تحوّلات الإعلام الجدلي وتحدّيات ثقافة الحوار في سورية

ملخص تنفيذي: الإعلام الجدلي وتحديات الحوار في سورية

تستعرض هذه الورقة ظاهرة الإعلام الجدلي في الفضاء العربي، مع التركيز على برنامجي «الاتجاه المعاكس» و«على الطاولة» كنماذج بارزة، وتأثيرها على الوعي السوري خلال مرحلة الانتقال السياسي.
كما تُظهر الدراسة أن هذا النمط من الإعلام يعتمد على الصدام والانفعال لإثارة الجمهور وجذب المشاهدات، ما يضعف القدرة على النقاش العقلاني ويكرّس الاستقطاب الاجتماعي والسياسي.

تبيّن الدراسة أن الإعلام الجدلي يستخدم إطار الصراع (Conflict Framing) الذي يحوّل القضايا المعقدة إلى ثنائيات صارمة، ويقود المشاهدين إلى الاصطفاف العاطفي بدل التحليل النقدي، وقد ساهمت برامج مثل «الاتجاه المعاكس» في تعزيز هذه الثقافة، إذ أصبحت النقاشات أشبه بمبارزات كلامية تعتمد على تسجيل النقاط على الخصم، لا على تبادل الرؤى.

ورغم ذلك، تشير الورقة إلى أن الإعلام الجدلي يمكن أن يؤدي دورا إيجابيا في مرحلة الانتقال السياسي، بشرط الالتزام بضوابط مهنية وأخلاقية صارمة، تضمن توازن الصوت والتمثيل، وتحويل الصراع من العنف المادي إلى النقاش الرمزي البناء. ففي هذه الحالة، يمكن للجدل أن يصبح وسيلة لتفريغ التوترات وتحويل النزاعات إلى حوار وطني سلمي.

توصي الورقة بأن يتحوّل الإعلام السوري إلى أداة لتعزيز المصالحة الوطنية وبناء المجال العمومي، من خلال:

  1. تشجيع ثقافة الإصغاء المتبادل بدل الصراخ المتبادل.
  2. اعتماد البحث والتحليل كأساس للبرامج الحوارية.
  3. وضع مدونات سلوك إعلامية تمنع الاستفزاز والتلاعب بالعواطف.
  4. دعم الإعلام المحلي والمجتمعي الذي يعكس التنوع السوري دون استقطاب.
  5. ربط الإعلام الأكاديمي بالجامعات ومراكز البحوث لتعزيز النقاش الرصين.

تخلص الورقة إلى أن نجاح التحول الديمقراطي في سورية مرتبط بقدرة الإعلام على العمل كرافعة للوعي والمصالحة، بعيدا عن منطق الصراع الاستعراضي، مع الاستفادة الممكنة من الجدل المنظم كأداة لإدارة الصراع وتحويله إلى نقاش سلمي.

المقدمة:

منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، مثّل برنامج «الاتجاه المعاكس» نموذجا فريدا في الإعلام العربي من حيث قدرته على جذب الجمهور وإثارة النقاش العام، لكنه في الوقت نفسه أسّس لأسلوب إعلامي جديد يمكن وصفه بـ«إعلام الجدل».
هذا النمط يعتمد على الصدام اللفظي وتبادل الاتهامات أكثر مما يعتمد على الحوار الهادئ أو إنتاج المعرفة. ومع ظهور برامج جديدة، مثل «على الطاولة»، بدا أن هذا النهج لم يتراجع بل أخذ أشكالا جديدة في مرحلة الإعلام الرقمي.
تسعى هذه الدراسة إلى تحليل ظاهرة الإعلام الجدلي بوصفها أحد مظاهر الأزمة البنيوية في الخطاب العربي العام، وأثرها على تشكل الوعي السوري في مرحلة التحول السياسي الراهنة.
فبينما تحتاج سورية اليوم إلى إعلام يعيد بناء الثقة الوطنية ويؤسس لحوار ديمقراطي جامع، ما تزال بعض النماذج الإعلامية تكرّس ثقافة الانقسام والانفعال بدلا من التفكير الهادئ والنقاش البنّاء.

أولا، مفهوم إعلام الجدل وجدليّة الإثارة:

يشير مصطلح «إعلام الجدل» إلى النمط الاتصالي الذي يجعل الإثارة والانفعال غاية رئيسة للبرامج الحوارية، حيث يتحول الخلاف في الرأي إلى صراع رمزي بين طرفين متقابلين، يهدف كل منهما إلى تسجيل النقاط على الآخر أمام الجمهور.
هذا النوع من البرامج يوفّر مادة جذابة من الناحية المشاهداتية، لكنه يفتقر إلى العمق التحليلي والمنهج النقدي.
وقد أظهرت دراسات في علم الاتصال السياسي أن هذا النوع من الإعلام يقوم على ما يُعرف بـ"Conflict Framing"، أي تأطير النقاش كصراع بين معسكرين، لا كحوار من أجل الفهم.
يؤدي ذلك إلى تعزيز النزعة الاستقطابية لدى الجمهور بدلًا من ترسيخ ثقافة الحوار.
في السياق العربي، مثّل فيصل القاسم نموذجا بارزا في هذا الاتجاه، إذ استطاع تحويل النقاش العام إلى ما يشبه "المبارزة الكلامية"، وهي صيغة تضمن أعلى معدلات المشاهدة، لكنها تضعف البعد التثقيفي للإعلام وتؤدي إلى تبسيط القضايا المعقدة على نحو يختزلها في ثنائيات حادة: خيانة مقابل وطنية، علمانية مقابل دينية، موالاة مقابل معارضة، إلخ.

ثانيا، من «الاتجاه المعاكس» إلى «على الطاولة» – إعادة إنتاج النمط:

حين أطلق الإعلامي معاذ محارب برنامجه «على الطاولة»، بدا في بدايته وكأنه يسعى إلى تقديم بديل عقلاني أكثر هدوءا واتزانا.
إلا أن تطور الحلقات الأخيرة كشف عن عودة إلى النسق الجدلي ذاته الذي اعتمده «الاتجاه المعاكس»، حيث تحوّل الحوار إلى منافسة حادة على تسجيل المواقف لا على إيضاح الأفكار.
توضح التجربة أن جاذبية "إعلام الجدل" تستند إلى اقتصاد الانتباه (attention economy)، إذ يتغذى على انفعالات الجمهور وردود أفعالهم السريعة في فضاء رقمي يعتمد على نسب المشاهدة والتفاعل.
لكن هذا النمط، وإن كان يحقق رواجا، يضعف قدرة الإعلام العربي على أداء دوره التنويري والمعرفي، ويعزز ثقافة الصدام التي أنهكت المجتمعات العربية عامة والسورية خاصة.

ثالثا، الأثر النفسي والاجتماعي للإعلام الجدلي:

تُظهر أبحاث الإعلام السياسي أن البرامج القائمة على الصدام الكلامي تعيد تشكيل الوعي الجمعي على أسس انفعالية، فالمشاهد لا يتلقى المعلومة بل يعيش موقفا وجدانيا مؤقتا، يقوده إلى الاصطفاف بدل الفهم. وقد أشار (Iyengar & Hahn, 2009) إلى أن التعرض المستمر لمحتوى استقطابي يولّد ما يُعرف بـ"Selective Exposure" أي الميل إلى متابعة الآراء المؤيدة فقط، مما يضعف التنوع المعرفي ويزيد الانغلاق الفكري.
بالنسبة إلى الحالة السورية، فإن استمرار هذا النمط من الإعلام يعمّق الشقاق بين المكونات السياسية والاجتماعية، ويحول دون بناء بيئة إعلامية داعمة للمصالحة الوطنية.
فبدل أن تكون البرامج الحوارية منبرا لتقريب وجهات النظر، تتحول إلى منابر لتغذية مشاعر الغضب والانقسام، وهو ما يتناقض مع حاجات المرحلة الانتقالية القائمة على التفاهم والمشترك الوطني.

رابعا، الإعلام الجدلي والتحول الديمقراطي في سورية:

تحتاج سورية في مرحلة ما بعد الحرب إلى إعلام يعيد بناء المجال العمومي (public sphere) على أسس جديدة: حرية مسؤولة، وتعددية، واستقلالية عن الاستقطاب السياسي.
غير أن استمرار تأثير الإعلام الجدلي يعيق هذه العملية، لأنه يربط الرأي العام بالانفعال لا بالعقل.
وإن التحول الديمقراطي لا يمكن أن ينجح في بيئة إعلامية تُعيد إنتاج الانقسام عبر الشاشات، إذ يصبح الحوار السياسي أقرب إلى الصراع المسرحي منه إلى النقاش المؤسسي.

من هنا، يرى تيار المستقبل السوري أن إعادة بناء الإعلام الوطني يجب أن تكون جزءا من مشروع العدالة الانتقالية، بوصفها عملية إصلاح معرفي وثقافي لا تقل أهمية عن الإصلاح القضائي أو الدستوري.

خامسا، نحو إعلام حواري جديد للمرحلة السورية:

يرى تيار المستقبل السوري أن التحدي الإعلامي في سورية الجديدة لا يكمن في غياب الحرية، بل في سوء توظيفها.
فحرية الإعلام يجب أن تُترجم إلى مسؤولية مهنية وأخلاقية ترفض الإثارة من أجل الإثارة، وتسعى إلى صناعة معرفة نقدية تؤسس للمشترك الوطني.

ولهذا يقترح تيار المستقبل السوري أن يقوم الإعلام السوري المقبل على الركائز الآتية:

  1. ترسيخ ثقافة الإصغاء المتبادل بدل ثقافة الصراخ المتبادل.
  2. إعادة الاعتبار للبحث والتحليل في البرامج الحوارية.
  3. اعتماد مدونات سلوك إعلامي تمنع التلاعب بالعواطف الجمعية.
  4. تشجيع الإعلام المحلي والمجتمعي الذي يعبر عن التنوع السوري دون استقطاب.
  5. ربط الإعلام الأكاديمي بالجامعات ومراكز البحوث لرفع مستوى النقاش العام.

سادسا، الإعلام الجدلي والمرحلة الانتقالية في سورية:
من منظور فلسفة الاتصال والتحول الديمقراطي، يمكن للإعلام الجدلي أن يكون مفيدا إذا ما أُدير بشكل واعٍ عبر:

  1. تحويل الصراع من العنف المادي إلى العنف الرمزي، أي تحويل التوترات السياسية أو العسكرية السابقة إلى منابر حوارية منظمة.
  2. الالتزام بضوابط مهنية صارمة مثل التوازن في تمثيل الأطراف، وتجنّب الاستفزاز الشخصي، وحصر النقاش في القضايا الموضوعية.
  3. استثمار الإعلام في بناء المجال العمومي، عبر تعزيز النقاش العقلاني وتفريغ التوترات الجماهيرية، ما يسهّل الانتقال السياسي ويدعم المصالحة الوطنية.
    لكن الواقع الإعلامي الحالي في سورية يظهر أن البرامج مثل «الاتجاه المعاكس» و«على الطاولة» لا تزال تعتمد على الصدام والانفعال أكثر من كونها أدوات للنقاش البنّاء، ما يجعل تأثيرها على الانتقال السياسي محدودا، بل قد يكون سلبيا إذا استمر على نسقه الحالي.

الخاتمة:

من «الاتجاه المعاكس» إلى «على الطاولة»، يتكرر المشهد الإعلامي العربي في دورته ذاتها: جدل، صدام، استقطاب، ثم نسيان. إلا أن سورية التي تخوض اليوم تجربة انتقال ديمقراطي فريدة تحتاج إلى إعلام وطني جديد يعيد تعريف الحوار كقيمة لا كأداة، ويجعل من الكلمة وسيلة للفهم لا للسجال.
إن الإصلاح الإعلامي في هذه المرحلة ضرورة وطنية لإعادة بناء الثقة المجتمعية وترسيخ ثقافة الحوار المدني التي تُشكّل قاعدة لأي مشروع وطني جامع.

المراجع:

  1. Entman, R. M. (1993). Framing: Toward Clarification of a Fractured Paradigm. Journal of Communication, 43(4), 51–58. https://doi.org/10.1111/j.1460-2466.1993.tb01304.x
  2. Iyengar, S., & Hahn, K. S. (2009). Red Media, Blue Media: Evidence of Ideological Selectivity in Media Use. Journal of Communication, 59(1), 19–39. https://doi.org/10.1111/j.1460-2466.2008.01413.x
  3. McNair, B. (2011). An Introduction to Political Communication. Routledge.
  4. Dahlgren, P. (2009). Media and Political Engagement: Citizens, Communication, and Democracy. Cambridge University Press.
  5. Kraidy, M. M. (2009). Reality Television and Arab Politics: Contention in Public Life. Cambridge University Press.

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع