العنف التربوي في المجتمع السوري بين الموروث الثقافي والتجديد القيمي

ملخص:

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل ظاهرة ضرب الأطفال في التربية السورية في سياق ثقافي-اجتماعي وديني، بالاستناد إلى استبيان ميداني أُجري على خمسين عائلة من محافظات إدلب وحلب ودمشق خلال عام 2025.
أظهرت النتائج أن 70٪ من الآباء يرون في الضرب وسيلة مشروعة للتعليم والانضباط، فيما عبّر 40٪ من الأطفال (6-12 عامًا) عن خوفهم الشديد من الضرب بوصفه أسوأ ما يواجهونه في بيئتهم الأسرية والتعليمية، بينما أبدى 60٪ من الأطفال لامبالاة ناتجة عن التكيّف النفسي مع العنف.

تتناول الدراسة الجذور التاريخية والدينية والثقافية لظاهرة الضرب التربوي، وتقارنها بالمفاهيم الحديثة للتربية الإيجابية وحقوق الطفل، ثم تقدّم مقاربة إصلاحية في ضوء المرحلة الانتقالية التي تمر بها سورية.

الخلفية والسياق السوري:

يُعدّ العنف التربوي في المجتمع السوري جزءاً من موروث ثقافي طويل، تَغذّى من أنماط السلطة الأبوية والتربوية التي سادت في النصف الثاني من القرن العشرين، وتقاطعت مع القمع السياسي والمؤسساتي الذي كرّس الطاعة العمياء والخضوع بدل النقد والإبداع.
ومع انهيار المنظومة السلطوية ودخول البلاد مرحلة انتقالية جديدة، برزت الحاجة لإعادة النظر في أساليب التربية والتعليم بما ينسجم مع قيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
إلا أنّ الضرب ما زال حاضرًا في المدارس والبيوت، باعتباره "وسيلة تأديب" مشروعة عند كثير من الأسر.

المنهجية الميدانية:

أُجرينا في قسم البحوث والدراسات التابع لمكتب شؤون الأسرة لـ تيار المستقبل السوري استبياناً ميدانياً شمل خمسين عائلة في ثلاث مدن سورية (إدلب، حلب، دمشق) ومن شرائح اجتماعية مختلفة.
استخدمت الدراسة أسلوب المقابلات شبه المفتوحة والأسئلة الموجهة للأطفال (6–12 عامًا) ولأولياء الأمور.
نتائج الاستبيان:
70٪ من الآباء والأمهات يرون أنّ الضرب وسيلة ضرورية لضبط السلوك وتعليم الأدب.
40٪ من الأطفال عبّروا عن خوفهم الشديد من الضرب، معتبرينه أكثر ما يهددهم نفسيًا.
60٪ من الأطفال أبدوا لامبالاة تجاه الضرب، نتيجة تكرار التجربة واعتيادهم على العنف اليومي.
وتشير هذه النتائج إلى خلل بنيوي في إدراك مفهوم التربية، إذ يُختزل التعليم في الطاعة لا في بناء الشخصية والقدرة على التفكير النقدي.

الجذور الثقافية والنفسية للعنف التربوي:

نفترض أن العنف التربوي في سورية منظومة قيمية متوارثة، تتجلى في الأمثال الشعبية واللغة اليومية، مثل "العصا لمن عصى"، وتُظهر الأبحاث النفسية أن العنف المتكرر في الطفولة يؤدي إلى:

  • ضعف تقدير الذات وفقدان الثقة بالآخرين.
  • تكوين شخصية مهادنة أو عدوانية حسب طبيعة الاستجابة.
  • استمرار العنف في دورة اجتماعية متوارثة.

الرؤية الدينية للعقاب البدني:

  1. في المنظور الإسلامي:
    تُظهر القراءة المقاصدية للتراث الإسلامي أنّ الإسلام لم يشرّع الضرب كوسيلة تربية، بل قيّده بقيود تضييقية تكاد تنفيه.
    فالرسول ﷺ قال: "ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه" [رواه مسلم].
    كما أنّ ابن القيم في تحفته يرى أن الضرب لا يجوز إلا بعد بلوغ سنّ التمييز وبعد استنفاد أساليب النصح، وألّا يكون مبرّحاً أو مهيناً.
    وتذهب المقاصد الكلية للشريعة إلى حفظ النفس والكرامة والعقل، وهي مقاصد تتعارض مع الإيذاء الجسدي والنفسي للأطفال.
    وفي الفقه المقاصدي الحديث (القرضاوي، الريسوني، الجابري)، تُعتبر التربية بالعنف منافية لروح الرحمة والعدل التي هي جوهر الرسالة الإسلامية.
  2. في المنظور المسيحي:
    المسيحية كذلك تضع الرحمة في جوهرها التربوي.
    ففي رسالة بولس إلى أهل أفسس (6:4): "أيها الآباء لا تغيظوا أولادكم، بل ربّوهم بتأديب الرب وإنذاره".
    والتأديب هنا يُفهم كتهذيب نفسي وروحي لا كعقاب بدني.
    الكنيسة السورية الحديثة، في وثائقها التعليمية (مجمع البطاركة الكاثوليك 2018)، تؤكد أن الضرب يُفقد التربية روح المحبة، ويزرع الخوف بدل الإيمان.
    وبذلك يتقاطع الموقف المسيحي والإسلامي في رفض العنف كأسلوب تربوي، وتأكيد الرحمة والقدوة الحسنة كوسيلة تعليمية نحو بدائل تربوية في سورية الجديدة.

في ضوء هذه النتائج والمعطيات، يمكن تلخيص التوصيات الآتية:

  1. تأسيس برامج وطنية للتربية الإيجابية بالتعاون بين وزارتي التربية والشؤون الاجتماعية، تدمج أساليب التواصل اللاعنفي في التعليم الأسري والمدرسي.
  2. إدراج مواد تدريبية للمعلمين حول الذكاء العاطفي وإدارة الصف دون عنف.
  3. حملات توعية مجتمعية تستند إلى الخطاب الديني والإنساني المشترك لرفض العنف.
  4. سن تشريعات حمائية للأطفال وفق اتفاقية حقوق الطفل (1989)، تُجرّم الضرب والعنف الأسري.
  5. دعم البحث الميداني المستمر لتقييم أثر التحول الثقافي في وعي الأسرة السورية خلال المرحلة الانتقالية.

خاتمة:

يبيّن هذا البحث أن العنف التربوي في سورية انعكاس لمنظومة اجتماعية-نفسية عميقة ترسّخت عبر عقود من السلطوية.

لهذا فإعادة بناء التربية على أسس إنسانية حديثة تتطلب رؤية متكاملة تجمع بين العلم والقيم الدينية والوطنية.

ففي سورية الجديدة، لا يمكن بناء مواطن حرّ بوسائل القمع والخوف، بل عبر تربية قائمة على الرحمة والعقل والمشاركة.

المراجع:

  1. Bandura, A. Aggression: A Social Learning Analysis. Prentice-Hall, 1973.
  2. UNICEF. Violence Against Children in the Middle East and North Africa: Regional Report. 2023.
  3. القرضاوي، يوسف. مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية. القاهرة: دار الشروق، 1996.
  4. الريسوني، أحمد. نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي. بيروت: دار الكلمة، 2000.
  5. الجابري، محمد عابد. العقل الأخلاقي العربي. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2001.
  6. مجمع البطاركة الكاثوليك في الشرق الأوسط. وثيقة التربية المسيحية في الأسرة والمدرسة. بيروت، 2018.
  7. ابن القيم الجوزية. تحفة المودود بأحكام المولود. القاهرة: دار الكتب العلمية، 2002.
  8. القرآن الكريم؛ الكتاب المقدس (العهد الجديد).
    ……………….

الملحق (A): أدوات ومنهجية البحث الميداني

العيّنة الميدانية:
أُجري البحث الميداني في ثلاث محافظات سورية رئيسية هي إدلب وحلب ودمشق خلال شهري أيلول وتشرين الأول من عام 2025، بهدف تمثيل التنوع الجغرافي والاجتماعي بين مناطق الشمال الغربي والشمال الشرقي والوسط.
بلغ حجم العيّنة خمسين مشاركاً، نصفهم من الأطفال والنصف الآخر من أولياء الأمور، وذلك لضمان التوازن بين وجهتي النظر في موضوع الدراسة.
تراوحت أعمار الأطفال بين ست واثنتي عشرة سنة، في حين تراوحت أعمار أولياء الأمور بين ثمانية وعشرين وخمس وأربعين سنة. وقد جرى اختيار المشاركين بطريقة مقصودة (العينة القصدية) لضمان تنوع الخلفيات التعليمية والاقتصادية والاجتماعية، مع مراعاة التمثيل بين البيئات الريفية والحضرية.

إجراءات البحث الميداني:
تم تنفيذ المقابلات من خلال استبيانات ورقية أجراها طلاب جامعيون متطوعون تم تدريبهم على طرق الاستبيان الأكاديمي. وقد التزم الفريق الميداني بمعايير البحث الأخلاقي، حيث أُبلغ الأهالي والأطفال بأن المشاركة طوعية بالكامل، وأن لهم حق الانسحاب في أي وقت دون أي أثر على علاقاتهم بالجهة المنفذة.
اعتمد البحث على أسلوب المقابلة شبه المقننة، إذ تم توجيه أسئلة موحدة مع السماح للمشاركين بالتعبير بحرية عن آرائهم وتجاربهم.
بعد جمع البيانات، أُدخلت الإجابات إلى نظام ترميز إحصائي وصفي لتحليلها ومقارنة الاتجاهات العامة بين المجموعتين (الأطفال والآباء).

نموذج الاستبيان الميداني:
تضمن الاستبيان أربعة أقسام رئيسية.
القسم الأول تناول البيانات العامة، مثل العمر والجنس ومكان الإقامة والمستوى التعليمي وعدد الأطفال في الأسرة.
أما القسم الثاني فخُصص لآراء الأهالي، وتضمّن أسئلة حول الموقف من استخدام الضرب كوسيلة تربوية، وأسباب اللجوء إليه، ودرجة الندم اللاحقة، ومدى الإيمان بوجود بدائل تربوية غير عنيفة، والرغبة في المشاركة ببرامج تدريبية للتربية الإيجابية.
القسم الثالث تناول إجابات الأطفال، وشمل أسئلة حول مدى تعرضهم للضرب في المنزل أو المدرسة، وما يخيفهم أكثر في التجارب التربوية، وكيف يشعرون بعد تعرضهم للعقاب، وما إذا تحدثوا مع أحد عن مشاعرهم، ورغبتهم في توقف الكبار عن استخدام العنف.
أما القسم الرابع فقد خُصص للأسئلة المفتوحة، التي أتاحت للأطفال والأهالي التعبير عن رؤاهم حول الأساليب التربوية البديلة، وأثر التشجيع والمدح على سلوك الطفل.

طريقة تحليل البيانات:
تم تحليل البيانات على مستويين:
الأول كمي وصفي، عبر استخراج النسب المئوية وتحديد الاتجاهات العامة في المواقف والسلوكيات.
أما المستوى الثاني فكيفي، اعتمد على قراءة مفتوحة لإجابات المشاركين وتحليلها دلاليا لفهم العلاقة بين الضرب وصورة السلطة في ذهن الطفل السوري، ولا سيما في البيئات التي شهدت اضطرابات أمنية أو نزوحا.

وقد أتاح الجمع بين المستويين الوصول إلى مؤشرات متكاملة بين النية التربوية لدى الكبار والأثر النفسي والاجتماعي الذي يتركه الفعل على الأطفال.

  • الاعتبارات الأخلاقية:
    راعى البحث المعايير الأخلاقية الصارمة في الدراسات الاجتماعية التي تشمل الأطفال. فقبل البدء، تم الحصول على موافقات خطية من أولياء الأمور، مع ضمان السرية التامة وعدم جمع أي بيانات قد تكشف هوية المشاركين.
    كما تم تدريب الفريق الميداني على التعامل النفسي الآمن مع الأطفال وتجنّب الأسئلة التي قد تُثير صدمة أو شعوراً بالحرج.
    استند البحث في إرشاداته الأخلاقية إلى توصيات منظمة اليونيسف لعام 2023 بشأن الأبحاث الميدانية مع القُصّر.
    تم حفظ الاستمارات والبيانات في أرشيف داخلي آمن ولن تُستخدم إلا بصيغ تحليلية كلية تخدم أغراض البحث حصراً.
  • حدود الدراسة:
    تُعد هذه الدراسة أولية واستكشافية، إذ اقتصرت العيّنة على ثلاث محافظات دون تمثيل المناطق الشرقية أو الجنوبية. كما لم يُستخدم فيها قياس نفسي معياري بسبب محدودية الموارد الفنية.

لذلك فإن النتائج تُعد مؤشرات عامة تمهّد لدراسات لاحقة أوسع، وتُسهم في بناء قاعدة بيانات وطنية حول أثر العنف التربوي في المرحلة الانتقالية السورية.

  • التوصيات الميدانية:
    نوصي بضرورة توسيع نطاق الدراسات الميدانية المستقبلية لتشمل المدارس الحكومية والخاصة في جميع المحافظات السورية، وإشراك اختصاصيين نفسيين وتربويين لضبط المقاييس العلمية للظاهرة.
    كما يُوصى بإنشاء وحدة بحثية دائمة ضمن مركز دراسات تيار المستقبل السوري تُعنى برصد التحولات التربوية والاجتماعية في سياق العدالة الانتقالية، وبالتعاون مع وزارة التربية والتعليم الانتقالية لتضمين نتائج الأبحاث في السياسات التربوية والإعلامية الجديدة.
    ………….

الملحق (B): التوصيف النظري للمفاهيم الأساسية في الدراسة:

  • مفهوم العنف التربوي:
    العنف التربوي هو كل سلوك أو فعل يصدر من شخص بالغ تجاه طفل بقصد التأديب أو التعليم، ويؤدي إلى أذى جسدي أو نفسي أو رمزي. ويُصنّف في الأدبيات التربوية الحديثة ضمن أنماط العنف الأسري والمؤسسي، حيث يرتبط بخلل في فهم السلطة التربوية والوظيفة النفسية للعقاب.
    وفق تعريف منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) في تقريرها لعام 2022، يشمل العنف التربوي "أي استخدام للقوة البدنية أو التهديد بها ينتج عنه ألم بدني أو معاناة نفسية للطفل، ولو لم يكن القصد الإيذاء المباشر".
    ويُلاحظ أن هذا الشكل من العنف غالبا ما يكون مبرَّرا ثقافيا أو دينيا، ما يجعله أعمق وأخطر من العنف الجسدي المباشر لأنه يُغلف بثوب "النية الصالحة" في التعليم والتقويم.
  • مفهوم التربية الإيجابية:
    التربية الإيجابية هي الاتجاه التربوي الذي يقوم على بناء السلوك من خلال التواصل والاحترام المتبادل والتشجيع، بدلا من العقاب والخوف.
    يرتكز هذا المفهوم على دراسات علم النفس التنموي منذ أعمال ألفرد أدلر (Alfred Adler) ورودولف دريكورس (Rudolf Dreikurs) في القرن العشرين، حيث أكدا أن الهدف من التربية ليس إخضاع الطفل بل مساعدته على تطوير الإحساس بالانتماء والمسؤولية.
    وتُعد التربية الإيجابية من الركائز الأساسية في سياسات التعليم الحديثة، وقد تبنتها اليونسكو ضمن استراتيجيتها لعام 2030، معتبرةً أن العنف التربوي يُقوّض أهداف التعليم الجيد والمواطنة الديمقراطية.
    أما في السياق السوري الانتقالي، فإن تبنّي التربية الإيجابية يمثل انتقالاً رمزيًا من “ثقافة الطاعة والخوف” إلى "ثقافة الحرية والمسؤولية"، أي من منطق الاستبداد التربوي إلى منطق التربية المدنية.
  • السلطة الأسرية بين التقليد والتحديث:
    تُعد الأسرة في المجتمع السوري التقليدي مركز السلطة التربوية والاجتماعية، حيث يُمارس الأب أو الأكبر سنا دوراً وصائيا يقوم على فرض الانضباط أكثر من تشجيع الحوار.
    ويشير الباحث الاجتماعي بيير بورديو (Pierre Bourdieu) إلى أن هذا الشكل من السلطة يعيد إنتاج بنية المجتمع السلطوية عبر التنشئة، إذ يتعلم الطفل الخضوع بدل النقد، والطاعة بدل المبادرة.
    من هنا فإن العلاقة بين الأب والطفل في المجتمعات ما بعد النزاع، مثل سورية، تحتاج إلى إعادة تعريف فلسفي وتربوي، بحيث يُستبدل مفهوم "الهيمنة الأبوية" بمفهوم "المرافقة الأبوية" التي تقوم على الشراكة والثقة، وهو ما ينسجم مع مشروع العدالة الاجتماعية والانتقال الديمقراطي.
  • أثر العنف التربوي على النمو النفسي والاجتماعي:
    تُظهر الدراسات النفسية الحديثة، مثل تقرير الجمعية الأميركية لعلم النفس (APA, 2021)، أن الأطفال الذين يتعرضون للعقاب البدني المتكرر أكثر عرضة للقلق المزمن، وتدني احترام الذات، وصعوبة تكوين علاقات آمنة في المستقبل.
    كما بيّنت أبحاث جامعة كامبريدج (2020) أن العنف المنزلي يُعيد إنتاج العنف لاحقا في المدرسة والمجتمع، أي أن الطفل الذي يُضرب اليوم قد يصبح بالغا يمارس العنف غدا.
    أما في الحالة السورية، فإن تراكم العنف السياسي والحرب والنزوح جعل من العنف التربوي امتدادا غير واعٍ لثقافة الصراع، مما يُفاقم هشاشة البنية النفسية للجيل الجديد ويُضعف فرص بناء ثقافة مدنية سلمية.
  • التربية والعنف في سياق العدالة الانتقالية:
    ترتبط إعادة بناء النظام التربوي في المراحل الانتقالية بإعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، وبين الطفل والمؤسسة التعليمية.
    فالعنف التربوي انعكاس لبنية سلطوية تاريخية سادت في الدولة السورية خلال العقود الماضية، حيث تم توظيف الخوف والانضباط كأدوات للضبط الاجتماعي والسياسي.
    لذلك، فإن معالجة هذه الظاهرة يجب أن تكون جزءا من مشروع العدالة الانتقالية الأوسع، عبر برامج إصلاح تربوي تُعلي من قيم الحوار واللاعنف والمساءلة، وتربط التعليم بالتحرر النفسي والاجتماعي.
    وفي هذا السياق، تؤكد الباحثة مارثا نوسباوم (Martha Nussbaum, 2011) في كتابها "Creating Capabilities" أن التعليم في المجتمعات الخارجة من الاستبداد يجب أن يُعيد بناء "قدرة الإنسان على التعاطف" بوصفها شرطاً أخلاقيا للديمقراطية.
  • المنظور الفلسفي والسياسي للتربية:
    ينتمي الخطاب التربوي في المراحل الانتقالية إلى ما يسميه الفيلسوف جون ديوي (John Dewey) "التربية بوصفها ممارسة ديمقراطية"، أي أنها ليست مجرد نقل معرفة بل تأسيس لمواطنة فاعلة.
    من هذا المنظور، يصبح رفض الضرب والعنف في التربية فعلا سياسيا بامتياز، لأنه يعلن انتهاء "العنف الرمزي" الذي قامت عليه علاقة الدولة والمواطن، والمدرسة والطفل، والأب والابن.
    إن تبني منهج تربوي يقوم على الحرية والمسؤولية يعني تأسيس جيل جديد من السوريين يعي أن السلطة ليست أداة للعقاب، بل وسيلة لخدمة الإنسان وبناء الصالح العام.
  • الخلاصة النظرية:
    تكشف المفاهيم السابقة أن العنف التربوي في سورية ليس مجرد ظاهرة أسرية بل بنية ثقافية وسياسية مركبة، وأن التحول نحو التربية الإيجابية هو ركيزة في مشروع العدالة الانتقالية السوري.
    فإصلاح التعليم والتربية لا يقتصر على تحديث المناهج، بل يشمل إعادة بناء العلاقة الإنسانية بين المربي والمتعلم على أساس الاحترام والكرامة.
    إن نجاح هذه التحولات يتطلب سياسة تربوية وطنية جديدة تنطلق من واقع المجتمع السوري وتُعيد الثقة بالمدرسة والأسرة بوصفهما فضاءين آمنين لتنشئة الإنسان الحرّ القادر على الإبداع والمشاركة والمسؤولية.
    …….

الملحق (C): التوصيات والسياسات العامة لمعالجة العنف التربوي في سورية

  • الإطار العام:
    تهدف هذه التوصيات إلى وضع سياسة وطنية شاملة للحد من العنف التربوي في البيئات الأسرية والمدرسية، وتأسيس ثقافة تعليمية جديدة تُعلي من كرامة الطفل وتربط الإصلاح التربوي بمسار العدالة الانتقالية.
    تنبع هذه الرؤية من قناعة بأن بناء الإنسان هو الركيزة الأولى لإعادة بناء الدولة السورية الحديثة، وأن إصلاح السلوك التربوي جزء جوهري من المصالحة الوطنية.
  • الأهداف الاستراتيجية:
  • تحويل البيئة التعليمية إلى فضاء آمن خالٍ من العنف الجسدي واللفظي.
  • ترسيخ التربية الإيجابية بوصفها ثقافة تربوية وطنية.
  • بناء قدرات المعلمين والآباء في مهارات التواصل اللاعنفي.
  • إعادة تعريف السلطة التربوية بما ينسجم مع قيم الدولة المدنية والديمقراطية.
  • إدماج البعد النفسي والاجتماعي في العملية التعليمية والتربوية.
  • محاور التنفيذ العملية

    أولا: محور السياسات والتشريعات

    إصدار قانون وطني لحماية الطفل من العنف التربوي، يجرّم الضرب في المدارس والمنازل، مستندًا إلى اتفاقية حقوق الطفل (1989) التي صادقت عليها سورية سابقا.
    إدراج بند خاص في قانون التعليم الانتقالي يمنع استخدام أي وسيلة عقابية جسدية أو مهينة في المؤسسات التعليمية.
    إنشاء مرصد وطني للعنف التربوي بالتعاون بين وزارة التربية ومركز دراسات تيار المستقبل السوري، يتولى جمع البيانات الدورية وإصدار تقارير سنوية حول التقدم في الحد من الظاهرة.

    ثانيا: محور بناء القدرات

    تنفيذ برامج تدريب وطنية للمعلمين والإداريين حول التربية الإيجابية وإدارة الصفوف بطرق تشاركية.
    إدراج وحدات دراسية في كليات التربية حول "التربية في سياقات ما بعد النزاع" و"الذكاء العاطفي في التعليم".
    إعداد دليل تربوي موحّد يصدر عن وزارة التربية الانتقالية بالتعاون مع خبراء محليين ودوليين، يتضمن أدوات عملية لتطبيق التربية اللاعنفية داخل الصفوف.

    ثالثا: محور الأسرة والمجتمع المدني

    إطلاق حملات توعية مجتمعية عبر الإعلام المحلي ومنصات التواصل حول مخاطر الضرب والعنف التربوي، وإبراز النماذج الناجحة في التربية الحديثة.
    تأسيس مراكز إرشاد أسري في المدن الكبرى (دمشق، حلب، إدلب..) تقدم دعما نفسيا وتدريبا للأهالي في مهارات التعامل الإيجابي مع الأبناء.
    إشراك المنظمات الأهلية والنسائية في تصميم وتنفيذ برامج "الأبوة والأمومة الإيجابية" بالشراكة مع وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل.

    رابعا: محور التعليم والإعلام

    إدراج موضوع التربية على حقوق الطفل ضمن المناهج الدراسية في المراحل الابتدائية والإعدادية، بأسلوب تفاعلي غير وعظي.
    إنتاج مسلسلات قصيرة وأفلام توعوية موجهة للأطفال والأهالي تعكس قيم الحوار والاحترام، بإشراف وزارة الإعلام الانتقالية.
    تطوير برامج إذاعية مدرسية تشجع الأطفال على التعبير عن آرائهم بحرية ضمن بيئة آمنة، بما يعزز الثقة بالنفس والمسؤولية الاجتماعية.

    خامسا: محور الدعم النفسي والاجتماعي:

    إنشاء وحدة متخصصة ضمن وزارة التربية بعنوان "دائرة الدعم النفسي والتربوي" تعنى بمتابعة الأطفال المتأثرين بالعنف.
    تدريب المرشدين النفسيين على تقنيات التدخل السريع والدعم الجماعي في المدارس.
    ربط المدارس بشبكة من الأخصائيين الاجتماعيين لتقديم الاستشارات للأهالي والمعلمين عند رصد سلوكيات عنيفة.
  • الشركاء التنفيذيون المقترحون:
    وزارة التربية والتعليم الانتقالية: الجهة القيادية للتنفيذ والتشريع.
    مركز دراسات تيار المستقبل السوري: البحث، والتقييم، وبناء المؤشرات الوطنية.
    منظمة اليونيسف واليونسكو: الدعم الفني والتدريبي.
    المنظمات الأهلية السورية: التوعية المجتمعية والرصد المحلي.
    وسائل الإعلام الوطنية: نشر الثقافة الجديدة وتعزيز الصورة الإيجابية للتربية اللاعنفية.
  • الإطار الزمني المقترح للتنفيذ
    المدى القصير (عام واحد): تأسيس المرصد الوطني للعنف التربوي، وإطلاق حملات التوعية الأولى.
    المدى المتوسط (3 سنوات): إدماج التربية الإيجابية في المناهج وبرامج إعداد المعلمين.
    المدى الطويل (5 سنوات): قياس أثر السياسات وتعديل التشريعات لتصبح جزءًا من النظام التعليمي الدائم في سورية الجديدة.
  • مؤشرات التقييم
  • انخفاض نسبة استخدام الضرب في المدارس والأسر بناءً على تقارير الرصد السنوية.
  • زيادة عدد المعلمين المدربين على أساليب التربية الإيجابية.
  • ارتفاع مؤشرات رضا الأطفال وأولياء الأمور عن المناخ المدرسي.
  • دمج التربية اللاعنفية كمبدأ في مناهج التعليم الأساسي.
  • الخلاصة التنفيذية:
    إن مواجهة ثقافة العنف التربوي في سورية خطوة استراتيجية في بناء الإنسان السوري الجديد الذي يملك وعيا ديمقراطيا قائما على احترام الذات والآخر.
    إن ترجمة نتائج البحث الميداني إلى سياسات عملية ستُسهم في خلق تحول ثقافي عميق، يعيد للأسرة والمدرسة دورهما التربوي الحقيقي كفضاءين للحب والنمو لا للعقاب والخوف.

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع