في الثالث عشر من نوفمبر الجاري، خرج وزير الخارجية السوري السيد أسعد حسن الشيباني من قاعة معهد تشاتام هاوس في لندن ليعلن أن المرحلة المقبلة في سورية ستشهد تأسيس أحزاب سياسية تعمل ضمن إطار تعددية وطنية واسعة، بما يمهد لانتخابات رئاسية وبرلمانية خلال الأعوام القريبة المقبلة.
هذا التصريح، من حيث مضمونه وسياقه، لا يمكن التعامل معه بوصفه خبراً عابراً في أجندة دبلوماسية يومية، بل هو إعلان يمسّ واحداً من أكثر الملفات حساسية في تاريخ الدولة السورية، إنه ملف السياسة المحظورة.
فمنذ عقود طويلة جرى تفريغ الحياة السياسية من معناها الحقيقي، وإعادة هندستها ضمن قوالب مغلقة جعلت الحزب أداة سلطة لا تعبيراً مجتمعياً.
لذلك، فإن أي حديث عن فتح باب تأسيس الأحزاب لا يمكن أن يُقرأ خارج هذا التاريخ الثقيل.
وقد قدّم المكتب السياسي في تيار المستقبل السوري بياناً مرحّباً بتصريح معالي الوزير، مع رؤية نقدية واضحة تضع هذا الإعلان في سياقه الوطني الأشمل.
لكن التصريح، في جوهره، أكبر من مجرد ترخيص أو إجراء إداري؛ إنه إعلان بداية مرحلة انتقالية معقّدة يُعاد فيها تعريف السياسة السورية برمتها، ويُعاد فيها اختبار الثقة بين الدولة والمجتمع.
وهو في الوقت ذاته لحظة مفصلية يمكن أن تفتح الباب لبناء دولة جديدة، أو تعيد إنتاج نماذج السيطرة القديمة بوجوه جديدة.
الذاكرة السياسية السورية: مجال محظور وطويل الإغلاق
يصعب على السوريين اليوم أن يتذكروا مرحلة كان فيها تأسيس الأحزاب فعلاً سياسياً حراً وطبيعياً.
فمنذ خمسينات القرن الماضي، تراجعت التعددية تحت وطأة الانقلابات، ثم جاءت هندسة الحياة العامة باتجاه الحزب القائد للدولة والمجتمع، مصحوبة بكمّ هائل من التهميش والإخضاع.
ولأن الذاكرة الوطنية لا تُمحى بسهولة، فقد ترسخت لدى السوريين صورة قاتمة للحزب باعتباره جهازاً فوق المجتمع، لا أداة مشاركة سياسية.
تلك الذاكرة الثقيلة سترافق السوريين طويلاً، وستؤثر في كيفية استقبالهم لأي حديث عن التعددية، مهما كانت النوايا حسنة أو البرامج طموحة.
ماذا يعني تصريح الوزير الشيباني؟ وما الأسئلة التي يفتحها؟
حين يُعلن وزير الخارجية فتح باب العمل الحزبي فهذا يعني فكٌ رمزيٌّ لقيدٍ عمره عقود.
وفي الوقت ذاته يطرح أسئلة أساسية لا يمكن القفز فوقها:
١. ملف السلطة:
هل نحن أمام تراجع حقيقي عن أساليب النظام السابق في إنتاج أحزاب تابعة ومؤطرة؟ أم أمام إعادة تنظيم المجال السياسي مع الحفاظ على السيطرة؟
٢. ملف المجتمع:
هل يملك السوريون بنية تنظيمية وثقافة سياسية تسمح بظهور أحزاب جدية وبرامجية؟ أم أن التجربة ستعيد إنتاج الفوضى أو الفراغ أو الولاءات التقليدية؟
٣. ملف القانون:
هل سيُكتب قانون أحزاب عصري يضمن الاستقلال والحماية؟ أم سيُستخدم القانون بوصفه أداة فرز وانتقاء؟
٤. ملف المرحلة الانتقالية:
هل ستُمنح الأحزاب دوراً فعلياً في كتابة مستقبل سورية؟ أم سيُكتفى بها كديكور سياسي أمام العالم؟
هذه الأسئلة وغيرها لا تهدف إلى التشكيك، بل إلى التأكيد أن التعددية ليست قراراً إدارياً؛ بل عملية تأسيس الدولة.
ماذا يخشى العهد الجديد نفسه من الأحزاب والتعددية؟
من المهم هنا إضافة زاوية تحليلية غائبة في معظم النقاشات، وهي المخاوف التي قد تعيشها الدولة نفسها من التعددية
الناشئة! تلك المخاوف، سواء صرّحت بها السلطة أم لم تصرّح، فإنها تشكل جزءاً من المشهد السياسي:
١. الخوف من الانقسام السياسي
فالعهد الجديد خرج من حرب عنيفة ودولة منهكة، ويخشى من أن يؤدي الانفتاح السياسي السريع إلى صراع أحزاب يهدد وحدة الدولة أو يشعل تنافساً غير منضبط.
٢. الخوف من اختراقات خارجية
فالسلطات قد تخشى من أن تقوم دول إقليمية بإنشاء أحزاب تابعة لها عبر التمويل أو عبر أدوات ناعمة، بما يعيد إنتاج سنوات النفوذ الخارجي.
٣. الخوف من عودة شبكات النظام السابق
فالتعددية قد تفتح الباب لعودة شبكات قديمة تمتلك خبرة تنظيمية ومالاً وقدرة على المناورة، فتخشى السلطة أن تعود هذه الشبكات عبر واجهات حزبية جديدة.
٤. الخوف من ضعف الدولة مقابل أحزاب قوية
ففي مراحل الانتقال، تكون الدولة ضعيفة، بينما قد تظهر أحزاب تمتلك جمهوراً أو تمويلاً أو حضوراً إعلامياً يسبق وجود المؤسسات.
٥. الخوف من فوضى حزبية بلا قواعد
فدولة بلا قانون أحزاب ولا تجارب انتخابية قد تواجه مئات الكيانات الصغيرة التي تربك المشهد وتستهلك طاقة المرحلة الانتقالية.
وهنا نقول: إن هذه المخاوف ليست مدعاة لتقييد التعددية، بل مدعاة لتنظيمها وإدارتها من خلال قانون عصري، وقضاء مستقل، وحياة سياسية مسؤولة.
الحياة الحزبية في سورية الجديدة: فضاء بلا خرائط
إن سورية اليوم لا تمتلك مؤسسات حزبية سابقة يمكن البناء عليها.
لكن هذا الفراغ يمكن أن يكون فرصة تاريخية لظهور أحزاب جديدة أكثر تمثيلاً للناس وأقل تورطاً في شبكات المصالح التقليدية.
ولتحويل هذه الفرصة إلى واقع، لا بد من ثلاثة شروط أساسية:
١. حرية تأسيس حقيقية ومحمية
٢. قضاء مستقل
٣. مجتمع مدني قادر على الرقابة
ومن دون هذه الشروط، قد تتحول التعددية إلى زحام سياسي بلا حياة، وإلى عشرات الأحزاب التي لا يعرف المواطن ماذا تريد ولا ماذا تمثل.
المزاج العام السوري: بين الخوف والأمل
إن التفاعل مع رسائل وزير الخارجية الشيباني على وسائل التواصل الاجتماعي عكس انقساماً واضحاً:
فمنهم من رأى في التصريح خطوة شجاعة، ومنهم من رآها مجرد تدوير لتجارب النظام السابق.
وهذا الانقسام مفهوم ومبرر؛ فالسوريون لم يختبروا بعد دولة حيادية تجاه السياسة.
ولذلك، فإن إعادة بناء الثقة بين المجتمع والدولة ستكون عملية طويلة، تتطلب شفافية ومؤسسية واستمرارية.
ما الذي يمكن أن تصنعه الأحزاب في المرحلة الانتقالية؟
لم تلعب الأحزاب في البلدان الخارجة من النزاع دوراً انتخابياً فقط، بل كانت أدوات لبناء الدولة:
– صياغة الرؤى الاقتصادية
– وضع برامج إعادة الإعمار
– بناء نظم الإدارة والحكم المحلي
– المصالحة المجتمعية
– حماية العدالة الانتقالية
– تنظيم علاقة المركز بالأقاليم
– ترسيخ الدستور الجديد
ومن هنا يصبح السؤال الحقيقي:
أي نوع من الأحزاب نريد؟
وأي نموذج دولة نريد أن نخدم من خلالها؟
دور تيار المستقبل السوري: نموذج بديل للحياة السياسية
إنه ومنذ تأسيسه عام 2012، تبنّى تيار المستقبل السوري مبادئ الدولة المدنية، والعدالة، والمواطنة، ورفض أن يكون كياناً صدامياً أو تابعاً لأحد.
وفي مرحلة إعادة البناء، ليس المطلوب أن يصبح التيار حزباً ضمن الطيف فقط، بل أن يقدم نموذجاً جديداً للحياة الحزبية:
– أحزاب تقوم على البرامج لا على الفرد
– تمويل شفاف بلا ظلال
– دور وطني داخل عملية الانتقال وليس على هامشها
– مبادرات واقعية لكتابة قانون أحزاب مستقل
– نشر ثقافة سياسية جديدة تقوم على الحوار لا الاستقطاب
– بناء جسور مع الداخل والخارج بلا تبعية ولا خصومة
إن وجود تيار أو تيارات بهذا النهج ليس تفصيلاً، بل ضمانة لتوجيه الحياة السياسية نحو مستقبل مدني، لا نحو إعادة تدوير الماضي.
خاتمة: من التعددية إلى تأسيس المستقبل
إن تصريح الوزير الشيباني ليس نهاية الطريق، بل بدايته.
وقد يكون بداية صحيحة أو بداية خاطئة، لكن الحكم على ذلك لن يكون من خلال القوانين وحدها، ولا من خلال عدد الأحزاب، بل من خلال التحول الذي ستشهده الدولة السورية خلال السنوات المقبلة.
إن سورية اليوم أمام لحظة تأسيسية نادرة، تشبه اللحظات الكبرى التي مرت بها أمم خرجت من حروب قاسية.
هي لحظة مشحونة بالخوف، وممتلئة بالأمل، وفيها تتقرر ملامح الدولة الجديدة.
ولعل المجال السياسي السوري اليوم يشبه أرضاً واسعة أزالت الحرب عنها كل معالم الماضي، وبات المطلوب رسم خريطة جديدة لها، تلك الخريطة لن يرسمها الأقوى فقط، بل سيرسمها صاحب الفكرة والرؤية.
والفرق بين الاثنين هو الفرق بين إعادة إنتاج الدولة القديمة، أو بناء الجمهورية المدنية العادلة التي يحلم بها كل السوريين.
باختصار:
ليس المهم أن يُسمح للسوريين بتأسيس أحزاب، بل أن يُسمح لهم لأول مرة منذ عقود بتأسيس مستقبلهم السياسي بأيديهم، دونما وصاية، ولا خوف.