تفوق الغرب وأسبابه الجوهرية
حقيقة الغرب لم يتفوق على الشرق الأوسط لأنه أكثر قداسة أو عدلا بل لأنه أدرك منذ قرون أن القوة الحقيقية لا تقاس بعدد الجنود،بل بعمق التفكير، واتساع الأفق، وصلابة الاستقلال الذهني. ففي حين نحن نحتفل بالشعارات، يحتفل هو بالاختراعات وفيما نكرر الماضي كقداسة مطلقة، يعيد هو اختراع الحاضر كمشروع قابل للنقد والتطوير. الغرب اليوم متفوق بشكل مذهل في الفلسفة، والعلم، والتقنية، والتنظيم الاجتماعي، والاقتصاد، وحتى في صناعة الوعي نفسه. أما نحن، فما زلنا نحاول أن نستفيد من الهوامش التي يتركها لنا هذا التفوق: من بقايا التمويل الإنساني، أو الفتات الدبلوماسي، أو التصريحات الرنانة في المؤتمرات الدولية. ونفعل ذلك بمنطق الاستجداء، لا بمنطق الشراكة أو المواجهة. وهذا النهج، بكل وضوح، لا يحمل أي فرصة حقيقية للنجاح، بل هو استمرار للخضوع بثوب جديد.
غزة: نموذجا للتناقض القاتل
ومن أبرز تجليات هذا العجز ظهرت في أحداث غزة فحين شنت حماس هجوما على إسرائيل،كانت إسرائيل، التي هوجمت، في الحقيقة هي القوة المهيمنة عالميا المدعومة بأقوى جيش، وأذكى نظام استخبارات، وأكثر شبكات النفوذ فعالية في التاريخ الحديث. ثم، وبعد أن دمرت البيوت، وقتل الأطفال تحت الأنقاض، وانقطعت الكهرباء والماء، لم يجد المسؤولون الفلسطينيون وسيلة سوى اللجوء إلى الأمم المتحدة، أو الاتحاد الأوروبي، أو لجان حقوق الإنسان، طالبين الحماية أو التحقيق أو إيقاف الحرب. لكن السؤال الذي لا يطرح بجرأة كافية هو: هل هذه المؤسسات حقا محايدة؟ أم أنها جزء لا يتجزأ من النظام العالمي الذي تهيمن عليه القوى الغربية، والحليف الاستراتيجي لها، إسرائيل؟ الجواب واضح للعيان: هذه المؤسسات لا تعمل بمنطق العدل، بل بمنطق المصالح. وهي تطبع كل قرار يصدر عنها بطابعها الخاص، الذي لا يخدم سوى استمرار الهيمنة. وهنا يكمن التناقض القاتل: إذا كنت قد صنفت إسرائيل كعدو وجودي حقيقي، فلا يجوز أن تستجدي العون من المؤسسات التي تمولها، وتشرعن جرائمها، وتغطي على احتلالها. فهذا ليس موقفا بل خداع للشعب، وتلاعب بالوعي. فأنت إما أن تخضع للهيمنة، فتلتزم الصمت، أو أن تخوض صراعا حقيقيا في وجهها، بصوت حر، ومشروع مستقل، وعقل لا يستعير. أما أن تصرخ يا ظالم! وأنت تطرق باب الظالم نفسه، فهذا ليس مقاومة، بل استسلام مقنع.
تركيا: ارتباك المواقف والاستغلال السياسي
وفي تركيا،نرى هذا الارتباك بوضوح مزري. فالسلطة الحاكمة، التي ترفع شعارات إسلامية، تعمق في الوقت نفسه علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع إسرائيل، وتستورد منها قطع تصنيع الطائرات وتشارك في مناورات أمنية معها، ثم تطلق خطابات نارية ضد الصهيونية حين تزداد الضغوط الشعبية. هذا ليس موقفا مبدئيا، بل استغلالا سياسيا ذكيا للدين، لصرف الأنظار عن التبعية الواقعية للغرب ولإسرائيل. ولأن الخيار الثاني أي خوض صراع حقيقي قائم على الاستقلال الذهني والمادي لم يتخذ في تركيا بعد فسيظل التفكير ضبابيا، مشوشا، يخلط بين العاطفة والسياسة، بين الهوية والواقع.
الرأسمالية المستفيدة وثمن الوهم
وفي هذا الفراغ،تجد الطبقة الرأسمالية ضالتها. فهي لا تهمها الشعارات، بل تهمها الأرباح. فتستغل هذا الاضطراب الذهني والسياسي لتعميق نفوذها، وتضخيم ثرواتها، وتوسيع شبكاتها عبر الصفقات المشبوهة، والمشاريع التي تخدم المصالح الخارجية أكثر من المحلية. وهكذا، تصبح الطبقة الرأسمالية هي المستفيد الأكبر من هذا الصراع، بينما يدفع الشعب الثمن مرتين: مرة بالدم، ومرة بالوهم.
المقاومة الحقيقية: بناء المنظومة البديلة
ولهذا فنحن اليوم بحاجة لمخرج جذري من هذا المأزق ليس بمواجهة الغرب بالسلاح فقط،بل من خلال بناء مجتمع ديمقراطي حر من الداخل، يعتمد على الذات، لا على الخارج. فالمجتمع الذي لا ينتج طعامه، ولا يصنع أدويته، ولا يعلم أولاده بفلسفة مستقلة، ولا يدرب نساءه على القيادة، ولا ينظم اقتصاده على أساس التضامن، لا يمكن أن يكون حرا، مهما رفع من شعارات. فالمقاومة الحقيقية ليست في إطلاق الصواريخ، بل في زراعة القمح، وتعليم الطفل، وتنظيم الاقتصاد، وبناء الديمقراطية من الأسفل. لأن إسرائيل، في جوهرها، ليست مجرد دولة، بل هي تجسيد حي لمنظومة الحداثة الغربية: علم، وتنظيم، واستقلال، وعقل استراتيجي. ولن نهزم هذه المنظومة بالعاطفة أو بالخطابات، بل بإنشاء منظومة بديلة، قائمة على العدالة، والمساواة، والمشاركة، والاحترام المتبادل بين الإنسان والطبيعة.
الانهيار الذهني واستعمار العقول
فحقيقة اليوم حان الوقت لكي نعترف:أن ما نعيشه اليوم ليس ضعفا عسكريا فحسب، بل انهيارا ذهنيا. فنحن نستخدم أدوات الغرب لمحاربته، وندافع عن ديننا بلغته، ونطلب الحرية من سجانيها. وهذا لا يمكن أن ينجح، لأنه يفتقر إلى الاتساق والصدق.
فالغرب في الحقيقة،لا يخاف من صواريخنا، بل من قدرتنا على التفكير المستقل. فحين نبني مجتمعا لا يحتاج إلى استجداء أحد، حينها فقط سنكون أحرارا.
لأن الاستعمار الحديث اليوم لا يغزو بالدبابات،بل بالعقول المستعارة. ومن لا يملك فكرا خاصا، لا يملك مستقبلا. والسؤال اليوم ليس: من يمتلك السلاح؟ بل: من يمتلك العقل؟ ومن يبني؟ ومن ينتج؟ لأن الهيمنة لا تكسر بالغضب، بل بالعمل. ولا تهزم بالشعارات، بل بالمجتمعات الحية. وإذا استمررنا في التظاهر بالإسلاموية، وطلب العون من أعدائنا، وتركنا الطبقة الرأسمالية تستغل دمنا، فسنبقى، مهما ارتفع صوتنا، مجرد همس في مملكة الصمت.