد الوحدة السورية ويؤثر على الاستقرار الإقليمي.

خاتمة:
لتحقيق السيناريو الإيجابي، نقترح في قسم البحوث والدراسات – المكتب السياسي لـ تيار المستقبل السوري التوصيات التالية:

  1. تعزيز العدالة الانتقالية، عبر إنشاء محاكم خاصة لجرائم النظام البائد، مع ضمان تمثيل علوي، لمنع الانتقام الطائفي. كما يجب إعادة تأهيل الجيش ليشمل جميع الطوائف.
  2. الحوار الوطني، وعقد مؤتمر وطني في الساحل يجمع وجهاء علويين مع ممثلين عن الأغلبية السنية، مدعوماً من الأمم المتحدة، لمناقشة اللامركزية دون تقسيم.
  3. الدعم الدولي، لمنع السيناريو الأسوأ، من باب المصلحة الدولية بعدم عودة سورية لتنزلق نحو مستنقع الحرب.
  4. التعليم والإعلام، من خلال برامج تعليمية تروج للوحدة الوطنية، ووسائل إعلام مستقلة لمكافحة الخطاب الطائفي.

وأخيرا، سورية بعد التحرير تواجه تحدياً تاريخياً: هل تكون دولة موحدة أم مجزأة طائفياً؟.
تُذكرنا التوترات في الساحل، كما في احتجاجات 28 ديسمبر 2025، تذكرنا بأن الوحدة بناءٌ يومي.
كما يجب أن نرى العلويين ليس كوريثي نظام فاسد، بل كشركاء في المستقبل. ومن خلال الحوار والعدالة، يمكن تحويل هذه التوترات إلى قوة دافعة لسورية جديدة، مزدهرة ومستقرة. ومايمكن قوله:
إن فشل ذلك سيكون خسارة ليس للعلويين فحسب، بل لسورية بأكملها.

شاركها على:

اقرأ أيضا

قرار إيقاف استيراد الدراجات النارية

قرار إيقاف استيراد الدراجات النارية في سوريا يسعى لمواجهة الفوضى المرورية وتحسين الأمان.

30 ديسمبر 2025

إدارة الموقع

تيار المستقبل السوري ضيفاً على إذاعة "فرح"

في إذاعة فرح، يقدم الأستاذ جمعة محمد لهيب تحليلاً شاملاً لتيار المستقبل السوري ومساهماته الوطنية.

30 ديسمبر 2025

إدارة الموقع