في اللحظة التي اختار فيها رأس الهرم السياسي في سورية (الرئيس) أن يتّجه نحو نهج المهادنة مع الكيان الصهيوني، لم يكن ذلك خيارًا عابرًا أو ضعفًا في الخطاب الوطني، بل كان قرارًا سياسيًا محسوبًا يهدف إلى حماية مسار الاستقرار الداخلي، وضمان استمرار الدعم الإقليمي والدولي لمسار الانتقال، وما يتبعه من استقرار اقتصادي وأمني وعسكري.
فالمرحلة حساسة، وأيّ هزّة ارتدادية – ولو كانت بحجم تصريح غير محسوب – قد تُحرّك مواقف الدول والكيانات الداعمة، وتلقي بظلالها على ملفات بالغة الدقة مثل رفع العقوبات، وإلغاء قانون قيصر، وإعادة الإعمار، وإعادة دمج سورية في محيطها العربي والدولي.
لكن ما حدث خلال العرض العسكري يوم التحرير، والذي حضره الرئيس، يفتح الباب أمام أسئلة تستحق التوقف! فالمؤسسة العسكرية، وفي لحظة وطنية عالية، خرجت بهتافات وشعارات داعمة لغزة، ومناهضة لإسرائيل.
وعلى الرغم من نبالة تلكم الشعارات وعدالة القضية، إلّا أنّ السياسة ليست دائمًا مرآة مباشرة للمشاعر، بل هي ميزان معقد للمصالح والتوقيتات والرسائل.
إن ما جرى يترك انطباعًا خطيرًا على مستويين:
الأول: اختلال الانضباط داخل المؤسسة العسكرية، فالعرض العسكري ليس مساحة للتعبير الحر، بل هو مساحة للانضباط، وللانصهار في قرار الدولة، ولإظهار صورة القوة المنظمة أمام الشعب والعالم.
وعندما تفقد هذه المؤسسة قدرتها على الالتزام بضوابط “المهادنة السياسية” التي يقودها الرئيس في مرحلة حساسة، فذلك يفتح الباب لسؤال جوهري: هل تمتلك المؤسسة العسكرية وحدة قرار! أم أن هناك تيارات داخلها تسعى لإرسال رسائل موازية؟
الثاني: تأثير مباشر على مسار الاستقرار السياسي! فهتافات كهذه – رغم عدالتها – لا تقرأ بعيون الشارع السوري فقط، بل تقرأ أيضًا بعين الشركاء الدوليين كالولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا، والمنظمات الدولية، والقوى العربية الداعمة لمسار الاستقرار، والمؤسسات التي تناقش اليوم مصير العقوبات ورفعها.
وبالتالي، فإن خروج المؤسسة العسكرية عن خطّ الرسائل الرسمية قد يعطي انطباعًا بأن الدولة غير موحدة الخطاب، وأن مواقفها لا تزال متقلبة أو خاضعة للاندفاع الشعبي والعاطفي، وهو ما ينعكس فورًا على صعوبة إلغاء قانون قيصر (وهذا ما نخشاه)، وهشاشة الثقة الدولية في المرحلة الانتقالية، وتوقف أو تجميد وعود التمويل، ومخاوف من عودة العسكرة غير المنضبطة إلى المشهد السياسي
إن ما جرى ليس خطأً في بروتوكول، ولا هتافًا عابرًا!! بل مؤشر على فجوة خطيرة بين قرار القيادة السياسية وسلوك المؤسسة العسكرية.
وفي مرحلة ما بعد سقوط النظام السابق، تحتاج سورية أكثر من أي وقت مضى إلى ضبط المؤسسة العسكرية، وتوحيد الخطاب الرسمي، ومنع أي رسائل ارتجالية، والحفاظ على صورة الدولة “العاقلة والمتزنة” أمام العالم
فوجود صوتين – سياسي مهادن وعسكري مندفع – هو وصفة خطيرة لأي دولة تخطو خطواتها الأولى نحو الاستقرار.
وحتى لا يكثر الهرج، فإنني من حيث المبدأ، ومن الناحية الوطنية والوجدانية، فنحن جميعًا نقف مع غزة، ونرفض الاحتلال، وندعم الحق الفلسطيني.
لكن الحكم مسؤولية، ومسار الاستقرار في سورية اليوم يحتاج إلى حكمة، وحساب دقيق للرسائل، خاصةً في توقيتاتٍ محددة ومتابعة.
إن رفع شعار في توقيت غير مناسب قد يحرم الشعب السوري من رفع العقوبات، وفتح المعابر الاقتصادية، وإطلاق مشاريع إعادة الإعمار، وتثبيت استقرار العملة، وتمكين الحكومة الجديدة من أداء واجبها
وحين تتعارض الشعارات مع مصلحة الشعب، يصبح الواجب هو تقديم مصلحة الدولة والشعب أولًا.
وباختصار: فالمطلوب اليوم ليس إخماد الروح الوطنية داخل المؤسسة العسكرية، بل توجيهها ضمن أطر الانضباط، بحيث تعكس وحدة القرار السياسي، لا التناقض بين المؤسسات، فسورية انتصرت، نعم، لكن بناء الدولة بدأ الآن كما ذكر الرئيس الشرع، ولا دولة بلا انضباط، ولا استقرار بلا حكمة.