في خضم التحولات الجذرية التي تشهدها سورية بعد سقوط نظام الأسد، وفي ظل تعثر المسارات الداخلية للتسوية، وتصاعد التوترات الإقليمية، جاء إعلان السفارة الأمريكية في دمشق عن انضمام سورية رسميا إلى التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، ليشكل لحظة مفصلية في تاريخ البلاد، ويطرح أسئلة عميقة حول مستقبل الدولة السورية، موقعها في النظام الدولي، وحدود سيادتها في مرحلة ما بعد الاستبداد.
هذا الحدث، الذي قد يبدو للوهلة الأولى مجرد خطوة أمنية تقنية، يحمل في طياته دلالات سياسية وفلسفية عميقة، تتجاوز البعد العسكري، لتلامس جوهر إعادة بناء الدولة، وإعادة تعريف علاقتها بذاتها وبالعالم.
فالسؤال الذي يفرض نفسه اليوم ليس فقط: لماذا انضمت سورية إلى التحالف؟
بل: ماذا يعني هذا الانضمام في سياق التحول السياسي، وما هي آثاره على مفهوم السيادة، وعلى توازنات القوى الداخلية والخارجية؟
أولا، التحالف الدولي كأداة لإعادة التموضع:
منذ تأسيسه في عام 2014، شكّل التحالف الدولي ضد تنظيم داعش إطاراً متعدد الأطراف لمحاربة الإرهاب، بمشاركة عشرات الدول، وتحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد لعب هذا التحالف دورا محوريا في دعم قوات محلية في العراق وسورية، أبرزها قوات سورية الديمقراطية (قسد)، التي كانت شريكا رئيسيا في العمليات ضد التنظيم.
انضمام سورية إلى هذا التحالف، بعد سقوط النظام البائد، يعكس رغبة واضحة من الحكومة السورية المؤقتة في إعادة التموضع ضمن النظام الدولي، والخروج من حالة العزلة التي فرضها النظام السابق وسحب ورقة التحالف من الجماعات مادون الدولة التي قد تستغل تلك الورقة لفرض شروطها على الحكومة الوليدة.
فالدخول في تحالف دولي بهذا الحجم لا يمكن أن يتم دون إدراك عميق لأبعاده السياسية، ولا دون استعداد لتحمل تبعاته الاستراتيجية.
إن الواقعية السياسية تقتضي الاعتراف بأن سورية، في مرحلتها الانتقالية، بحاجة إلى دعم دولي متعدد الأبعاد: أمني، اقتصادي، دبلوماسي. والانضمام إلى التحالف يوفر بوابة لهذا الدعم، ويمنح الحكومة المؤقتة شرعية دولية متزايدة، خاصة في ظل إعادة فتح السفارة السورية في واشنطن، وزيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى الولايات المتحدة، ولقائه بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ووزير الخارجية ماركو روبيو، وقائد القيادة المركزية الأمريكية.
لكن هذا التموضع الجديد لا يخلو من تعقيدات.
فالعلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، رغم تحسنها، لا تزال محكومة باعتبارات أمنية واستراتيجية، وقد تتأثر بتغير الإدارات أو بتطورات إقليمية.
كما أن التحالف نفسه ليس كتلة واحدة، بل يضم دولا ذات مصالح متضاربة في سورية، ما يفرض على الحكومة السورية المؤقتة إدارة دقيقة لهذه العلاقات، وتجنب الوقوع في تناقضات أو صراعات جانبية.
ثانيا، السيادة في مرحلة ما بعد الاستبداد:
منذ نشأة الدولة الحديثة، ارتبط مفهوم السيادة بالقدرة على اتخاذ القرار الحر، وبالاستقلال عن التأثيرات الخارجية.
لكن هذا المفهوم، في ظل العولمة والتحالفات الدولية، بات بحاجة إلى إعادة نظر. فالدولة لم تعد كيانا منعزلاً، بل جزءاً من شبكة علاقات دولية، تتطلب توازنا بين الاستقلال والانخراط.
في الحالة السورية، فإن الانضمام إلى التحالف الدولي يطرح سؤالا فلسفيا عميقا: هل يمكن لدولة خارجة من الاستبداد أن تمارس سيادتها عبر التحالفات؟ وهل يمكن للتحالف أن يكون أداة لتحرير القرار الوطني، لا لتقييده؟
الجواب، من منظور الواقعية السياسية، هو نعم، بشرط أن تُدار هذه التحالفات ضمن رؤية وطنية واضحة، وأن تُستخدم كأدوات لتحقيق المصلحة الوطنية، لا كبدائل عنها. فالسيادة ليست رفضا مطلقا للتعاون، بل قدرة على تحديد شروطه، وضمان ألا يتحول إلى تبعية.
من هنا، فإن الحكومة السورية المؤقتة مطالبة ببناء خطاب سياسي جديد حول السيادة، يتجاوز المفاهيم التقليدية، ويعكس واقع الدولة في القرن الحادي والعشرين. خطاب يعترف بالحاجة إلى التحالفات، لكنه يضع لها حدودا، ويُخضعها للمصلحة الوطنية، لا العكس.
ثالثا، العلاقة مع قسد والملف الكردي:
من أبرز التحديات التي يطرحها انضمام سورية إلى التحالف الدولي، العلاقة مع قوات سورية الديمقراطية، التي كانت شريكا رئيسيا للتحالف في الحرب ضد داعش.
فهذه القوات، التي تسيطر على مناطق واسعة في شمال شرق سورية، تمثل طرفا فاعلا في المعادلة الأمنية والسياسية، وتتمتع بدعم أمريكي مباشر.
لكن العلاقة بين الحكومة السورية المؤقتة وقسد لا تزال متوترة، خاصة بعد تعثر اتفاق آذار، الذي كان يهدف إلى بناء تفاهم سياسي بين الطرفين.
والانضمام إلى التحالف قد يُستخدم كورقة ضغط على قسد، لكنه قد يؤدي أيضا إلى تعقيد العلاقة، إذا لم يُدار بحكمة.
من هنا، فإن الواقعية السياسية تقتضي أن تُستخدم عضوية سورية في التحالف كأداة للحوار، لا للتصعيد.
فالحل في الملف الكردي لا يمكن أن يكون أمنيا فقط، بل يجب أن يكون سياسيا، قائماً على الاعتراف بالتعددية، وضمان الحقوق، ضمن إطار الدولة الوطنية الموحدة.
رابعا، التصعيد الإسرائيلي وتوازنات الرد:
في الوقت الذي أعلنت فيه سورية انضمامها إلى التحالف، كانت إسرائيل تكثف حضورها واحتلالها في الجنوب السوري، هذا التصعيد، الذي يأتي في ظل تغير التموضع السوري، يطرح تحديا إضافيا للحكومة المؤقتة، يتمثل في كيفية إدارة العلاقة مع إسرائيل، دون التفريط بالثوابت الوطنية، ودون الانجرار إلى مواجهات غير محسوبة.
فالتحالف مع الولايات المتحدة قد يُنظر إليه من قبل إسرائيل كفرصة لتعزيز التنسيق الأمني، لكنه قد يُستخدم أيضا كذريعة لتبرير مزيد من التصعيد، إذا رأت إسرائيل في التعاون الأمريكي-السوري تهديدا لمصالحها.
من هنا، فإن الحكومة السورية مطالبة ببناء سياسة خارجية متوازنة، تُحيّد الملف الإسرائيلي قدر الإمكان، وتُبقيه ضمن إطار الردع السياسي، لا المواجهة العسكرية، مع الحفاظ على ثوابت وطنية ترفض الاعتراف بأي توغل واحتلال يخرق القوانين الدولية، أضافة لرفض التطبيع غير المشروط.
خامسا، إعادة بناء المؤسسة الأمنية والعسكرية:
الانضمام إلى التحالف الدولي يفتح الباب أمام إعادة هيكلة المؤسسة الأمنية والعسكرية السورية، التي كانت لعقود أداة للقمع، لا للحماية زمن الأسد. فالتعاون الأمني مع دول التحالف، خاصة الولايات المتحدة، يوفر فرصة لتدريب القوات، وتحديث البنية الأمنية، ضمن إطار احترام حقوق الإنسان، وسيادة القانون.
لكن هذا التعاون يجب أن يُدار بحذر، لتجنب تحويل المؤسسة الأمنية إلى أداة خارجية، أو إلى قوة منفصلة عن القرار الوطني. فالتحدي هنا ليس فقط في بناء القدرات، بل في بناء العقيدة الأمنية الجديدة، التي تضع المواطن في مركز الاهتمام، لا في موضع الشك أو الاستهداف كما كانت سياسة الأسد.
في ضوء ما سبق، يمكن تقديم مجموعة من التوصيات السياسية للحكومة السورية المؤقتة، وللقوى الوطنية الفاعلة:
- تثبيت الانضمام للتحالف ضمن رؤية وطنية واضحة، تُربط بمطالب محددة، مثل دعم إعادة الإعمار، والاعتراف بالحكومة، وضمان وحدة الأراضي السورية.
- إدارة العلاقة مع قسد عبر الحوار السياسي، وليس عبر التصعيد، مع الاستفادة من موقع سورية الجديد داخل التحالف.
- تحييد الملف الإسرائيلي عبر ضبط الخطاب السياسي، وتجنب الانجرار إلى ردود فعل غير محسوبة، مع الحفاظ على الثوابت الوطنية.
- إطلاق حوار داخلي حول مفهوم السيادة، لتجاوز المفاهيم التقليدية، وبناء وعي سياسي جديد يتناسب مع المرحلة الانتقالية.
- إعادة هيكلة المؤسسة الأمنية والعسكرية ضمن إطار وطني، وبالتعاون مع شركاء التحالف، دون التفريط بالقرار السيادي.
- بناء سياسة خارجية متوازنة، تُراعي مصالح سورية، وتُحافظ على استقلالية القرار، دون الانعزال أو التبعية.
خاتمة:
إن دخول سورية إلى التحالف الدولي ضد تنظيم داعش كما هو خطوة أمنية، هو إعلان عن تحول استراتيجي في موقع الدولة السورية، وفي رؤيتها لنفسها وللعالم. وهو لحظة لإعادة تعريف السيادة، والتحالف، والمصلحة الوطنية، ضمن واقع دولي معقد، ومتغير.
لكن هذا التحول، رغم أهميته، لا يمكن أن يُثمر دون إدارة سياسية حكيمة، تُوازن بين الانخراط الدولي والاستقلال الوطني، وبين الواقعية السياسية والمبادئ الوطنية.
فالمستقبل السوري لا يُبنى بالتحالفات وحدها، بل بالرؤية، والإرادة، والقدرة على تحويل الفرص إلى أدوات للحرية، لا إلى قيود جديدة.
وفي هذه اللحظة المفصلية، فإن تيار المستقبل السوري، مطالب بأن يكون في قلب هذا التحول، حاملا لمشروع وطني جامع
وإن تيار المستقبل السوري، بوصفه فاعلا سياسيا ملتزما بمشروع وطني ديمقراطي، يرى في انضمام سورية إلى التحالف الدولي خطوة استراتيجية يجب أن تُوظف ضمن رؤية شاملة لإعادة بناء الدولة، لا أن تُستخدم كأداة ظرفية أو تكتيكية. فالتحالفات الدولية، مهما كانت قوتها، لا يمكن أن تحل محل الإرادة الوطنية، ولا أن تُنتج دولة حديثة دون مشروع داخلي متماسك.
من هنا، فإن تيار المستقبل السوري يدعو إلى:
- بناء عقد اجتماعي جديد، يُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويضمن الحقوق والحريات.
- إطلاق حوار وطني شامل دائم، يضم كافة القوى السياسية والاجتماعية، بما فيها المكونات الكردية، لبناء سورية تعددية، موحدة، ديمقراطية.
- إعادة هيكلة مؤسسات الدولة على أسس الكفاءة والشفافية والمساءلة، بعيدا عن منطق المحاصصة أو الولاءات الضيقة.
- تبني سياسة خارجية مستقلة، تنطلق من المصالح الوطنية، وتُراعي التوازنات الإقليمية والدولية، دون تفريط أو تبعية.
إن سورية اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء ذاتها، عبر تأسيس دولة حديثة، قادرة على الفعل، وعلى التأثير، وعلى حماية مواطنيها. والانضمام إلى التحالف الدولي، رغم تعقيداته، يمكن أن يكون خطوة في هذا الاتجاه، إذا أُحسن توظيفه، وإذا اقترن بإرادة سياسية حقيقية، ومشروع وطني جامع.
وفي هذا السياق، فإن تيار المستقبل السوري يؤكد التزامه الكامل بمبادئ الحرية، والعدالة، والسيادة، ويضع نفسه في خدمة مشروع بناء سورية الجديدة، دولةً مدنيةً عادلة لكل أبنائها، دون إقصاء أو تهميش.