إن البيان الأخير الصادر عن تنظيم داعش لا يحمل أيَّ جديد على مستوى المضمون الفكري أو المنهج الشرعي، بل يعيد إنتاج الخطاب نفسه القائم على التكفير والاستباحة وإلغاء الآخر، لكنه في المقابل بالغ الخطورة من حيث التوقيت السياسي ومحاولة الاستثمار المباشر في مرحلة التحول التي تمر بها سورية.
إن اللغة المستخدمة في البيان تقوم على تكفير جماعي لا يميّز بين فرد وآخر، وتستبيح الدماء بعبارات صريحة لا لبس فيها، مع توظيف فجّ لمفردات العقيدة والدين خدمةً لمشروع عدمي لا علاقة له بروح الإسلام ولا بمقاصده، وهو خطاب يشكّل العلامة الفارقة للتنظيمات الخوارجية عبر التاريخ، وليس ظاهرة طارئة أو استثنائية.
ومن الناحية الشرعية والعلمية، فإن التكفير بالجملة باطلٌ شرعاً بإجماع أهل السنة والجماعة، إذ إن الحكم بالكفر لا يكون بالظن، ولا بالانتماء الوظيفي، ولا بالنية المفترضة، كما قرر ذلك أئمة الإسلام، وفي مقدمتهم الإمام النووي الذي قال بوضوح: “لا يُكفَّر المسلم بذنب ولا بخطأ في التأويل”.
كما أن ربط الجنديّة بالكفر يُعدّ قياساً فاسداً! فالجيش في حقيقته مؤسسة تنظيمية لحماية المجتمع وضبط الأمن، وليس عقيدة دينية، وعليه فإنها لا تُكسب كفراً ولا إيماناً، وبذلك فإسقاط مفهوم “الطاغوت” على مؤسسة الدولة يخالف أصول الفقه وقواعد المقاصد الشرعية، ويصادم جوهر فكرة الاجتماع الإنساني.
أما الاستحلال الصريح للدماء الوارد في البيان، من خلال الدعوة العلنية إلى القتل بعبارات مثل “طلقة بالرأس أو سكين في العنق”، فهو إقرار صريح بجريمة قتل مع سبق الإصرار، ودليل قطعي على انتماء هذا التنظيم إلى منهج الخوارج الذين وصفهم النبي محمد بقوله: “يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية”.
ويضاف إلى ذلك أن الفتوى بالقتل دون قضاء تمثِّل إسقاطاً كاملاً لمفهوم العدالة، ونسفاً لمنظومة الدولة الإسلامية التي ينادون بها، وتحويلاً للدين إلى أداة فوضى وسفك دماء وحسب!!.
أما سياسياً، فلا يمكن فصل صدور هذا البيان عن جملة من التطورات المفصلية التي شهدتها الساحة السورية مؤخراً، وفي مقدمتها رفع العقوبات وقانون قيصر عن سورية، وما يحمله ذلك من مؤشرات على بداية التعافي واستعادة الدولة وعودة الشرعية الدولية، وهي بيئة لطالما شكلت كابوساً للتنظيمات المتطرفة التي تزدهر في الفوضى وتختنق في مناخ الاستقرار
كما يأتي البيان في ظل التهديد الأميركي الصريح الذي أطلقه الرئيس دونالد ترمب ضد تنظيم داعش، وهو تهديد مباشر وغير رمزي، ينطلق من إدراكٍ واضحٍ أن أي عودة للتنظيم لا تهدد سورية وحدها، بل تضرب الأمن الإقليمي والدولي.
ويزداد هذا السياق وضوحاً مع الزيارة الأخيرة للرئيس الشرع إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وما حملته من دلالات سياسية وأمنية تتعلق بالاعتراف الدولي، والتنسيق الأمني، وإعادة إدماج سورية ضمن منظومة الدفاع والأمن العالمي، وهو ما يفسّر حالة الهلع والاستعراض الدموي الخطابي التي لجأ إليها التنظيم.
وعليه، فإن قراءة هذا البيان تفرض التعامل معه بجدية أمنية لا فكرية، فداعش تنظيم انتهازي يعتمد على الخلايا النائمة، ويستثمر في المناطق الهشّة والمتوترة، لكنه في الوقت ذاته تنظيم منهار أيديولوجياً، فاقد للحاضنة الشعبية، ومرفوض دينياً واجتماعياً في سورية.
والخطر الحقيقي الذي يمثله اليوم لا يكمن في قدرته العسكرية المباشرة، بل في سعيه إلى خلق تحالفات ظرفية، واختراق البيئات المتأزمة، ومحاولة إيجاد تربة خصبة له في مناطق تعاني هشاشةً أمنيةً، أو فراغاً سياسياً، وعلى رأسها بعض بؤر التوتر في السويداء، وشمال شرق سورية، وربما الساحل السوري، ولا سيما في المناطق التي لم تُستكمل فيها بعد عملية بسط نفوذ الدولة وترسيخ حضورها المؤسسي والأمني.
من هنا، فإن التهديد الداعشي ليس إعلان قوة بقدر ما هو إعلان خوف من عودة الدولة، وهو ما يفرض على سورية مقاربة شاملة في التعامل معه، تقوم على تعزيز الاستخبارات الاستباقية، وتفكيك الخلايا قبل تحركها، وحماية النقاط الحساسة، وعدم الاكتفاء بالحل العسكري وحده، بالتوازي مع تفعيل الدور الفكري والديني للتوجيه المعنوي الذي كتبنا عنه من أيام في تيار المستقبل السوري، ودور العلماء الوسطيين والخطاب الديني المؤسسي، وفضح فكر داعش تفكيكاً علمياً لا مجرد شجب إعلامي.
كما تفرض المرحلة الاستمرار في مسار بناء الدولة، والانفتاح الدولي، وتثبيت الشرعية، لأن الدولة المستقرة هي العدو الأول للتنظيمات المتطرفة، لا العكس، مع اعتماد خطاب إعلامي مسؤول لا يهوّل ولا يروّج، بل يكشف زيف الخطاب الداعشي لغوياً وشرعياً وسياسياً.
وفي هذا السياق، يذكّر تيار المستقبل السوري بموقفه السابق وتحذيره المبكر من محاولات تنظيم داعش إعادة التموضع بعد التحرير، كما ورد في مقاله المنشور على موقعه الرسمي بعنوان: “نشاط تنظيم داعش في سورية ما بعد التحرير: قراءة في الأزمنة والعمليات والتحولات”، والذي أشار بوضوح إلى انتقال التنظيم من منطق السيطرة إلى منطق الاستنزاف، واعتماده على البيانات التهديدية كبديل عن الإنجاز الميداني، وهو ما ينسجم تماماً مع البيان الأخير.
وخلاصة القول إن ما صدر عن داعش لا يعكس قوة، بل يعكس لحظة احتضار أمام مشروع دولة سورية جديدة تخرج من العقوبات، وتستعيد شرعيتها، وتدخُّل منظومة الأمن الدولي، في مقابل تنظيم مرفوض شعبياً، ومدانٍ شرعياً، محاصرٍ أمنياً، ومعزولٍ سياسياً.
فسورية (العهد الجديد) والتي أسقطت نظام الاستبداد، قادرةٌ بإرادة أبنائها ومؤسساتها على إسقاط آخر أوهام التطرف، مهما تلوّنت شعاراته وتبدلت أدواته.