فرعون في القرآن: رمزية الطغيان المتجدِّد وأولوية العدل على العبادة

ليس من قبيل الصدفة أن يُذكر فرعون في القرآن الكريم أربعاً وسبعين مرة، بينما تذكر العبادات الكبرى كالوضوء مرة واحدة، والصلاة بضع مرات، والإرث والحج مرة أو مرتين. هذا التوازن المدهش في الذكر ليس توزيعاً عشوائياً، بل رسالة موجهة إلى الأمة: إن الخطر الأكبر الذي يهدد وجودها ليس تخلفها في أداء الشعائر، بل استمرارها في قبول الطغيان وتكريس الاستبداد. فرعون ليس مجرد فرد تاريخي عاش في زمن سحيق؛ هو رمز حي، متجدد، يتجسد في كل من يحتكر السلطة، ويحتكر الحقيقة، ويحتكر الوجود، ويجعل من نفسه إلهاً على الأرض. ولذلك، لا يذكر فرعون كاسم يشير إلى شخص بعينه، بل كوظيفة سياسية خطيرة تتكرر في كل عصر، تحت أشكال جديدة وأقنعة مختلفة.

الدكتور محمد شحرور، في قراءته التجديدية للنص القرآني، يشير إلى أن المسلمين، عبر قرون طويلة، أغفلوا تشريح مؤسسة الطغيان السياسي، فانشغلوا بتفاصيل العبادات بينما تركوا جذور الظلم السياسي تنمو في جسد الأمة. ويوضح أن الطغيان لم يعد فقط حاكماً يحبس الرقاب أو يأمر بالقتل، بل تحول إلى آلية منظومة شاملة: طغيان اقتصادي يسرق لقمة الفقير باسم القانون، وطغيان اجتماعي يقصي الآخر ويسحق التنوع باسم الوحدة، وطغيان ديني يجعل من المؤسسة الدينية أداة في يد الحاكم لشرعنة القمع باسم الشريعة. يقدس الظالم بفتاوى، ويمول بثروات الأمة، ويعلم أطفالك في المدارس أنه القائد المؤسس. فحقيقة الطغيان هو أن يصير الحاكم الحاكم المطلق، فيمسك الاقتصاد، ويوظف الدين، ويتحكم في التعليم، ويلغي الرأي الآخر باسم الوحدة الوطنية أو الاستقرار. وهذا كله في جوهره هو تجاوز للحد، كما وصف الله تعالى فرعون: (إِنَّهُ طَغَى). والطغيان، حسب شحرور، هو الخروج عن الحد الذي وضعته السماء للإنسان: حد الحرية، حد الكرامة، حد العدل. فحقيقةً، حتى في لغة القرآن ثمة تلميح عميق: فرعون لا يوصف بأنه كافر فقط، بل طاغية. فكفره ليس فقط عقائدياً بل سلوكياً وسياسياً، وهو ما يجعل مواجهته واجباً دينياً كما هو واجب إنساني. فالمؤمن الحقيقي ليس من يغلق عينيه ويقول: اللهم ارزقنا الصبر على الظالمين، بل من يفتح عينيه ويقول: اللهم اجعلني سبباً في زوال الظلم. لذا لا عجب أن يفتح لفرعون هذا الباب الواسع في القرآن. فالعبادات قد تصلح الفرد، لكن الطغيان يفسد الأمة.

وفي هذا السياق، يصبح تقديم العدل على العبادة في مواضع قرآنية كثيرة دليلاً واضحاً على أولوية النظام العادل على الشكل العبادي. فالآية الكريمة: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾. لاحظ: قدم الله سبحانه وتعالى الأمر بالقسط – أي العدل – على الصلاة. لماذا؟ لأن الصلاة في ظل ظالم تفقد روحها. ولأن الصلاة في ظل نظام ظالم قد تتحول إلى طقوس فارغة لا تغير واقعاً، بل قد تستخدم لتبرير الطغيان نفسه. أن المسجد لا ينير قلبك إذا كان خارجه طفل جائع، أو سجين يتعذب، أو شاب أو عائلة مهجرة من بلدها لأنهم رفضوا أن يكونوا عبيداً لفرعون العصر. فالعدل ليس فضيلةً، بل شرط لصدق العبادة.

والمفارقة الصادمة التي يكشفها شحرور: أننا، كأمة، بقينا نصلي، نحج، نتصدق… ونكرس الطغيان في سلوكنا السياسي والاجتماعي. حتى لم يعد الطغيان فقط سلطاناً سياسياً، بل تحول إلى طغيان اقتصادي: حيث توزع الثروات على النخبة ويترك الشعب يتسول. وطغيان اجتماعي: حيث يمنع الفتى من أن يتزوج لأن العشيرة على خلاف مع عشيرته، أو يمنع الرجل من أن يعلم ابنته لأن الدين لا يسمح (وهذا كذب على الدين!). وطغيان ديني: حيث يصبح الفقيه والمفتي ناطقاً باسم الله، ويجرم من يفكر رأياً له، ويفسر القرآن ليبرر العبودية الجديدة باسم الولاء للحاكم. أما العدل فهو الحد الفاصل بين الوجود والانهيار. فعندما يستبدل العدل بالولاء، ويستبدل الحق بالطاعة العمياء، تبدأ الأمة في الانهيار من الداخل، حتى لو ظلت المساجد عامرةً والصدور حافظة للقرآن.

فحقيقةً، إن جذور الأزمة في المجتمعات الشرقية، بل في البشرية جمعاء، تكمن في الدولة السلطوية التي تركز السلطة في يد واحدة، وتلغي دور المجتمع، وتحول الإنسان من كائن سياسي فاعل إلى مجرد تابع خانع. فالحاكم الطاغية يشبه فرعون عندما يغتصب إرادة الشعب ويستبدلها بإرادته، ويقدس نفسه، ويجعل الدين وسيلة لتخدير الجماهير. فحقيقة الدولة السلطوية لا تقتصر على الحاكم الفرد، بل تشمل كل بنية تمارس التسلط: كالمؤسسات العسكرية والجهاز الأمني، والمؤسسة الدينية المسخرة، وحتى الأنظمة التعليمية التي تعلم الطاعة بدلاً من التفكير.

لنأخذ مثالاً من واقعنا: في مجتمع تحتكر فيه الثروة من قبل عائلة واحدة، وتمنع فيه النقابات، ويسجن فيه كل من يطالب بالحد الأدنى للأجور، ويستخدم فيه الخطاب الديني لوصف المطالبين بالعدالة بأنهم عملاء للخارج، هناك نجد فرعون بعينه، لكن باسم جديد وحاشية معاصرة. وفي مجتمع آخر، يمارس فيه التمييز ضد مجموعة دينية أو إثنية، ويمنع فيها الآخرون من الوصول إلى المناصب القيادية، وتلغى فيها هوياتهم الثقافية تحت ذريعة الوحدة الوطنية، هناك أيضاً فرعون جديد، يمارس الطغيان الاجتماعي والثقافي.

فحقيقة الخلاص من فرعون لا يتم فقط بإسقاط الحاكم، بل بإعادة بناء المجتمع من الأسفل عبر نموذج الديمقراطية التشاركية التي تعيد للإنسان دوره كفاعل في صنع قراراته. لا ديمقراطية تمثيلية شكلية تكتفي بصندوق انتخاب تعيد إنتاج النخبة نفسها، بل ديمقراطية تشاركية حقيقية توزع السلطة على البلديات، على الجمعيات، على المجالس الشعبية، بحيث لا تركز القوة أبداً في يد واحدة. فحقيقة المواجهة الحقيقية لفرعون تكون من خلال بناء مجتمعات لا تقبل الطغيان، لا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في الدين، على أسس ديمقراطية تشاركية، لا مركزية، واعية. فحقيقةً، لا يمكن أن نفهم تكرار ذكر فرعون في القرآن دون أن نراه تحذيراً دائماً من "الحالة الفرعونية" التي قد تطل علينا في أي لحظة من خلال حاكم، أو نخبة، أو مؤسسة. فالقرآن الكريم لا يحدثنا عن فرعون ليجعلنا نتفرج على قصة من الماضي، بل ليجعلنا نتساءل كل يوم: من هو فرعوننا اليوم؟ أين يختبئ؟ وماذا يفعل؟

وأمام هذا الواقع، لا يكفي أن نتلو آيات العذاب التي نزلت على فرعون كأنها قصة معجزات، بل يجب أن نراها دعوة للعمل، وتحريضاً على الوعي، ونداءً للتحرر. لأن العبادة الحقيقية لا تبدأ بالركوع والسجود فحسب، بل تبدأ برفض الظلم، ومحاربة الطغيان، وبناء مجتمعات تقوم على العدل والكرامة والحرية. وإلا فستظل المساجد عامرة، والقلوب خاوية، والمجتمعات أسيرة لفراعنة جدد، لا يسمون أنفسهم فراعنة، لكنهم يمارسون نفس الجرم: تجاوز الحد.

لذا فإن ذكر فرعون 74 مرة ليس تكراراً، بل هو إنذار مدوٍّ يقرع أسماع الأجيال: لا عبادة حقَّة دون عدل سياسي، ولا إيمان حقيقي دون مقاومة للطغيان، ولا وجود مستقر لأمة تقبل أن يُحصر حقها في الحياة بيد فرد واحد. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، يحتاج أبناء هذه الأمة إلى أن يقرؤوا قصة فرعون لا كحكاية من الماضي، بل كمرآة تنعكس فيها وجوه حكامهم وأنظمتهم وصمتهم.

شاركها على:

اقرأ أيضا

عندما تُناقض الرواية نفسها: قراءة نقدية في تقرير واشنطن بوست عن قسد والدروز وسوريا ما بعد الأسد

يعرض تقرير واشنطن بوست تعقيدات السياسة السورية وتأثيراتها على قسد والدروز.

27 ديسمبر 2025

علاء الدين الخطيب

وزارة النقل السورية تعتمد مشروع قانون لتجديد واستبدال أسطول الشاحنات

مشروع قانون وزارة النقل السورية لتجديد واستبدال أسطول الشاحنات خطوة نحو تحسين الكفاءة وتقليل التلوث.

27 ديسمبر 2025

إدارة الموقع