التوجيه المعنوي: حجر الأساس في إعادة بناء الدولة وضبط السلوك الأمني والعسكري

في لحظات التحول الوطني الكبرى، لا تُقاس جدية إعادة بناء الدولة بكمّ السلاح ولا بسرعة الانتشار، بل بعمق الوعي الذي يحكم استخدام القوة، وبمنظومة القيم التي تضبط سلوك من يحملها.

ومن هنا، يبرز التوجيه المعنوي بوصفه الركيزة الأكثر حساسية وخطورة في مسار إعادة بناء المؤسسات العسكرية والأمنية في سورية الجديدة.

ما بعد الهيكلة والتدريب:

إن إعادة بناء الجيش، والأمن العام، والشرطة، وأجهزة الاستخبارات، لا يمكن أن تقتصر على الهيكلة الإدارية أو التدريب القتالي والتقني.
فهذه عناصر ضرورية، لكنها غير كافية إذا لم تُستكمل بمنظومة توجيه معنوي وفكري وأخلاقي راسخة، قادرة على تشكيل العقل قبل اليد، والضمير قبل القرار.

لقد أثبتت التجارب القريبة، محلياً وإقليمياً، أن السلاح بلا وعي خطر، وأن السلطة بلا قيم تتحول إلى أداة قمع، وأن الفراغ الفكري داخل التشكيلات العسكرية والأمنية هو البيئة الأكثر خصوبة للتطرف والانحراف السلوكي والانفلات الأخلاقي، بل وحتى للاختراقات الإرهابية.
ومن هنا، فإن التوجيه المعنوي ليس جهازاً شكلياً ولا وظيفة هامشية، بل هو العقل النقدي داخل المؤسسة، والمساحة الآمنة لاستخراج ما يختبئ في عقول المنتسبين من أفكار وهواجس وتصورات ومخاوف وتناقضات، ثم تهذيبها وتحديثها وإعادة برمجتها—إن صح التعبير—ضمن إطار وطني جامع.

دور العلماء ورجال الدين:

عندما نتحدث عن دور العلماء ورجال الدين في التوجيه المعنوي، فإننا لا نعني خطاباً تعبويّاً أو إيديولوجيّاً، ولا وعظاً فوقياً يكتفي بإلقاء الأحكام.
بل نعني العالم الذي يفهم الدولة، ويؤمن بالقانون، ويوازن بين النص والواقع، وبين الثابت والمتغير، ويُحسن إدارة الحوار مع العقلية الأمنية والعسكرية بدل مصادمتها.

وهذا الدور لا ينجح إلا إذا تولّاه رجال يتمتعون بصفات محددة، في مقدمتها:

١_ وعي سياسي منسجم مع العقيدة الوطنية بحيث لا يصطدم بها.

٢_ وسطية دينية راسخة ترفض الغلو والتكفير.

٣_ قدرة على الحوار والإقناع لا الإملاء والتلقين.

٤_ استقلال أخلاقي يحميهم من التحول إلى أدوات تبرير أو تغطية.

دمشق مدرسة التوازن:

وهنا تبرز دمشق، لا بوصفها مدينة جغرافية فحسب، بل مدرسة تاريخية قادرة على إنتاج هذا النموذج المتوازن، الذي يمزج بين الحداثة والأصالة، وبين روح الدولة وروح المجتمع، ويقدّم فهماً دينياً وطنياً يحصّن المؤسسة ولا يؤدلجها.

ناقوس الخطر:

لا يمكن تجاهل أن بعض الهجمات التي نفذها تنظيم داعش مؤخراً كشفت حقيقة مقلقة، وهي أن جزءاً من هذه العناصر لم يأتِ من فراغ، بل خرج من بيئات عسكرية أو أمنية مرتبطة—بشكل مباشر أو غير مباشر—بتشكيلات نشأت في ظروف انتقالية مضطربة.
هذا الواقع لا يعني اتهام المؤسسات الجديدة، لكنه يدق ناقوس الخطر بصدق! فمن دون توجيه معنوي صارم، ومن دون غربلة فكرية حقيقية، قد تتحول بعض التشكيلات إلى قنابل موقوتة، حتى وإن رفعت شعارات وطنية في أوقات ما.

رؤية تيار المستقبل السوري:

نرى في تيار المستقبل السوري أن التوجيه المعنوي ليس لحماية الدولة فقط، بل لحماية المجتمع من الدولة، وحماية الدولة من نفسها.
فهو الأداة التي تضمن أن السلاح يبقى في خدمة القانون، وأن رجل الأمن يبقى خادماً للمواطن لا سيداً عليه، وأن العقيدة العسكرية تبقى وطنية جامعة، لا فئوية ولا مذهبية ولا انتقامية.

خلاصة:

إن بناء سورية الجديدة لا يبدأ من ترتيب صفوف فوهات البنادق، بل من تصحيح عقول من يحملها.
ولا يُختصر بإعادة انتشار القوات، بل بـإعادة تشكيل الوعي. وهو مسار لا ينجح دون إشراك رجال علم ودين متنورين، في قلب المؤسسة لا على هامشها، بوصفهم شركاء في بناء الدولة لا مكمّلين شكليين لها.

إن هذه الرؤية ليست رأياً شخصياً عابراً، بل تحذيراً وطنياً، ومشروعاً إصلاحياً، وأمانةً واجبة القول قبل أن يُعاد إنتاج الخطر تحت مسميات جديدة.

شاركها على:

اقرأ أيضا

دمج المحاكم الجمركية في سورية: تحليل موضوعي لقرار وزارة العدل في كانون الأول 2025

قرار وزارة العدل بدمج المحاكم الجمركية في سورية وتأثيره على النظام القضائي وأهمية هذا التوجه.

18 ديسمبر 2025

إدارة الموقع

رموز وأعلام الدولة في سورية (41) نسيب البكري

تاريخ نسيب البكري وعائلته في دمشق وتأثيره الاجتماعي والسياسي.

18 ديسمبر 2025

إدارة الموقع