سؤال وجودي في قلب المأساة
من خلال ما جرى في سوريا، حيث تداخلت الخسائر الإنسانية مع الانهيارات السياسية والاجتماعية، وخاصة بعد سقوط نظام الأسد المجرم، يبرز حقيقة سؤال وجودي جوهري: كيف يمكن لإنسان نزعت منه كرامته، وهُجِّر من أرضه، وطُمِس صوته، أن يعود منتجاً لنظام سياسي لا يعيد إنتاج الظلم مرة أخرى؟
فالجواب لا يكمن في تبديل الوجوه أو تغيير الشعارات، بل في إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والسلطة، بين المجتمع والدولة، وبين الحرية والهوية. وهنا لا يمكننا أن نبحث عن طريق جديد دون أن نستلهم من تجارب التفكير الإنساني التي وضعت الإنسان في مركز الوجود، لا كتـابع بل كصانع لحياته ومستقبله. ومن بين هذه التجارب تبرز رؤية تحررية جوهرها الإنسان لا السلطة، والمجتمع لا الدولة، والحرية لا التحكم.
الدولة القومية: من حامي الحرية إلى جلادها
هذه التجارب لا تدعو إلى إسقاط الدولة فحسب، بل إلى تجاوز الدولة كفكرة أحادية مهيمنة تقصي المتنوع وتهمش المختلف. فالدولة القومية الحديثة هنا ليست حاملاً للحرية، بل جلاداً لها؛ لأنها تركز السلطة في يد مركز واحد، وتفرض هوية واحدة على تنوع هائل من الثقافات واللغات والمذاهب والعادات والتقاليد.
وفي الحالة السورية، لم يكن نظام حزب البعث إلا نموذجاً صارخاً لهذا التوجه، من خلال دولة مركزية قمعية تدعي الوطنية لكنها في جوهرها قائمة على الخوف والرقابة والانغلاق. فقد حولت التنوع السوري الذي كان مصدر غنى وثراء حضاري إلى تهديد وجودي يجب اجتثاثه. والنتيجة؟ حروب مدمرة عند قيام الثورة، وانقسام اجتماعي عميق، وانهيار في الثقة بين المواطن والسلطة، وبين المواطنين أنفسهم، حتى صار كل إنسان ينظر إلى الدولة لا كضامنة لأمنه، بل كمصدر دائم للخطر.
اللامركزية: ضرورة وجودية لا خيار تكتيكي
وبذلك تصبح اللامركزية ليست خياراً تكتيكياً بل ضرورة وجودية. لكن اللامركزية التي نريد ليست تلك التي تقسم البلاد إلى إقطاعيات عرقية أو طائفية، بل تلك التي تعيد تعريف الحكم من خلال التشاركية الحقيقية.
فالمجتمع الديمقراطي لا يُبنى من أعلى، بل من أسفل، من خلال مجالس محلية تنتج القرار عبر الحوار والتوافق، لا عبر الأوامر والقرارات الأمنية والعسكرية. فحقيقةً، في هذا النموذج، لا تُقاس القوة بعدد الجنود أو حجم الأجهزة الأمنية، بل بمدى قدرة المجتمع على إدارة شؤونه بنفسه، على حماية بيئته، على تربية أبنائه، على تطوير اقتصاده، على صياغة ثقافته. إنها ديمقراطية مباشرة لا تمثيلية فقط، تشرك المرأة والشاب والشيخ والفلاح والمثقف في صنع القرار دون وصاية.
تخيل على سبيل المثال: محافظة حلب كانت تدار سابقاً من قبل محافظ حكومي معين من دمشق، لا يعرف عنها شيئاً سوى ما يقرؤه في التقارير، وقد يكون أبعد ما يكون عن هموم أهلها. أما في النظام اللامركزي الديمقراطي، فإن أهل المحافظة أنفسهم يجتمعون في مجلس المحافظة، يقررون فيه أولوياتهم؛ لا قرار يفرض من خارج، ولا مشروع ينفذ دون موافقتهم. هذا لا يعني انفصالاً عن الوطن، بل تجذراً فيه؛ فالوطن الحقيقي لا يُبنى بجدران الخوف، بل بجسور الثقة بين أبنائه.
من دولة الأمن إلى دولة الخدمة
ومن هنا فإن اللامركزية ليست ضعفاً في الدولة، بل تعزيزاً لوجودها الإنساني. فالدولة المركزية القديمة كانت دولةَ أمن: دولة تراقب، تعاقب، تخوف. أما الدولة التي تنبثق من اللامركزية فهي دولة خدمة: تسهل، تحفز، تحرر.
ومن خلال ذلك لا يمكن للمرء أن ينسى كيف ترك النظام السابق مناطق بأكملها عرضة للانهيار، بل وسهل سقوطها في أيدي الإرهاب، ليس بدافع الضعف فقط، بل بدافع الحسابات الوجودية التي ترى في الآخر -من غير الولاء الأعمى- عدواً يجب تدميره، حتى لو كان ذلك على حساب الوطن نفسه.
اللامركزية: إنقاذ للروح والمجتمع
فاللامركزية إذاً لا تنقذ فقط البلاد، بل تنقذ الروح؛ فهي تعيد للإنسان السوري شعوره بأنه فاعل لا مجرد متفرج على مصيره. وعندما يشعر الإنسان بأنه يملك القدرة على تغيير واقعه، فإنه لا يبحث عن الهروب أو الانتقام، بل عن البناء. وهذا بالضبط ما نقصده عندما نقول أن الحرية لا تعطى بل تنتزع من خلال تنظيم المجتمع.
فلا يمكن أن تُبنى ديمقراطية حقيقية دون تنظيم مجتمعي واعٍ يمتلك أدواته الثقافية وقياداته المحلية ومؤسساته التشاركية. وهنا تبرز الحاجة إلى كوادر سياسية جديدة لا تتعلم السياسة من الكتب فقط، بل من معاناة الناس، من تراب الأرض، من حكمة المجالس الشعبية.
دروس عالمية ونموذج سوري خاص
وليست هذه الرؤية مجرد حلم نظري، ففي كثير من تجارب العالم، من كردستان العراق إلى بعض مناطق أمريكا اللاتينية، بل وحتى في تجارب أوروبية مثل إقليم الباسك أو كاتالونيا، نرى كيف أن منح المجتمعات المحلية سلطة اتخاذ القرار يقلل من التوترات، ويزيد من الاستقرار، ويعزز الانتماء. أما في سوريا، فالمطلوب ليس تقليداً أعمى، بل تأسيس نموذج خاص ينبثق من رحم المعاناة، ويعيد رسم العلاقة بين المركز والهامش، بين الدولة والمجتمع، بين الفرد والجماعة.
الخاتمة: نحو جمهورية جديدة تبنى من القاع
وأخيراً، لا يمكننا أن نتجاهل الحقيقة الأعمق، وهي أن كل نظام ينكر حرية الإنسان ويحاول تجميد الحياة في قوالب جامدة محكوم عليه بالزوال، مهما امتلك من قوة. فالتاريخ لا يرحم الدكتاتوريات مهما طال أمدها؛ فسارغون وفرعون ونمرود وهتلر وموسوليني وبشار ذهبوا، لكن الإنسان بقي. بقي سقراط رغم السم، بقي الفلاح السوري رغم القصف، بقي الشعب السوري رغم محاولات النظام ثنيه عن أهداف ثورته. وهذا لأن الحرية ليست مجرد شيء عابر، بل جوهر الوجود، والوجود في جوهره لا يقبل القيد.
ولذلك فإن المخرج من الأزمة السورية لا يمر عبر ساحات القتال وحدها، بل عبر إعادة بناء المخيال السياسي. فلا سلام حقيقي دون عدالة، ولا عدالة دون لامركزية، ولا لامركزية دون ديمقراطية تشاركية حقيقية.
وعندما يدرك السوريون أنهم ليسوا أعداءً بل شركاء في وطن واحد، متنوع بثقافاته، غني باختلافاته، فإنهم سيعيدون اكتشاف أنفسهم كشعب حر، لا كقبائل ولا كمكونات متناحرة. وسيكون هذا الاكتشاف بداية حقيقية لجمهورية سورية جديدة: لامركزية، ديمقراطية، تعددية، إنسانية؛ جمهورية لا تدار من فوق، بل تُبنى من القاع، بالإرادة، وبالعقل، وبالحب.