جبل الباشان: استشراف لتجميد النزاع في السويداءنحو نموذج الصحراء الغربية كمفتاح تفسيري

المقدمة :

في أواخر عام 2025، يبدو أن سورية الانتقالية تواجه أول اختبار وجودي حقيقي لمشروعها الوطني الجديد: محافظة السويداء، أو "جبل الباشان" كما بات يُسمّى رسمياً في بيانات الفصائل الدرزية منذ 14 نوفمبر 2025، وهنا السويداء لم تعد منطقة نزاع محلي، بل لقد تحولت إلى جيب سياسي-عسكري يرفض أي تسوية مع دمشق، بل ويعيد تسمية نفسه بأسماء تاريخية ما قبل الدولة السورية الحديثة، ويرفع في بعض مظاهراته أعلاماً إسرائيلية، ويعلن صراحة أن "لا حوار ولا تفاوض إلا على أساس الانفصال أو الحكم الذاتي الكامل".
هذا التحول الرمزي والعملي يضعنا أمام سؤال: هل نشهد ولادة أول "نزاع مجمد" داخلي في سورية ما بعد الأسد؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هو النموذج التفسيري الأكثر دقة لاستشراف مستقبله؟

نقترح هنا أن نموذج الصحراء الغربية، بكل تعقيداته الجيوسياسية والقانونية والرمزية، هو الأكثر قدرة على تفسير ما يحدث في السويداء، ليس لأن التشابه تام، بل لأن الديناميكيات الأساسية متطابقة تقريباً:

  • دعم خارجي مستمر ومنخفض التكلفة نسبياً (الجزائر للبوليساريو، إسرائيل للفصائل الدرزية).
  • رفض صريح من الطرف المحلي لأي تسوية سياسية (البوليساريو يرفض الحكم الذاتي المغربي، فصائل جبل الباشان ترفض أي حوار مع دمشق).
  • قدرة الدولة المركزية على الاستمرار دون انهيار رغم فقدان السيطرة الفعلية على جزء من أراضيها (المغرب يدير 80% من الصحراء، سورية تدير 97% -إن نجحت بتنفيذ اتفاقها مع قسد- من أراضيها لكنها فقدت السويداء فعلياً).
  • تجميد دولي للنزاع عبر قرارات أممية متكررة دون حل (بعثة مينورسو منذ 1991، ومن المحتمل بعثة مراقبة مشابهة في السويداء إذا استمر الوضع).

الصحراء الغربية كنموذج أصلي للنزاعات المجمدة في القرن الحادي والعشرين:

نزاع الصحراء الغربية هو النموذج الأطول عمراً بين النزاعات المجمدة في العالم العربي، وأكثرها دراسة من قبل علماء السياسة الدولية.
منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار عام 1991 برعاية الأمم المتحدة، لم يعد هناك حرب مفتوحة، لكن لا سلام أيضاً. والجزائر تواصل تمويل جبهة البوليساريو واستضافتها في مخيمات تندوف، والمغرب يواصل تعزيز سيطرته الإدارية والعسكرية والاقتصادية على الأراضي التي يسيطر عليها، بينما تتجدد تفويضات بعثة مينورسو سنوياً دون أي تقدم نحو استفتاء أو حل نهائي.
في أكتوبر 2025، جدد مجلس الأمن التفويض للمرة الرابعة والثلاثين بموجب القرار 2797، وأكد مجدداً أن خطة الحكم الذاتي المغربية هي "الخيار الواقعي الوحيد"، لكنه لم يُلزم أي طرف بتنفيذها، مما يعني استمرار التجميد إلى أجل غير مسمى. يبدو أن هذا التجميد يتحاوز العجز الدولي، لنراه استراتيجية واعية من الداعم الخارجي (الجزائر) لمنع خصمه (المغرب) من تحقيق انتصار نهائي، ومن الدولة المركزية (المغرب) لمنع خصمه من تحقيق أي مكسب سياسي.

جبل الباشان 2025، تكرار النموذج بتفاصيل محلية:
في السويداء، نرى نفس العناصر تقريباً:

  • انهيار الثقة الكامل بين المركز والإقليم بعد أحداث يوليو– أغسطس 2025 وما تلاها من انتهاكات موثقة من الطرفين.
  • ظهور فصائل عسكرية–سياسية ترفض أي حوار مع دمشق (بيانات رجال الكرامة، أحرار جبل الباشان، جيش بني معروف، الحرس الوطني الدرزي).
  • إعادة تسمية المنطقة بأسماء تاريخية ما قبل الدولة القطرية (جبل الباشان، جبل الدروز، أرض بني معروف) كعملية إلغاء للهوية السورية المشتركة.
  • دعم خارجي واضح ومنخفض التكلفة من إسرائيل: مساعدات إنسانية، أسلحة خفيفة، غارات جوية انتقائية، تصريحات علنية من قادة دروز إسرائيل بأن "أمن دروز سورية خط أحمر".
  • عجز الحكومة السورية الانتقالية عن استعادة السيطرة عسكرياً دون تكلفة باهظة سياسياً ودولياً، وبالتالي قبولها واقعياً بحالة "لا حرب ولا سلام".

غياب أي أفق لتسوية سياسية تشبه اتفاق قسد– دمشق في مارس 2025، حيث قبلت قسد دمج مؤسساتهم مقابل ضمانات لامركزية واسعة، بينما يرفض قادة جبل الباشان حتى مناقشة أي صيغة لامركزية داخل الدولة السورية. لماذا ينجح التجميد؟:

من منظور الواقعية الهجومية التي طورها جون ميرشايمر، لا يرى التجميد فشلا، بل يراه "النتيجة المنطقية لنظام دولي أناركي يسعى فيه كل فاعل إلى تعظيم أمنه النسبي". فالجزائر لا تريد أن يصبح المغرب قوة إقليمية مهيمنة، وإسرائيل لا تريد أن تصبح سورية الموحدة القوية تهديداً استراتيجياً على حدودها الشمالية. كلاهما يستخدم دعماً منخفض التكلفة لمجموعة محلية لتحقيق هدف استراتيجي كبير:
منع الخصم من تحقيق الاستقرار الكامل.
من جهة أخرى، يرى فرانسيس فوكوياما أن النزاعات المجمدة هي أعراض "فشل بناء الدولة" في المرحلة الانتقالية، حيث تغيب المؤسسات القادرة على استيعاب الهويات الفرعية داخل هوية وطنية جامعة.

سورية 2025 تعاني بالضبط من هذا النقص:

لا دستور جديد بعد، لا انتخابات، لا مشروع وطني يُجمِع عليه السوريون، وبالتالي يصبح من السهل على أي مجموعة إثنية أو طائفية أن تختار الخروج من اللعبة الوطنية إذا وجدت داعماً خارجياً.
أما صموئيل هانتينغتون فكان سيضيف أن ما نشهده في السويداء هو أحد "خطوط الصدع الحضاري" الصغيرة داخل الحضارة الإسلامية نفسها، حيث يصبح الدروز السوريون، بدعم إسرائيلي، أداة في صراع أوسع بين الغرب والعالم الإسلامي، تماماً كما استخدمت الجزائر قضية الصحراء كأداة في صراعها مع المغرب المتحالف مع الغرب.

استشراف مستقبل جبل الباشان على المدى المتوسط (2026-2035):

بناءً على النموذج المغربي، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات محتملة، مرتبة حسب الاحتمال التصاعدي:

سيناريو التسوية المتأخرة (احتمال ضعيف): ضغوط أمريكية–أوروبية قوية على إسرائيل، مقابل ضغوط روسية–تركية على دمشق، تؤدي إلى صيغة لامركزية واسعة تشبه اتفاق قسد.
هذا السيناريو يتطلب تغييراً جذرياً في الموقف الإسرائيلي، وهو أمر غير مرجح في الوقت الحاضر.

سيناريو التجميد الطويل (الأكثر احتمالاً): يستمر الوضع كما هو الآن لعقد أو أكثر. دمشق تتعامل مع جبل الباشان كمنطقة حكم ذاتي فعلي دون اعتراف رسمي، إسرائيل تواصل تقديم دعم محدود، والأمم المتحدة ترسل بعثة مراقبة صغيرة.
المنطقة تصبح مثل إقليم كردستان العراق قبل 2017: مستقلة فعلياً لكن غير معترف بها دولياً.

سيناريو التصعيد والتقسيم الفعلي (خطر بعيد لكنه ممكن): في حال حدوث حرب إقليمية كبرى أو حتى داخلية (حرب مع قسد-) أو انهيار كامل للدولة السورية، قد يتحول جبل الباشان إلى كيان درزي مستقل تحت حماية إسرائيلية مباشرة، مشابه لما حدث في جنوب لبنان بين 1982-2000.

توصيات عملية لصناع القرار السوري:

أولاً، استراتيجيات منع التجميد:

  • فتح قنوات حوار غير رسمية مع قادة دروز إسرائيل (موفق طريف، أيوب قرا) لتخفيف الضغط الإسرائيلي، مع رسالة واضحة: أي دعم للانفصال سيُقابل بحرب شاملة لا يريدها أحد.
  • إطلاق مشروع تنموي كبير في السويداء (طريق دمشق–السويداء–الأردن، منطقة صناعية حرة، دعم زراعي) لربط مصلحة السكان المحليين بالدولة المركزية.
  • إنشاء "مجلس شورى الأقاليم" يضم ممثلين عن كل محافظة، بحيث يشعر الدروز أن لهم صوتاً في صياغة النظام اللامركزي القادم.

ثانياً، إذا تحقق التجميد، استراتيجيات الاحتواء:

  • الاعتراف الضمني بحكم ذاتي إداري واسع مع الإبقاء على الرموز السيادية (الجيش، الخارجية، العملة).
  • تحويل المنطقة إلى منطقة اقتصادية خاصة مشتركة مع الأردن ولبنان لتقليل جاذبية الانفصال، أو دراسة قضية حصارها اقتصاديا!.
  • العمل على عزل إسرائيل دبلوماسياً عبر الجامعة العربية ومجلس الأمن بتهمة التدخل في الشؤون الداخلية.

خاتمة:

جبل الباشان هو أول اختبار حقيقي لقدرة سورية الجديدة على البقاء كدولة موحدة في عالم يشجع فيه النظام الدولي على تجميد النزاعات بدلاً من حلها.

تجربة الصحراء الغربية تُعلمنا أن التجميد قد يستمر نصف قرن دون أن ينهار أي من الأطراف، لكنه يُفقد الدولة المركزية جزءاً من سيادتها وكرامتها ومستقبلها.

السؤال الآن ليس هل سيحدث التجميد، بل متى سيدرك صناع القرار في دمشق أن الوقت ليس في صالحهم، وأن كل يوم تأخير في بناء مشروع وطني جامع يزيد من احتمال تحول جبل الباشان إلى أول "صحراء غربية" سورية.

مراجع للاستزادة:

  • Jacob Mundy, “The Geopolitical Functions of Frozen Conflicts”, Geopolitics, Vol. 28, No. 4, 2023
  • John J. Mearsheimer, The Tragedy of Great Power Politics (updated edition, 2014)
  • John J. Mearsheimer, “The Causes and Consequences of the Ukraine War”, lecture at the European University Institute, June 2023
  • Francis Fukuyama, State-Building: Governance and World Order in the 21st Century (2004)
  • Francis Fukuyama, “Thirty Years of The End of History”, American Purpose, 2019
  • Samuel P. Huntington, The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order (1996)
  • UN Security Council Resolution 2797 (2025) on Western Sahara
  • International Crisis Group, “Time for a New Western Sahara Peace Bid”, Report N°243, 12 October 2023
  • Carnegie Middle East Center, “Syria’s Druze: From Revolution to Rebellion to Frozen Conflict?”, November 2025
  • Al Jazeera Arabic, coverage of Suwayda clashes, July–November 2025
  • Reuters Special Report: “Israel’s Quiet Bet on Syria’s Druze”, 18 October 2025

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع