تشهد سورية تحولاً استراتيجياً بارزاً في علاقاتها مع الولايات المتحدة في أعقاب تولي الرئيس أحمد الشرع السلطة، فبعد سنوات من العزلة الدولية والنزاع الدموي، وسقوط نظام الأسد المجرم، يبدو أن الإدارة السورية الجديدة تتبنى نهجاً متعدد الأبعاد لاستعادة وجودها على مسرح السياسة العالمية.
هذا النهج لا يقتصر على الرهان على إدارة تنفيذية واحدة، بل يتّجه نحو بناء تحالف تشريعي داخل الكونغرس الأميركي، ما يعكس وعياً بمخاطر التقلبات السياسية الأمريكية ويعيد رسم خريطة النفوذ السوري في واشنطن.
من الرمزية إلى القوة التشريعية، لقاءات تاريخية مع الكونغرس:
في 10 نوفمبر 2025م، التقى الرئيس السوري أحمد الشرع بالنائب الجمهوري براين ماست، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب، في إطار سعيه للحصول على دعم لإلغاء قانون قيصر الذي يفرض عقوبات صارمة على دمشق.
إذ غالباً ما كان ماست من الأصوات المعارِضة لإلغاء هذا القانون، لكن بعد اللقاء وصف محادثته مع الشرع بأنها "طويلة وجادّة" وتطرّق إلى بناء مستقبل لسورية "خالية من الحرب والإرهاب والتطرّف" حسب ما أفادت وكالة الأناضول.
وفي هذا اللقاء، نقل ماست أن السلطة السورية تريد "التحرر من ماضٍ مؤلم" وأنها تطمح لأن تصبح "حليفة كبرى" للولايات المتحدة الأمريكية.
لم يكن اللقاء مع ماست منعزلاً، فخلال زيارة الشرع لواشنطن، التقى أيضاً نواباً جمهوريين آخرين مثل جو ويلسون و مارلين ستوتزمان، الذين عبّروا عن تأييدهم لـ "إلغاء كامل لقانون قيصر" عبر تصريحات على وسائل التواصل الاجتماعي.
هذه اللقاءات تشكّل انعطافا مهماً في الاستراتيجية السورية، لأنها تتجاوز التنسيق مع الإدارة التنفيذية لتشمل البنية التشريعية التي يمكن أن تضع الأساس لتحوّل دائم في العلاقات مع واشنطن.
ومن جهة أخرى، تضمّنت الجهود السورية أيضاً استقبال وفد كونغرس من الحزبين في دمشق.
ففي أغسطس 2025، زار سورية وفد يضم سيناتورين هما ماركواين مولِّن وجوني إرنس، وكذلك نواباً من مجلس النواب، في خطوة تؤكد أن دمشق تسعى إلى فتح حوار مزدوج الاتجاه مع مختلف قوى الكونغرس.
وقد بدا أن هذا اللقاء البرلماني في دمشق من جانب أعضاء من كلا البيتَين البرلمانيَين في الولايات المتحدة يمثّل إشارةً واضحة إلى استراتيجية تشبيك أوسع، لا تقتصر على أجنحةٍ معينة فحسب.
دعم من البيت الأبيض… لكن ليس دون شروط:
لم يكن ذاك اللقاء التشريعي الأوحد في السياسة السورية الأمريكية، فقد سبق ذلك يوم محوري في 10 نوفمبر 2025، حيث زار الشرع البيت الأبيض والتقى بالرئيس دونالد ترامب، بعد أن أعلن الأخير عن تمديد تعليق بعض العقوبات لمدة 180 يوماً بموجب التنازل الرئاسي.
هذا اللقاء كان محطة رمزية مهمة، فهو أول زيارة رسمية لرئيس سوريٍّ إلى البيت الأبيض منذ استقلال سورية عام 1946.
وفي هذا الاجتماع، أطلق ترامب تصريحات أشاد فيها بالرئيس الشرع، ووصفه بأنه "رجل صلب من ماضٍ صعب" وشدّد على أهمية استقرار سورية ضمن استراتيجية الولايات المتحدة الإقليمية.
لكن هذا الدعم من الإدارة التنفيذية له شروط ضمنية! فوفق ما نقلته وسائل إعلام مثل "الجزيرة" فإن واشنطن وضعت أولويات أمنية محدّدة، منها مكافحة تنظيم الدولة داعش، وإنجاز إصلاحات، وضمان تطور سياسي داخلي.
كما أن تعليق العقوبات لا يعني رفعها الكامل، فبعض العقوبات، خصوصاً تلك التي أقراها الكونغرس تحت قانون قيصر، تظل رهينة تشريع برلماني، مما يعيد إلى الواجهة أهمية التواصل مع الكونغرس.
الحضور البرلماني المتزايد… هل نشهد تحالفاً حقيقياً؟:
في إطار الجهود التشريعية، أشار الرئيس الشرع في مؤتمر صحفي إلى أن "الغالبية" من أعضاء الكونغرس تدعم رفع العقوبات عن سورية، بعدَ لقاءاته ببعض النواب خلال زيارته إلى واشنطن.
هذه التصريحات، حسب ما نقلته بعض المصادر، تظهر أن استراتيجية دمشق لا تكتفي بالحقن الرئاسي، بل تسعى لكسب شرعية تشريعية عبر دعم عدد من المشرعين من الحزبين.
ومن جهة أخرى، زار وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني واشنطن في سبتمبر 2025 في أول زيارة منذ أكثر من ربع قرن، حيث اجتمع مع مشرّعين، من بينهم السيناتور لينزي غراهام، لبحث إلغاء العقوبات بشكل دائم، مما يجعل تلك الزيارة الوزارية مؤشّرا واضحا على جدية دمشق في التفاعل مع المؤسسات التشريعية الأميركية، وليس فقط مع البيت الأبيض.
درس من تركيا: الرهان الأحادي والتحذير من الاستغلال:
لا يمكن قراءة استراتيجية سورية الجديدة دون العودة إلى تجربة المعارضة السورية الفاشلة في تركيا.
إذ وجهت المعارضة السورية جهودها نحو حزب العدالة والتنمية الحاكم في أنقرة، وراهنت على دعمه لتحقيق مكاسب سياسية أو حماية للمجتمع السوري اللاجئ.
لكن هذا الرهان الأحادي جلب مشاكل كبيرة عندما انتقدت المعارضة التركية حزب العدالة والتنمية، واستُغِلت "ورقة السوريين" في السياسة الداخلية كأداة ضغط، فاتهمت المعارضة التركية الحزب بأنه "يدعم السوريين على حساب الشعب التركي"، ما أسهم في تصاعد التوترات بين السوريين والمجتمع التركي وأضعف قدرة المعارضة السورية على التأثير الفعلي.
هذه التجربة ترسّخ درساً استراتيجيا مهمًا للإدارة السورية اليوم، وهو أن الرهان على جهة سياسية واحدة في بلد أجنبي قد يكون محفوفاً بالمخاطر، وقد يؤدي إلى استغلال مصلحة السوريين من قبل طرف ثالث.
لذلك، من المهم أن تدرك القيادة السورية الجديدة أن الاستقرار طويل الأمد يتطلب تنويع القنوات السياسية، ليس فقط التفاوض مع الإدارة التنفيذية، بل أيضاً بناء دعم تشريعي داخل الكونغرس، من خلال إشراك أعضاء من الحزبين.
التحليل الاستراتيجي.. مزايا ومخاطر:
مزايا استراتيجية التوازن:
- مرونة عالية بفتح قنوات لدى الكونغرس والإدارات التنفيذية على حد سواء، تضمن لدمشق قدرة أكبر على التكيف مع التغيّرات في واشنطن، سواء بفوز إدارة جديدة أو تغيّر الأولويات السياسية.
- شرعية تشريعية طويلة الأمد، عبر بناء تحالف مع نواب وشيوخ مؤيدين لتحرير العقوبات وبما يمنح دمشق فرصاً أفضل لتمرير تشريعات فعلية بدل الاعتماد على تنازلات تنفيذية مؤقتة.
- تجاوز العزلة الدولية عبر التواصل البرلماني، تُحوّل سورية من دولة مُعارَضة إلى طرف سياسي يتفاعل مع القوى التشريعية الأميركية، وهذا بدوره يفتح الباب أمام إعادة إعمار واستثمارات.
- رد على النفوذ الإقليمي، فوجود دعم تشريعي أميركي لمصلحة سورية يمكن أن يعزّز موقف دمشق إقليمياً أمام الخصوم أو المنافسين، إذ يُظهر قدرة على بناء شراكة استراتيجية وليس مجرد التودد الانتقائي.
مخاطر محتملة:
- انقسامات داخل الكونغرس، فالدعم التشريعي غير مضمون بالكامل، كما أن هناك معارضة قوية من بعض النواب والشيوخ للآن، وقد تتحول الجلسات التشريعية إلى ساحة صراع سياسي إذا لم تُبنى تحالفات واسعة.
- شروط تنفيذية أميركية، فواشنطن ربما تفرض إجراءات أمنية أو سياسية (مثلاً ضمانات لمكافحة داعش أو إعادة هيكلة الجيش) مقابل تخفيف العقوبات، مما يمكن أن يقيّد سيادة القرار السوري.
- تقلّب الإدارة الأميركية حتى ولو تم التوصل إلى دعم من الكونغرس، فإن تغير الإدارة الأميركية في المستقبل قد يعيد فرض العقوبات أو تغيير شروط التعاون.
- استغلال سياسي داخلي، فالمعارضة السورية أو قوى محلية أخرى قد تنتقد الرهان على واشنطن، وتصف بعض اللقاءات بأنها تنازلات ضد مصلحة السيادة الوطنية، ما يمكن أن يُضعف الدعم المحلي.
ولكل ما سبق فإننا في تيار المستقبل السوري نوصي بما يأتي:
- تعزيز تحالف تشريعي: يجب أن تستثمر دمشق في بناء العلاقات مع عدد أكبر من أعضاء الكونغرس من الحزبين، وليس الاقتصار على نواب محددين.
- رصد تشريعي دائم: يجب أن تنشئ دمشق آلية دبلوماسية تتابع مشاريع القوانين في الكونغرس وتتفاعل معها proactively، خصوصاً فيما يتعلق بـِ العقوبات والإعمار.
- ضمان التزامات عملية: ففي كل لقاء مع المشرعين، ينبغي للسوريين تقديم رؤية واضحة لإعادة الإعمار، ومكافحة الإرهاب، واحترام حقوق الأقليات، حتى يكون الدعم التشريعي مبنياً على مصلحة متبادلة وليس فقط شعار رفع العقوبات.
- إشراك المجتمع المدني والجالية السورية: توظيف الجاليات السورية الأميركية والمنظمات المدنية كجسور ضغط دبلوماسي تشريعي يمكن أن يعزز الحملات داخل واشنطن من خلال خلق قاعدة شعبية.
- تعلم من تجارب الإقليم: كما في تركيا، يجب أن تتجنب القيادة السورية الرهان الأحادي، بل تبني استراتيجية توازن مرنة ومستدامة.
الخلاصة:
إن تحركات الإدارة السورية الجديدة نحو واشنطن، وخاصة لقاءاتها مع الكونغرس، تمثل تحولاً استراتيجياً مهماً في علاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية.
هذه الاستراتيجية المتوازنة، بين الإدارة التنفيذية والمشرّعين، ستعطي لدمشق أدوات قوية لمعالجة العقوبات واستعادة وجودها الدولي، لكنها ليست خالية من التحديات.
والدرس التاريخي من تجربة المعارضة السورية في تركيا يوضح أنه لا يمكن الاعتماد على جهة واحدة خارج الدولة، بل التنويع في العلاقات هو مفتاح الحماية والمصداقية السياسية.
وإذا نجحت دمشق في تنفيذ هذه الرؤية المتكاملة بذكاء، فإنها قد تجد في واشنطن شريكاً مختلفاً، ليس فقط من منطلق إغاثي، بل كشريك استراتيجي تشاركي لبناء سورية جديدة مستقرة وقوية.