تحول مصطلح "الفاشية السنية" إلى تريند في الشهور الأخيرة، خاصةً ضمن انفجار السجال الطائفي في سورية بعد إسقاط نظام الأسد. ونُسب هذا المصطلح للكاتب موريس عايق بمقالين أخرهما كان "الحرب الأهلية السوريّة في طورها الثاني"[1] المنشور عند صحيفة الجمهورية، والذي يتَّبع منهج حامد عبد الصمد في كتابه الشهير "الفاشية الإسلامية" والذي تُرجم لعدة لغات[2]. هذا الانتشار الشعبي لمصطلح يحمل نظرياً محتوى ثقافياً متعالياً ليست أول مرة في الفضاء العربي؛ وخاصةً مع توسع فضاء الإعلام بالعقود الأخيرة، مما يدفعنا للتساؤل هل المصطلح فرض نفسه بسبب الإشكالية قيد الدراسة والتحليل، أم أن الإشكالية تمت إعادة تشكيلها لتناسب المصطلح. وسأحاول في هذه الورقة تحليل المصطلح ضمن تداخله مع البنية السلطوية والمعرفية التي تنتجه وتعيد إنتاجه، وسأعتمد ضمن هذا السياق على تحليل طرح موريس عايق كحالة دراسة، تقدم نموذجا لاستخدام المصطلحات التي تحاول تشكيل واقع خارج ما هو واقعي حقيقةًَ.
إخضاع المصطلحات
عندما أطلق الدكتور صادق جلال العظم مصطلح "العلوية السياسية" عام 2013، أحدث هزة كبيرة في الفضاء السوري والإقليمي؛ وضمن أجواء الحرب الإعلامية الطائفية المُستعرة في سورية وحولها وجد هذا المصطلح استقبالاً احتفالياً، سواءً من جهة الإعلام المعارض للأسد المتبني لمروية "النظام العلوي"، أو من جهة الإعلام الموالي للأسد والمتبني لمروية "ليست ثورةً شعبيةً، بل تمرداً طائفياً". وحتى بعض نخب التيار الإسلامي السني، سواء السياسية أو المشيخية، في سورية وخارجها، تلقف هذا المصطلح بترحاب، متجاهلاً حربه الطويلة ضد الدكتور العظم كرمز من رموز العلمانية والعقلانية العرب. بكل الأحوال لسنا هنا بوارد نقاش هذا المصطلح الذي نقده الكثيرون، ومنهم كاتب هذا المقال.
بعد سيطرة أحمد الشرع، وأمراء معركة ردع العدوان، على السلطة في سورية، انطلق مصطلح "السنية السياسية" قياساً على مصطلح العظم "العلوية السياسية". واتسع استخدامه في الجدالات حول البنية الطائفية الواضحة في تركيبة السلطة الجديدة. أيضا أصبحت "السنية السياسية" تحمل مثل "العلوية السياسية" مصطلحاً مطاطاً يخدم القراءة المتعالية ثقافياً، وكذلك الاستخدام الشعبوي في سجالات التنابذ الطائفي.
نناقش هنا مصطلح "الفاشية السنيّة" باعتباره يحمل بطياته معاني سلبيةً جائرةً أكثر من غيره، لكن ليس لآن عايق أول من استخدم المصطلح، بل لأن "الفاشية السنية" تم نحتها على سياق وبنفس حمل المصطلح الأوسع "الفاشية الإسلامية".
يُعتقد أن أول ظهور لمصطلح "الفاشية الإسلامية" كان في تسعينات القرن الماضي، وإن كان البعض يعيده لحزب "مصر الشابة" الذي ظهر في مصر 1933 على سياق الحركة الفاشية الإيطالية، والذي دمج ما بين الدين الإسلامي والقومية المصرية. وقد عرف قاموس أكسفورد الأمريكي الفاشية الإسلامية كما يلي: "مصطلح يساوي بين بعض الحركات الإسلامية الحديثة والحركات الفاشية الأوروبية في أوائل القرن العشرين".[3]
لكن حامد عبد الصمد أخرج المصطلح من انضباطه الأكاديمي، وساهم بتوسيع انتشاره عبر كتاب "الفاشية الإسلامية Der Islamische Faschismus"، الذي لاقى انتشاراً واسعاًُ بسبب سخونة أسئلة الإسلام والإرهاب، الإسلام والحداثة، وبسبب انتشار ظاهرة الإسلامفوبيا[4] التي تزداد خطورةً على المستوى العالمي. تعرض كتاب عبد الصمد للعديد من الانتقادات في ألمانيا وأوروبا، بغالبيتها ركزت على أن الكتاب اتبع منهج التعميم والماهوية Essentialism، ويقصد بالماهوية في علم الاجتماع اختزال جماعة بشرية إلى ماهية أو جوهر ثابت يفسّر سلوكها، وكأنها غير قابلة للتعدد أو التغيّر؛ وكذا اختصر عبد الصمد الإسلام في سلة الفاشية باستخدام عملية انتقائية غير موضوعية.
عمليا يحاول طرح "الفاشية السنية" اختصار طرح "الفاشية الإسلامية" إلى منحى طائفي لكن ضمن نفس المنهجية تقريباً، وتزداد أهميته وخطورته ضمن سياق الأزمة السورية التي تلبس رداءً طائفيا وقومياً، رغم أن عمقها صراع قوى سياسية داخلية وخارجية.

معضلة تلازم المصطلح والتنميط
يُعرف التنميط Stereotyping في علم النفس الاجتماعي على أنه اعتقاد ثابت ومُعمم بشكل مبالغ فيه حول مجموعة أو فئة معينة من الناس. فمن خلال التنميط، نستنتج أن الشخص يتمتع بمجموعة واسعة من الخصائص والقدرات، إيجابية أو سلبية، التي نفترض أن جميع أفراد تلك المجموعة يمتلكونها.
من مزايا التنميط أنه يُمكّننا من الاستجابة السريعة للمواقف، فقد نكون قد مررنا بتجربة مماثلة من قبل. وأيضا للتنميط عيوبا منها أنه يجعلنا نتجاهل الاختلافات بين الأفراد؛ ولذلك، نفكر في الناس بأشياء قد لا تكون صحيحة من خلال تنميطها وفق نمط مُسبق. فالتنميط يُعد وسيلة رئيسية لتبسيط عالمنا الاجتماعي؛ لأنه يُقلل من التكلفة المعرفية Cognitive Cost، أي كمية المعالجة العقلية (التفكير) التي يتعين علينا القيام بها عند مقابلة شخص أو مجموعة جديدة.
كذلك التنميط يؤدي إلى التصنيف الاجتماعي، بكل أبعاده، وبذلك يكون أحد أسباب الانحياز المُسبق (عقلية "نحن"، وعقلية "هم")، مما يؤدي لتشكيل جماعات داخلية وخارجية حسب موقعها من الجماعة. فرغم أن التصنيف الاجتماعي عملية طبيعية، ولعلها من أقدم السلوكيات البشرية التطورية، لكنها خطيرة عندما تصبح ذات طابع سلبي يؤدي لتهميش أو استعداء الآخر. وتشير البحوث الحديثة إلى أن التنميط يميل ليكون أكثر سلبية وخشونة عندما تواجه المجتمعات أزمات اقتصادية واجتماعية كبيرة؛ فالأزمات الكبيرة تستهلك الكثير من المصادر المعرفية والعاطفية، وتقليل هذه التكلفة المعرفية باللجوء إلى التنميط السلبي للآخر يصبح سلوكاً أكثر انتشاراً.
تتجلى معضلة المصطلح-التنميط في كون أن المصطلح في السياق الاجتماعي والسياسي ليس بالضرورة منتجاً للتنميط، وإن أنتج تنميطاً ما فهو ليس بالضرورة سلبياً. كذلك لا يَشترط منهج التنميط وجود المصطلح. ومن هنا تأتي صعوبة تحليل، وتقييم، وموازنة الضرورة العلمية لاستخدام أو صك المصطلح، أمام مخاطر التنميط السلبي، وأمام معضلة العربة والحصان.
على سبيل المثال، ظهر مصطلح "المعاداة للسامية" كضرورة لحماية اليهود من الاضطهاد، وأيضا لتعويضهم معنوياً. لكن هذا المصطلح سرعان ما توسع وأصبح اتهاما تعميمياً جائراً يخدم الصراع الجيوسياسي، فمثلا استُخدم هذا المصطلح كأداة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لنشر مروية أن العرب والمسلمين بالضرورة هم معادون للسامية، وبالتالي تم ترسيخ نمط سلبي عن هاتين المجموعتين؛ واتسع استخدامه حتى داخل الدول العربية في عمليات الشد والجذب السياسي.
بالعودة لمقال عايق، نجد أنه من الصعب جداً في نهاية المقال ألا نخرج بنمط يشمل المسلمين السنة، وعلى الأقل السنة العرب السوريين. وهو نمط متطرف السلبية إذ يلصق الفاشية بالإسلام السني العربي.
يبدو أن الكاتب حاول في البداية تجنّب التعميم وبدأ بالحديث عن الإسلام الجهادي سواء الإخواني أو السلفي، وقد كتب عبارة توضيحية تقول: " تظهر الفاشية السُنية بوصفها تيار صغير داخل جسم الإسلام السياسي، وإن توسع باطراد على فترات مديدة. وأيضاً هي تيار أصغر بكثير فيما يتعلق بالجماعة السنية العربية نفسها."؛ لكنه يعود ليقرر أن المزاج الفاشي هو المزاج المسيطر على المجتمعات السنية العربية: "إسقاط سلطة الجولاني وتفكيك المزاج الفاشي لدى المجتمعات العربية السُنية. وهذه المهمة تبدو مستبعدة بقدر كبير. لا يمكن للأغيار أن يقوموا بها، ولا يظهر أن هناك نُوى قوى داخل المجتمعات العربية السُنية قادرة على تحقيق هذه المهمة".
طرح عايق لا يسمح للمتلقي بهذا التفريق الدقيق القائم على شعرة، حسبما قال في النصف الأول من مقاله، بل يقود المتلقي، مهما بلغ حذره، إلى الانتقال للتعميم، ليس فقط على العرب السنة في سورية، بل على العرب السنة في العراق، وغالبية العرب السنة. بالمحصلة سياق المقال كاملاً يظهر التوضيح السابق كجملة اعتذارية تجميلية، ينقضها المحتوى.
ليس بالضرورة أن يؤدي مصطلح "الفاشية السنية" كمصطلح، أو كمقال، أو ككتاب إلى للانتقال للتعميم والتنميط؛ لكن وجود سياق دولي وإقليمي قائم على صراعات جيوسياسية يُشجّع ويستفيد من الاحتقان الطائفي، فإن هذا السياق يتفاعل مع المصطلح الذي يحمل التعميم بكلماته، وينقله بسرعة للتنميط السلبي.
فمنذ تفجيرات أبراج نيويورك 2001 يعيش العالم تحت ضغط مصطلحات "الإرهاب الإسلامي" و"الحرب على الإرهاب"، كذلك تعيش منطقة الشرق الأوسط تحت ضغط حرب طائفية ما بين السنة والشيعة، مستعرة إعلاميا بشكل مستمر منذ استيلاء الخميني على الثورة الإيرانية في نهاية السبعينات، وبأحيان كثيرة انتقلت للصراع المسلح على الأرض العراقية، والسورية، واليمنية، واللبنانية.
إذاً فكل الظروف الدولية والإقليمية والمحلية تفرض السؤال الأساسي هنا: هل فعلا هناك ضرورة علمية، أو تحليلية، أو فلسفية تجعل دراسة التعصب والتطرف الديني والطائفي، بما فيه السني، تبرر اجتراح مصطلح "الفاشية الإسلامية" أو "الفاشية السنية"؟
المصطلح بين المعرفة والسلطة
كل إنتاج معرفي يحمل في داخله رغبة بضبط المعنى وبتوجيه الوعي الجمعي. ورغم أن بعض الفلاسفة، مثل ميشيل فوكو، ربطوا المعرفة بإنتاج السلطة، لا بوصفها نقيضاً للسلطة، بل أحد وجوهها؛ إلا أن التجارب التاريخية، وفي سورية في هذه المرحلة، تُظهر وجهاً آخر أكثر تعقيداً: فرغم أن المعرفة تولد أحياناً من رحم السلطة، إلا أنها أيضا كثيراً ما تولد كنقيض لها. فحين تنغلق دوائر القرار وتُصادر الحقيقة باسم "الاستقرار" أو "الهوية"، وتُنتج معرفة بعيدة عن الواقع والحقيقة، فإنها تحرض انبثاق المعرفة النقدية كفعل مقاومة، لا كأداة ضبط. والسلطة ضمن هذا السياق لا تقتصر على السلطة في دولة واحدة، أو مجموعة دول متشابهة، بل تشمل حتى ما ينتج عن الصراع الجيوسياسي بين السلطات التي تحكم دول العالم.
بهذا المعنى، يصبح التوتر بين المعرفة والسلطة في السياق السوري انعكاساً لتوترٍ أعمّ بين الفهم والمصلحة، بين اللغة كأداة تفسير واللغة كسلاح تعبئة؛ فظهر مثلا مصطلح "العلوية السياسية" الذي أطلقه صادق جلال العظم عام 2013، الذي لم يكن تكراراً لخطاب السلطة، بل محاولةً لتفكيكه. لكنه ضمن دائرة التحدي وقع في فخ توليد مصطلح يخدم معرفةٍ بعيدة عن الحقيقة، وانساق، ولو جزئياً، خلف الموجة الشعبوية في تفسير الظواهر المركبة التي تفضل التفسيرات سهلة الفهم لأزماتها، والتي تبعد اللوم عن الذات لترميه على الآخر؛ فكان أن اعتنق مقولة أن نظام الأسد كان نظاماً علوياً، والعلويون يحكمون البلد.
وبين هذين الحدّين، تبرز الحاجة إلى خطابٍ معرفيٍّ مستقل، لا يرى في المصطلحات أسلحة أيديولوجية، ولا غايةً بحد ذاتها، بل أدوات لفهم التشكل المعقّد للظاهرة الاجتماعية\السياسية، مثل مشكلة العنف والطائفية في مجتمعاتٍ أنهكتها السلطة وتبدلاتها مثل الحالة السورية.
من هنا، لا يمكن التعامل مع مصطلحات مثل "الفاشية السنية" أو "الفاشية الإسلامية" بوصفها مجرد أدوات وصف أكاديمي أو لغوي، بل يجب النظر إليها كمفاتيح لإعادة ترسيم حدود الخطاب: من يُصنف "معتدلاً وعصريا"، ومن يُصنَّف "فاشياً".
بهذا المعنى، يصبح تداول المصطلحات في لحظات الأزمات جزءاً من إعادة توزيع الشرعية الرمزية في المجتمع، حيث تتحول اللغة نفسها إلى أداة فرزٍ سياسي وثقافي. فهي تمنح الشرعية للبعض، وتسحبها من آخرين، وتخلق ما يمكن تسميته "الطبقة اللغوية الحاكمة"، أي تلك الفئة التي تمتلك حق تعريف الظواهر وتحديد ماهيتها.
ولذلك، فإن دراسة انتشار مصطلحات كهذه تتجاوز بعدها التحليلي المباشر، لتطرح سؤالاً أعمق: من يملك حق التسمية في عالمٍ تمزّقه الهويات؟ وهل يمكن للباحث أو الكاتب أن يستخدم مفهوماً نقدياً دون أن يتحول -عن قصدٍ أو غير قصد- إلى طرفٍ في معركة الهيمنة الرمزية ذاتها؟ وهل الموضوع قيد البحث يحتِّم الحاجة لتسمية "مصطلح" جديد، لا تستطيع التوصيفات والتسميات الموجودة التعبير عنه؟

طرح الفاشية السنية
لا يُقصد هنا الدفاع عن أي تيار ديني أو سياسي، بل تفكيك الخلل المنهجي في استخدام مصطلح فاشي على جماعة دينية واسعة؛ الخلل الذي سيؤدي لنتائج عكسية عندما تختلط المعرفة وغايتها التحليلية بحثا عن حل، مع الموقف المسبق أو المستكين للتعميم.
خطأ المقدمة
يبدأ عايق مقاله بإطلاق مسلمة يبني عليها نقاشه اللاحق، فقد قرر في المقدمة أن ما حصل في سورية منذ العام 2011 كان حرباً أهلية انتصرت بنهايتها جبهة النصرة، وبالتالي يضع "صعود الفاشية السُنية وتفكك الوطنية السورية التام وما بعدها" التي يريد إثباتها كطور لاحق للحرب أهلية.
لن أتطرق، ضمن هذا السياق، لنقاش هل كانت "ثورة شعبية" أم "حرب أهلية"[i]، لكن لنقرر ضمن هذا النقاش حقيقة أولى يتفق عليها الغالبية داخل وخارج سورية، وهي أن ما حدث في سورية كان "ثورة" أو "انتفاضة" شعبية ضد نظام حكم ديكتاتوري مخابراتي فاسد أوصل المجتمع لحالة الانفجار[ii]. وأيضاً حقيقة ثانية تثبتها الوقائع أن الحرب في سورية لم تكن فقط بين قوى سورية داخلية، بل ضمت قوى كثيرة دولية خارجية اشتبكت بهذه الحرب بشكل رسمي (إيران، روسيا، الولايات المتحدة الأمريكية، إسرائيل، تركيا)، وبشكل غير رسمي عبر عشرات آلاف المقاتلين الذين انضموا لجبهة نظام الأسد تحت راية إسلاموية شيعية، أو لجبهة المليشيات الإسلاموية السنية. حتى لو أخذنا بمصطلح “الحرب الأهلية” لوصف جزء من الأزمة السورية، لا يصح استخدامه كمُسلّمة تصف الحالة السورية بشكل شامل. هذا التمييز ضروري لأن النتائج التي بناها الكاتب، وعديدون غيره، قامت على مقدمات خاطئة.
إسقاط الفاشية على السنة
لا يعطينا الكاتب الفرصة للتمييز الحقيقي بين الإسلام الجهادي، الإسلام السلفي، وبين الإسلام السنّي. فهو يجيب على سؤال "هل تسمح الخصائص المذكورة أعلاه باعتبار الإسلام الجهادي تياراً سياسياً فاشياً؟" بالانتقال من الإسلام الجهادي إلى نظرته إلى الإسلام السني كهوية جماعية (وكعنوان للورقة)، وضمن النص يظهر معنا أيضا الإسلام السلفي متماهياً مع الإسلام السني، رغم وضوح الفرق بينهما.
يصعب التسامح مع هذا الخلط ما بين الإسلام الجهادي وبين الإسلام السنّي، في تحليلٍ يسعى إلى الوصول لاستنتاج خطير وضخم مثل القول بـ"الفاشية السنيّة" أو "الفاشية الإسلامية".
· مصطلح الإسلام الجهادي
الإسلام الجهادي مصطلح حديث عائم الدلالة وفق المذاهب التقليدية المنتشرة بين المسلمين. فالجهاد ليس عقيدة سنّية فقط، بل هي عقيدة تشمل كثير من المذاهب الإسلامية، بغض النظر عن اختلافهم على التفاصيل الفقهية لحكم الجهاد؛ لذلك لن نجد في التراث الفقهي الإسلامي والمنتج الإسلامي الفقهي المعاصر تمييزا واضحا لفرقة أو مذهب أو تيار يُسمى "إسلام جهادي".
وبالواقع العملي لو قمنا بسرد سريع للتيارات الجهادية الإسلامية، لوجدنا أن قسماً من السلفية، وليس كل السلفية، توجهوا للجهاد منذ أيام ابن عبد الوهاب؛ لكن أيضا نجد أن كثيراً من جماعاتٍ قادت مقاومة الاستعمار الغربي في شمال إفريقيا جمعت بين الجهاد الإسلامي وبين مقاومة المحتل، مثل ثورة عمر المختار في ليبيا، وعبد القادر الجزائري في الجزائر. وفي العصر الحديث، كانت أكبر الحركات الجهادية، وأكثرها تأثيرا في العالم، حركة طالبان ذات مذهب حنفي أشعري، والحنفية أبعد ما تكون عن السلفية.
كذلك كانت عقيدة الجهاد، وما زالت، أساسا في الحراك الحربي للنظام الإيراني، الذي يسيطر على قراره المسلح مرشد الثورة. أما في سورية فرفع عقيدة الجهاد في سبيل الله لم يقتصر على الفصائل السنّية، بل شمل أيضا الفصائل الشيعية التي حاربت إلى جانب نظام الأسد.

· الإخوان المسلمون والجهاد
حتى لو كنّا سياسياً ضد حركة الإخوان المسلمين، لكن واقع الحركة وتاريخها وتنظيراتها يؤكد أنها لا تتبنى الجهاد كوسيلة في الوصول للحكم. وحتى في سورية عندما تحركت الطليعة المقاتلة للإخوان في أواخر السبعينات لرفع السلاح ضد حافظ الأسد، كان شعارها الأساسي إسقاط النظام "العلوي"، ولم يكن دعوةً واضحةً للجهاد يمكن تشبيهها بأيٍ من الفصائل الجهادية التي ظهرت في سورية خلال الأربعة عشر سنة الأخيرة. وضمن القراءة المُقدمة أيضا لا نجد تمييزاً واضحاً بين الإسلام الجهادي وبين الإخوان المسلمين.
- الفاشية تقوم على إعلاء شأن "الدولة" وصهر الفرد الجديد بالجماعة
بغض النظر عن الخلط بين هذه التيارات، إلا أن الكاتب لا يقدم أدلة حقيقية واقعية للتدليل على فاشية السنة، أو حتى فاشية الإسلام الجهادي في سورية في هذه المرحلة. فرغم تكثيف ما قدمه حول السلفية من كونها تتمسك بأحكام تفصيلية غير مهمة في حياة المسلمين، وتقديمها لتصور شمولي للإسلام، ويقرر أنها ترى "الإسلام يحكم كل شيء دون استثناء".
ما ذكره الكاتب صحيح حول عقيدة أن الإسلام يحكم كل شيء دون استثناء، ليس فقط عند السلفية، بل عند غالبية المذاهب الإسلامية؛ لكن هذا يقدم تناقضا صارخاً مع الفاشية التي تقوم بأحد أهم أسسها على إعلاء شأن الدولة، إلى درجة التقديس [iii]Statism.
لم يشر الكاتب بتعريفه الفاشية إلى اعتمادها بشكل ممنهج على إذابة الفرد ضمن الجماعة، لربما سهواً. فالفاشية الإيطالية والنازية الألمانية تحدثتا بصراحة عن خلق "إنسان جديد"، ففي إيطاليا أطلقوا عليه اسم " L’uomo nuovo fascista الرجل الفاشي الجديد"، وفي ألمانيا أطلقوا عليه اسم " Der neue Mensch الإنسان الجديد".
لكن كما يبدو أراد التدليل عليه من خلال سرد سريع لتبني الإسلام السلفي لمنهج التدخل الكثيف في كل تفاصيل الحياة، فهو أيضا صحيح، لكنه أيضا يصح على غالبية المذاهب الإسلامية، بل وغالبية الأديان. لكن ذلك يخضع لشكل السلطة السياسية في دول المسلمين. وقد اتضح أنه حتى الإسلام السلفي الوهابي، الأكثر تشدداً، انتقل بسهولة تحت أمر الحاكم للتراجع عن هذه الأحكام، مثلما حدث مؤخراً في السعودية.
بالواقع من يسعى لخلق إنسان جديد بطريقة ما، مسلم حقيقي، هما تيار الإخوان المسلمين، الذي ينتهج أسلوب ما سمّاه " تربية المسلمين"؛ وتيار السلفية العلمية الذي لا يملك هذه النظرة الواضحة لخلق المسلم الجديد لكنه يرى بالتعليم الديني وسيلة أساسية، خاصة على خط محمد ناصر الدين الألباني، وابن باز، والفوزان، والذي يدرس طلابه أن التميّز يكمن في معرفة الصحيح من الضعيف، والقدرة على الردّ على المخالفين. أما الإسلام الجهادي، سلفي أو غير سلفي، فهو يسعى لبناء المجاهد-المقاتل وليس الإنسان أو المسلم الجديد.
أما على مستوى عموم الإسلام والمشترك بين مذاهبه، والمشترك مع غالبية الأديان فهذه الأديان طبعا تسعى "لهداية" الناس ليكونوا مؤمنين صالحين، لكن هذا بعيد تماما عن رؤية الفاشية لخلق الإنسان الجديد.
· هل يمكن قبول أن طرح الهوية الجمعية الإسلامية يقابل فكرة النقاء القومي أو العرقي في الفاشية التاريخية؟
بينما يحق للمقال الإشارة إلى أن الفاشية قد لا تعتمد دائماً على العِرق البيولوجي، فإن وصف "النقاء" بأنه "عقدي" يُهمل الطبيعة العضوية والإقصائية الجوهرية للفاشية، التي تجعل من الانتماء إلى الأمة أمراً غير قابل للاكتساب عبر الإيمان وحده، بل مرتبطاً بهوية "طبيعية"، كما يشير روجر غريفين[iv]، الذي يقول إن الفاشية تفترض أن الأمة كائن عضوي organic community، وليس مجرد تجمّع عقدي.
مع ذلك هناك اختلافات بين الأكاديميين حول هل الفاشية عابرة للقوميات والأعراق، خاصةً مع الفاشيات الأحدث من الفاشية الإيطالية؛ فقد تقبل بعض المتخصصين، بمن فيهم غريفين، أن تقبل الفاشية قوميات أخرى[v]، لكن هذا لا يعني أن الفاشية تبني مجتمعاً مفتوحاً يمكن لأي مؤمن (متبني لثقافتها) أن ينضم له.
لا بد هنا من التمييز بين إمكانية وصف الفاشية بأنها قد تتقبل قوميات أخرى، لكن حسبما قدمه الكاتب من أن "الأيدلوجية" الإسلامية السنية شمولية، فهي بذلك تدخل ضمن الفاشية من باب أن الفاشية قد تقبل التعدد القومي وتعتمد على النقاء الفكري والأيدلوجي، هو بعمقه تناقض مع كل تعريفات الفاشية في العلوم السياسية. وحتى إذا قبلنا أنه من حق الكاتب توسيع التعريفات المتداولة ليشمل رؤية الإسلام السني لقبول الاختلاف القومي، إلا أن ذلك يحول هذه الفاشية إلى أيدلوجية متسامحة تقبل الآخر فقط بشرط الإيمان، وهذا بعيد تماما عن الفاشية. فالإسلام السني يرغب ويعمل لضم الآخرين، ويدعي نظريا ألا "فرق بين عربي وأعجمي، ولا بين أبيض وأسود، إلا بالتقوى".
ضمن محاولة الكاتب تبرير نقل الفاشية من المبنى القومي أو العرقي إلى المبنى الديني يستخدم شعار "بني أمية"؛ ويضخمّه تحت مصطلح "أسطورة الأصل". لكن لا يصح منهجياً تقديم هذه الفرضية بدون تحليل متكامل لها، لما تمثله ضمن التحليل من أهمية محورية.
فبدايةً حتى موقف الإسلام السلفي من الأمويين لا يتعدى الدفاع عنهم كخلفاء للمسلمين، والتمسك بأن معاوية بن أبي سفيان من الصحابة الذين لا يجوز نقدهم أو مهاجمتهم، بل يجب الترضي عليه.
والأهم هنا، هو أن الغالبية السنية الأشعرية لها موقف يتراوح بين الصمت أمام صعود الأمويين مع معاوية بن أبي سفيان، وما بين النقد لخطأ معاوية دون لعنه؛ لكن الأشاعرة لا يرون بالأمويين "أسطورة أصل" بأي شكل من الأشكال. وهذا يعيدنا لأحد الفجوات الأساسية في هذا النوع من التحليلات التي لا تميّز بين التيارات الإسلامية.
· هل يمكن أن تقوم الفاشية على أساس ديني؟
هنا أيضا يوجد اختلافات ما بين الباحثين بموضوع الفاشية، مثلا روجر غريفين وروبرت باكستون[vi] يؤكدون أن الفاشية ظاهرة حديثة، علمانية، وثورية، ترفض السلطة الدينية المستقلة؛ فالفاشية بجوهرها تريد ولاء مطلقاً للدولة\الزعيم، ولا تقبل سلطة أعلى، وفي الحقل الديني فإن الشرع الديني يمثل سلطة أعلى من الدولة\الزعيم، حتى لو نظرياً؛ فالدين يحدّ من تطلع الفاشية للشمولية المطلقة، والشمولية المطلقة ممثلة بالدولة\الزعيم أساس من أسس الفاشية.
طبعا هذا لا يعني أن الفاشية لم تستخدم الدين، كرمز ديني، مثل استخدام الصليب المعقوف من قبل النازية، حيث تحول الرمز من حمله الديني إلى حمل وطني.
أيضا بعض الباحثين لم يتخذوا هذا الموقف الحاسم بين الفاشية والدين، فمن خلال بعض الحركات التي تم وصفها بالفاشية حديثا، مثل حزب بهارتيا جاناتا الهندي، وبعض تيارات اليمين المسيحي المتطرف الأمريكي التي تدعو إلى "الأمة المسيحية البيضاء" وتعادي الليبرالية والديمقراطية، وبعض الأحزاب اليهودية المتطرف في إسرائيل التي تروج لرؤية "يهودية-عرقية-دينية"، وبعض الحركات الإسلاموية مثل "داعش". من هذا المنظور يرى هؤلاء الباحثون أن الدين يمكن أن يحل مكان القومية كأسطورة تأسيسية طالما أنه يستخدم هوية جماعية مغلقة، يدافع عن نقاء مهدد، ويعتمد على ولاء مطلق لقيادة كاريزمية.
لكن مع ذلك يتحفظ هؤلاء الباحثون على إطلاق صفة "الفاشية" بشكل مباشر على هذه التيارات، ويفضلون مصطلحات مثل "فاشية ثيوقراطية" أو "شعبوية استئصالية دينية".
إذاً وصم دين بالفاشية، وهنا الإسلام السني، رغم ظاهر مرونته التحليلية، يُهمل الطبيعة الجوهرية للفاشية كأيديولوجيا عضوية وإقصائية، لا تعترف بالهوية كخيار عقدي قابل للاكتساب، بل كواقع "طبيعي" غير قابل للتفاوض. فحتى في الحالات التي لم تكن الفاشية فيها صريحة العنصرية (كالفاشية الإيطالية المبكرة)، ظلّت تُعيد إنتاج الحدود بين "الداخل" و"الخارج" عبر معايير ثقافية، لغوية، أو ولائية تُعامل كأنها جزء من جوهر الأمة، فكانت النازية فاشيةً أكثر عنصرية من الإيطالية.
ورغم صعوبة إطلاق تسمية الفاشية على الأحزاب الدينية، كالأمثلة التي وردت هنا، إلا أن ذلك يصبح مهمة أصعب بكثير عندما نريد تسمية الفاشية على الإسلام السني بعمومه، فالإسلام السني يسعى ويرحب بتوسع دائرته إلى كل القوميات والدول، وليس مثل اليهودية المتطرفة، ولا مثل المسيحية المتطرفة في أمريكا، ولا مثل الهندوسية المتطرفة في الهند. نفس القياس يصح حتى على السلفية الجهادية التي تعلن أنها نظرياً منفتحةً لضم كل من يؤمن بدينها ومذهبها.
الناحية الأهم، في نقاش المواقف من علاقة الفاشية بالدين، هو أن الخلاف حدث حول جماعات، تيارات، حركات، أو أحزاب سياسية وليس حول الدين نفسه الذي يُستخدم كحامل للأسطورة التأسيسية. أما الأستاذ موريس عايق فقد أطلق الصفة على كامل الدين الإسلامي السني، كما فعل حامد عبد الصمد قبله الذي وصف الإسلام كدين بالفاشية.

· هل فعلا بقية خصائص الفاشية واضحة؟
سواءً نظرنا إلى مقال الكاتب، أو حتى طرح حامد عبد الصمد، فسنجد أن أهم ما يتفق عليه الباحثون بتعريف الفاشية هو التعبئة الجماهيرية تحت قيادة عليا كاريزمية، وهو ما أكده عايق بالتعريف الذي تبناه، لكنه يعتبرها واضحة، ويكتفي بالتدليل بما حدث في سورية من تجييش خلال ارتكاب مجزرتي الساحل والسويداء. وهذا خطأ منهجي أساسي، فالتدليل على التعبئة الجماهيرية بما يشبه ممارسات الفاشية من خلال التقاط حالة وتعميمها لا يتجاوز عملية انتقاء الكرز لخدمة الفكرة. فالحالة السورية بعد سقوط الأسد وصعود الشرع ما زالت فترة زمنية خاصة بوضع شديد التعقيد يعاني من تفاعلٍ فوضويٍ فيما بين:
- سلطة مؤقتة بكل مشاكلها،
- واستعار التحريض الطائفي والقومي على مدى 14 سنة،
- ومشاعر متضاربة ما بين فرح بسقوط نظام الأسد،
- وخوف من القادم،
- وفقر شديد،
- وانتشار للسلاح،
- وفوضى عارمة مستمرة في سورية،
- وحالة ارتداد أصولي طائفي، وقومي ومناطقي وسياسي.
بينما أساس التحليل اللازم لإلصاق الفاشية بالإسلام السنّي، أو حتى الإسلام الجهادي بحاجة لقراءة واقع مستمر وليس في حالة اضطراب زلزالي. فمن المعروف أن الأزمات تثير ردود فعل عشوائية ضمن الدول، خصوصاً بغياب القيادات السياسية والنخبوية التي تعمل منهجياً لإصلاح الواقع وليس استغلاله مثل الحالة السورية.
من ناحيةٍ ثانية، الكاتب تبنى تعريف الفاشية الذي يراها مناهضة للتيار المحافظ ومؤسساته. فأين يقف أي تيار إسلامي من التيار المحافظ؟ بواقع الحال التيارات الإسلامية والمذاهب الإسلامية هي الأكثر تمسكاً بالعادات والسلوكيات المحافظة، والأكثر تمسكاً بالمؤسسات التقليدية المحافظة خاصة ما يتصل بالعادات الدينية. بل حتى أن السلفية الجهادية هي الأكثر تمسكاً بالأساليب المحافظة، وبالرموز الدينية القديمة فالأقدم. أما اعتبار أن مؤسسات الدولة الحديثة الشكلية التي أنشأها النظام الديكتاتوري العربي والسوري خلال القرن العشرين، من وزارات ومجالس نيابية ونقابات، مؤسسات تقليدية فهنا لدينا مشكلة في تعريف التقليدية. وطبعا لا بد من الإشارة إلى أن فقط بعض السلفية المتشددة، وليس كلها، ترى أن هذه المؤسسات بدع سيئة ضالة يجب إلغاءها.
هل الفاشية حركة اجتماعية أم فكرية سياسية نخبوية؟
الفاشية، في الدراسات السياسية والاجتماعية، ليست "حالة جماهيرية كلية" بل نظام فكري وحركي يتغذى على ظروف معينة: الهزيمة، الإذلال، الأزمات الاقتصادية، والفراغ السياسي. فنجد أن روبرت باكستون في كتابه المرجعي The Anatomy of Fascism يقول حرفياً: "لا توجد مجتمعات فاشية، بل حركات فاشية تصل أحياناً إلى السلطة وتُخضع المجتمع جزئياً، لكنها لا تذوبه بالكامل في ذاتها". بمعنى أن المجتمع الإيطالي (أو الألماني) لم يكن فاشياً في جوهره، بل خضع لمشروع فاشي ناجح سياسياً استطاع تعبئة فئات واسعة منه.
وحتى الباحثين السياسيين الذين توافقوا مع فكرة انتشار الفاشية اجتماعياً لحد ما، مثل إميليو جينتيلي[vii]، الذي فصل في علاقة الفاشية بالمجتمع، إلا أنه قال: " الفاشية أنشأت ديناً مدنياً political religion غيّر طريقة تفكير الناس في الوطن، الشهادة، الولاء"[viii]، أي حتى جينتيل هنا يبعد الدين العادي عن الفاشية، لأنه يرى أن الفاشية تقدم دينا جديدا.
بينما نجد أن الكاتب يعتمد لحد بعيد على قراءة المجتمع العربي السني في سورية والعراق، إلا أنه يؤكد أن المجتمعات العربية ذات "مزاج فاشي"، ويضع ذلك كصعوبة أمام أي حل. سأتجاوز الآن الأحكام المرسلة التي أطلقها على المجتمع العربي السني في سورية والعراق، ونقارن حكمه على المجتمع العربي السني مع طبيعة الفاشية وفق التعريفات المتداولة والمقبولة في العلوم السياسية، لنجد أن حكمه بالواقع يناقض أي رؤية للفاشية تم تقريرها أكاديميا.
عندما يصبح الهدف هو المصطلح، وليس المعرفة

لا يأتي التحذير من الاستخدام العشوائي لمصطلح الفاشية من خارج الحقل، بل من أحد أبرز دارسي الفاشية، روجر غريف، الذي يلفت إلى أن حماية الديمقراطية لا يجوز أن تقع في هذا الفخ، وأجد مفيداً نقل ما كتبه نصياً: "من ناحية أخرى، إذا كان السياق نقاشاً جاداً ومنفتحاً حول تحديد وتقييم التهديدات التي تواجه الديمقراطية، سعياً للتقدم نحو فهم أعمق، فإن الفاشية لا تكون مفيدة إلا إذا احتفظت بقيمتها التصنيفية (في علم التصنيف) كمصطلح لفئة محددة ومنفصلة من اليمين غير الليبرالي. في الوقت الحاضر، هناك الكثير من التفكير غير الدقيق والانزلاق الدلالي بين اليمين واليمين الراديكالي أو المتشدد أو المتطرف والعنصرية والمحافظة المتشددة والشعبوية والأصولية الدينية والشعبوية اليمينية المتطرفة، لدرجة أن هذه المصطلحات تُعمّم أكثر مما تُنير. علاوة على ذلك، فإن إساءة استخدام الفاشية كمفهوم أكثر وضوحاً في الصحافة الشعبية والمدونات، حيث يُمكن العثور على قادة غير ليبراليين متباعدين مثل أردوغان وبوتين وترامب وأوربان وبولسونارو وكيم جونغ أون وشي جين بينغ يُرفضون بشكل روتيني باعتبارهم فاشيين"(4).
استخدام مصطلح "الفاشية السنية" في السياق السوري الحالي هو إجراء ذو تكلفة تحليلية واجتماعية عالية جداً. فهو يُضحي بالدقة على مذبح القوة التوصيفية المُتَكلَّفة الصادمة، ويساهم في تغذية دوامة التنميط والصراع الهوياتي الذي يسعى إلى فهمه.
· التناقض والانحياز يفقد التحليل قيمته
يقرر الكاتب ضمن التحليل ما يلي " تظهر الفاشية السُنية بوصفها تيار صغير داخل جسم الإسلام السياسي، وإن توسع باطراد على فترات مديدة. وأيضاً هي تيار أصغر بكثير فيما يتعلق بالجماعة السنية العربية نفسها. فالمُسيسون إسلامياً أقلية، وأقلية من هذه الأقلية تتبنى هذا التوجه السياسي".
والسؤال هنا: إذاً كيف يمكن الانتقال من أقلية الأقلية لإطلاق مصطلح يشمل الجماعة الكبيرة؟
لا نجد ضمن المقال أي جواب على هذا السؤال، ويبقى ضمن سياق ما يطرحه تيار الإسلامفوبيا من تعميمات على المسلمين. لذلك لن يكون مفاجئاً أن نجد ضمن نفس التحليل إطلاق أحكام عامة تناقض التخصيص السابق. فالكاتب يعود ليقرر أن الفاشية السنية تسيطر على المجتمعات العربية السنية عدة مرات ضمن المقال، مثل قوله: "صعود الفاشية السُنية وهيمنتها على المجتمعات العربية السُنية"، وبمكان آخر "وتفكيك المزاج الفاشي لدى المجتمعات العربية السُنية"، ويؤكد على "هيمنة المزاج الفاشي على الكتلة العربية السُنية من ناحية".
بل حتى ضمن سياق المقال، يرفض الكاتب بشكل قاطع بناء أي قياس يماثل ما يدّعيه من "فاشية سنية" على أي مكون طائفي أو قومي آخر في العراق وسورية ولبنان، مما يثير أسئلة محورية حول موضوعية الطرح.
ادعاء نهاية الوطنية السورية والتفسير الطائفي للأزمة السورية قراءة سطحية
كما أوردت بالمقدمة فإن المُسلَّمة التي انطلق منها الكاتب حول وصف ما حصل في سورية بالحرب الأهلية، ثم عنْوَنة مقاله بالطور الثاني للحرب الأهلية، أوقع القراءة بمغالطات حللنا بعضها في سياق نقد مقولة فاشية السنة أو الإسلام، والذي يدفعني هنا للإيجاز في طرح الكاتب حول نهاية الوطنية السورية، لأن التحليل المتبع بقي ضمن نفس الأخطاء المنهجية والأحكام المسبقة، التي تُسخر الأدوات المعرفية، لمصلحة الفكرة.
الخلل المنهجي: الادعاء بغياب التعريف
يدّعي المقال أن "الوطنية السورية قد انتهت"، لكنه يفشل تماماً في تقديم تعريفٍ مفاهيمي للوطنية الذي يفترض أن يكون أساساً لأي حكم كهذا. فهل المقصود بالوطنية هنا ولاءٌ مدنيٌّ قائمٌ على المواطَنة والدستور؟ أم شعورٌ جماعيٌّ بالتضامن الاجتماعي؟ أم مشروعٌ سياسيٌّ لبناء دولة مركزية؟ دون توضيح ذلك، يصبح الادّعاء بـ"الانتهاء" مجرد حكم انطباعي لا يستند إلى معيار تحليلي، ويُضعف الحُجة من جذورها، فكيف نحكم على موت شيء لم يُحدَّد أساساً؟
الوطنية كـ "ممارسة مقاومة" وليست مجرد انتماء
الوطنية لا تنتهي بانهيار الدولة أو سيطرة هويات فرعية، بل تتحول إلى فعل مقاومة يومي: التمسك بالهوية المشتركة، رفض التقسيم الطائفي، والحفاظ على الذاكرة الجمعية المتجاوزة للانتماءات الضيقة. وحتى انهيار المجال العام الرسمي (كما حدث في سورية) لا يعني انعدام المجالات العامة البديلة أو المقاومة التي يحافظ فيها السوريون على فكرة "سورية" ككيان يتجاوز الطوائف. وواقع الصراع الحالي الإعلامي وعلى الأرض، رغم فوضويته وتطرفه أحياناً، يتمحوَر حول من هو الطرف الذي يريد تقسيم سورية وهدمها، ليتم وصمه باللاوطنية.
سوريا ما قبل 2011: الوطنية كانت حاضرة رغم القمع
حتى تحت قمع نظام الأسد، ظلّت الوطنية السورية حية في أشكال مقاومة ثقافية واجتماعية، من الصالونات الثقافية إلى الحركات الطلابية والمبادرات الأهلية. هذا يؤكد أن الوطنية أعمق من النظام السياسي، وأنها قادرة على البقاء حتى في أسوأ الظروف.
الوطنية كـ "مشروع مستقبلي" وليس "ماضٍ منتهٍ"
القول بموت الوطنية يستسلم للواقع الراهن ويُغفل إمكانية إعادة بنائها. التاريخ يُظهر أن الهويات الوطنية تعود بقوة بعد حروب طاحنة مثل: رواندا، الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية وبعد انهيار المعسكر السوفييتي، فيتنام، تركيا بعد الحرب العالمية الأولى، بل حتى في لبنان والعراق حيث ما زال سؤال الدولة قائماً، إلا أن الوطنية ما زالت هدفاً يسعى إليه الجميع. فالأزمات قد تُضعف الوطنية، لكنها أيضاً تخلق فرصاً لإعادة تعريفها على أسس أكثر عدالة وشمولية.
والتاريخ الحديث، عصر الوطنيات، يثبت أن عديداً من الدول والمجتمعات أعادت تعريف وطنيتها، مثل ألمانيا ودول أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وانهيار المعسكر السوفييتي؛ كذلك الأمر حصل في تركيا مع تأسيس الجمهورية التركية؛ بل حتى في الدول العربية ومع انتهاء موجة القومية العربية الأيدلوجية (الناصرية والبعثية)، ومع الصراع القائم مع الإسلام السياسي فسؤال إعادة تعريف الوطنية هو السؤال الأكبر في دول المنطقة؛ ولا أعتقد أن مثل هذه الأسئلة الصعبة ستنتج أجوبتها خلال سنين قليلة.
الخطر الحقيقي: تبنّي خطاب "ما بعد الوطنية"
تبنّي مقولة "انتهاء الوطنية" لا يتجاوز رد الفعل العاطفي المتألم لعمق وشدة المأساة، لكنه لا يصل إلى مستوى التحليل الموضوعي. التحدي ليس الاعتراف بموت الوطنية، بل كيفية إحيائها بمفاهيم جديدة: وطنية قائمة على المواطنة المتساوية، الاعتراف بالتعددية، والعدالة الانتقالية.
الاستسلام للوهم الشعبي المؤسس على القراءة الطائفية
علاوةً على ذلك، يختزل المقال الأزمة السورية -بكل تعقيداتها السياسية، الاقتصادية، الجيو-استراتيجية، والاجتماعية إلى تفسير طائفي سطحي[1]، كأن التاريخ السوري لم يعرف سوى الانقسامات المذهبية. هذا النوع من التفسير يتجاهل أدوار الدولة الأمنية، الفساد البنيوي، السياسات النيوليبرالية، التدخلات الخارجية، وانهيار العقد الاجتماعي، ليقدّم صورة جاهزة مشوّهة تحوّل الصراع إلى "حرب أهلية طائفية"، بينما الواقع أكثر تناقضاً وتشابكاً.
والأخطر أن هذا التبسيط يُستخدم غالباً لتبرير الاستسلام السياسي أو اللامبالاة الأخلاقية تجاه مصير مجتمع كامل، تحت ذريعة أن "الوحدة الوطنية لم تكن سوى وهم". لكن حتى في أحلك لحظات الحرب، ظلّت هناك ممارسات يومية، شبكات تضامن، وخطابات مدنية، خاصّة بين الشباب والنساء ومنظمات المجتمع المدني، تقاوم هذا التفكيك، وتشهد على أن الوطنية، كإمكانية سياسية وأخلاقية، لم تمت بعد.
خاتمة
لا تهدف هذه الورقة إلى نفي التشابكات العميقة بين الديني والإسلامي والطائفي في بنية الأزمة السورية، ولا إلى التقليل من خطورة مظاهر التطرّف الديني والطائفي والقومي التي راكمت العنف ووسّعت هوّة الانقسام. المقصود، على العكس، هو إعادة التحليل إلى سكّته المنهجية: اعتماد مفاهيم دقيقة لا تُنتج تنميطاً جماعياً، والتمييز بين التيارات والحركات والمرجعيات بدل صبِّها في قالبٍ واحد. فالمعرفة التي نريدها هنا ليست سلاحاً لغوياً في سجالات الهوية، بل أداة تفكيكٍ لأسباب الأزمة، وهذه هي الخطوة الأولى الضرورية للبحث عن حلولٍ واقعية وعادلة.

الغاية الأساسية، إذن، ليست التبرئة أو الإنكار، بل وضع الدراسات والتحليلات في مسارها الصحيح. والمسار الصحيح يبدأ بتفكيك أسباب الأزمة الحقيقية، لا اختزالها في ماهويات ضيقة. فهذا التفكيك هو الخطوة الأولى والأساسية لاكتشاف الحلول الصحيحة، والتي لا يمكن أن تُبنى إلا على أسس من الواقعية والعدالة والاعتراف بالتعدد، بعيداً عن الاستسهال الاصطلاحي الذي يغذي دوامة الصراع ويُبعِدنا عن إمكانية المصالحة وإعادة البناء.
إنّ استخدام مصطلحات عالية الشحنة مثل "الفاشية السنيّة"، "الفاشية الإسلامية"، "العلوية السياسية"، أو "السنة السياسية" يُغري بقوة توصيفه الصادمة، لكنه يدفع ثمناً تحليلياً واجتماعياً باهظاً: يَضعُف التفريق بين الظواهر، ويُعاد إنتاج صورٍ نمطية تُغلق أبواب التسوية بدل فتحها. ما نحتاجه اليوم ليس نحتَ تسمياتٍ إضافية، بل تطويرُ عدّةٍ مفهومية أكثر رصانةً تُعيننا على تشخيص العطب البنيوي: الدولة الأمنية وآثارها، الاقتصاد السياسي للخراب، التدويل العسكري للأرض السورية، الحرب الإعلامية على المنصات الكبيرة والصغيرة، وآليات التنميط والكراهية التي ترافق الأزمات. عندئذٍ فقط يمكن أن تتحوّل اللغة من أداةِ فرزٍ وتعبئة، إلى وسيلةِ فهمٍ وبناءٍ وإصلاح، وهو الطريق الأقصر نحو عقدٍ اجتماعيّ جديد، ووطنيةٍ سوريةٍ قابلةٍ للعيش.
[1] الحرب الأهلية السوريّة في طورها الثاني. عن نهاية سوريا وخيارات مستقبل «الأغيار» خارجها، موريس عايق، صحيفة الجمهورية، 22-08-2025
https://shorturl.at/1pM0C
[1] كتاب الفاشية الإسلامية Der Islamische Faschismus، حامد عبد الصمد، صدر باللغة الألمانية عام 2014، ومترجما للعربية عام 2019.
[1] Islamic Terror: Conscious and Unconscious Motives، Avner Falk، Bloomsbury Academic, 2008، ISBN 0313357641, 9780313357640
[1] فيديو " الإسلام-فوبيا والأنتي-إسلام والتطرف الإسلامي"، علاء الخطيب، 03/09/2024
https://youtu.be/KgpzESEfh2g
[1] هل هي ثورة أم حرب أهلية في سورية؟، فيديو، علاء الخطيب
https://www.youtube.com/watch?v=L9UoEQQHLoQ
[1] سوريا حتى العام 2011، ما بين الابن وأبيه، علاء الخطيب، مركز حرمون للأبحاث، 29 كانون الأول/ديسمبر 2022
https://www.infosalam.com/syria/syria-studies/syria_to_2011
[1] Statism سيطرة الدولة، أو الدولانية، وتدل في العلوم السياسية على المبدأ القائل بأن السلطة السياسية للدولة شرعية إلى حد ما. وقد يشمل ذلك السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وخاصةً فيما يتعلق بالضرائب ووسائل الإنتاج.
[1] Roger David Griffin بروفسور التاريخ الحديث والتنظير السياسي في جامعة أكسفورد ببريطانيا. متخصص في دراسة الفاشية.
https://shorturl.at/zQ7ya
[1] Fascism: historical phenomenon and political concept، Roger Griffin & Olof Bortz، 25/10/2022
[1] Robert Owen Paxton بروفسور امريكي متخصص بالعلوم السياسية والتاريخية. متخصص بالدراسات حول الفاشية وأوروبا خلال الحرب العالمية الثانية.
تناول العلاقة بين الفاشية والدين في كتابه: تشريح الفاشية The Anatomy of Fascism، isbn: 1-4000-4094-9
[1] Emilio Gentile، بروفسور تاريخ إيطالي، يُعتبر من أهم الباحثين الإيطاليين في الفاشية.
[1] Fascistese: The Religious Dimensions of Political Language in Fascist، Oxford University Press, 2011
https://shorturl.at/TCh7m
[1] أخطاء التفسير الطائفي.. مقدمة في الطائفية، علاء الخطيب، مركز حرمون للدراسات، 3 حزيران/يونيو ,2022
https://www.infosalam.com/fundamentalism-backwardness/studies/sectarian_explaination
المكتب السياسي
الباحثين المستقلين
علاء الدين الخطيب