رؤية الرئيس أحمد الشرع للتنمية والاستثمار في سورية

المقدمة:

في العاشر من تشرين الأول / أكتوبر 2025، وخلال اجتماع رسمي في العاصمة دمشق مع المجلس الأعلى للتنمية الاقتصادية، طرح الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع رؤيةً استراتيجيةً جديدة تهدف إلى إعادة بناء الاقتصاد السوري على أسس إنتاجية واستثمارية، بعيداً عن الاعتماد على المساعدات أو القروض المشروطة.
وقد أكد الرئيس في خطابه أن "سورية لا تريد أن تعيش على المساعدات أو القروض المسيسة"، داعياً إلى توفير بيئة استثمارية مرنة تشجع على التنمية الحقيقية والمستدامة.

تأتي هذه الرؤية في سياق سياسي واقتصادي حساس، تسعى فيه الدولة السورية إلى تجاوز آثار الحرب، واستعادة الثقة الداخلية والخارجية، وبناء نموذج اقتصادي جديد قائم على الإنتاج، والتكامل بين القطاعين العام والخاص، والمجتمع المدني.
ويهدف هذا المقال إلى تحليل مرتكزات رؤية الرئيس الشرع، وبيان التحديات البنيوية التي تواجه تطبيقها، ومقارنتها بتجارب دولية ناجحة، وصولًا إلى تقديم توصيات عملية قابلة للتنفيذ من المكتب الاقتصادي لتيار المستقبل السوري، استناداً إلى الأدبيات الاقتصادية الحديثة ومبادئ الحوكمة الرشيدة.

مرتكزات الرؤية الاقتصادية:
تقوم رؤية الرئيس الشرع على ثلاث دعائم رئيسية مترابطة:

  1. الاستقلال الاقتصادي والسيادي:
    من خلال رفض الاعتماد على المساعدات الخارجية المشروطة، والسعي إلى بناء اقتصاد وطني قادر على تمويل ذاته ذاتيًا.
  2. تحفيز الاستثمار المحلي والأجنبي:
    عبر إصلاح البيئة القانونية، وتبسيط الإجراءات الإدارية، وتقديم ضمانات للمستثمرين، وتأسيس مؤسسات حديثة تُعنى بجذب الاستثمارات ومتابعتها.
  3. التنمية المتوازنة والمستدامة:
    عبر توزيع المشاريع الإنتاجية والخدمية على مختلف المحافظات، والتركيز على القطاعات الأساسية مثل الزراعة، والصناعة، والطاقة المتجددة، بما يحقق العدالة الاقتصادية والاجتماعية.

تتلاقى هذه المرتكزات مع ما يؤكد عليه أدب الاقتصاد السياسي للتنمية (Rodrik, 2007)، بأن الاستقلال الاقتصادي لا يتحقق إلا عبر بناء مؤسسات قوية، وتفعيل دور القطاع الخاص، وتوفير بيئة قانونية مستقرة، ومساءلة فعالة.

السياق السياسي والاقتصادي للرؤية:

تأتي هذه الرؤية في مرحلة انتقالية دقيقة، تسعى فيها الحكومة الجديدة إلى تجاوز آثار الحرب، وبناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وبين سورية والعالم الخارجي.
ويُلاحظ أن خطاب الرئيس الشرع الاقتصادي يتميز بالواقعية، إذ يعترف بوجود تحديات هيكلية عميقة، ويقترح حلولاً تستند إلى أدوات السوق والإنتاج المحلي بدلاً من المركزية التقليدية التي سادت لعقود.

إلا أن المشهد الاقتصادي السوري لا يزال معقداً ويواجه عقبات متشابكة، يمكن تلخيصها فيما يلي:

  1. شبح العقوبات الدولية، الذي لا يزال يعوق حركة رؤوس الأموال والتحويلات المالية، رغم حالة الانفتاح العربي والدولي تجاه سورية الجديدة.
  2. ضعف البنية التحتية والإنتاجية، نتيجة التدمير الذي لحق بالمدن والمناطق الصناعية والزراعية خلال السنوات الماضية (UNDP Syria, 2024).
  3. غياب الثقة في المؤسسات الرسمية، بسبب تراكمات الفساد والبيروقراطية، وضعف الرقابة، وغياب الشفافية في إدارة الموارد العامة.
  4. غياب الرؤية التنموية المتكاملة، إذ لا تزال الاستراتيجيات الاقتصادية مشتتة، ولا توجد خارطة طريق واضحة للمشاريع والبرامج التي تحدد مسار التنمية للمرحلة المقبلة.
  5. تراجع أدوار الشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين، من منظمات المجتمع المدني، والنقابات، والجمعيات الأهلية، والقطاع الخاص، في رسم السياسات العامة، خصوصًا في ظل غياب مؤسسة مجلس الوزراء الفاعل.
  6. التحدي الأكبر يبقى في تأمين الموارد المالية المستدامة، من خلال خلق بيئة داعمة للقطاعات الإنتاجية الأساسية (الزراعة والصناعة)، وتحسين الميزان التجاري عبر برامج متخصصة لدعم الصادرات وزيادة القيمة المضافة المحلية.

مقارنة مع تجارب دولية ناجحة:
يمكن قراءة رؤية الرئيس الشرع في ضوء تجارب تنموية ملهمة لدول خرجت من أزمات كبرى:

  • رواندا (بعد 1994):
    نجحت في بناء اقتصاد إنتاجي قائم على الزراعة الحديثة والتكنولوجيا، عبر إصلاحات مؤسسية وضمان استقرار سياسي وأمني (Sachs, 2005).
  • جورجيا (بعد الثورة الوردية):
    ألغت آلاف القوانين المعطلة، وبسّطت الإجراءات الإدارية، فارتفع ترتيبها على مؤشر سهولة ممارسة الأعمال (World Bank, 2020).
  • المغرب (في العقد الأخير):
    أنشأت مناطق صناعية حرة ومراكز لوجستية، وقدمت حوافز ضريبية ذكية، ما جذب استثمارات كبرى في قطاعات السيارات والطاقة المتجددة (OECD, 2022).

تُظهر هذه التجارب أن الإصلاح الاقتصادي لا ينجح دون إصلاح مؤسسي وتشريعي، وأن الاستقرار السياسي والحوكمة الرشيدة يشكلان القاعدة لكل نهضة اقتصادية مستدامة (Rodrik, 2007).

الواقع السوري والتحديات البنيوية:

صدر في تموز / يوليو 2025 قانون الاستثمار الجديد في سورية، الذي أنشأ المجلس الأعلى للتنمية الاقتصادية، وهيئة مستقلة للاستثمار، ومركز خدمات للمستثمرين.
ورغم أن هذه الخطوات تمثل تطوراً تشريعياً مهماً، فإن التحدي الأكبر يكمن في التطبيق العملي، وفي مدى قدرة المؤسسات الجديدة على تجاوز البيروقراطية والتسييس والفساد.

ومن أبرز التحديات البنيوية التي لا تزال تعرقل التنفيذ:

  1. الفساد الإداري، الذي يؤدي إلى هروب المستثمرين ويضعف ثقة الشركاء الاقتصاديين.
  2. ضعف استقلالية القضاء، مما يقلل من فاعلية آليات فض النزاعات التجارية.
  3. غياب الشفافية في تخصيص الموارد، ما يخلق بيئة منافسة غير عادلة.
  4. الانقسام الجغرافي والسياسي، الذي يعطل تنفيذ المشاريع الوطنية الموحدة.
  5. غياب استراتيجية وطنية شاملة للتنمية، تربط بين أولويات الاستثمار والإنتاج والتشغيل ضمن إطار زمني واضح.

التوصيات:
استناداً إلى الأدبيات الاقتصادية وتجارب الدول الخارجة من النزاعات، يقدم المكتب الاقتصادي لتيار المستقبل السوري التوصيات التالية:

  1. إطلاق خطة وطنية للتنمية والاستثمار تحدد الأهداف والبرامج والمشاريع بأولويات واضحة ومؤشرات أداء قابلة للقياس.
  2. إنشاء مجلس استشاري تنموي يضم ممثلين عن القطاعين العام والخاص، والمنظمات الأهلية، والجامعات، والخبراء السوريين في الداخل والشتات، للمشاركة في صياغة السياسات الاقتصادية.
  3. تفعيل دور القطاع المصرفي في تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، عبر برامج ضمانات حكومية وجزئية للقروض.
  4. تأسيس منصة رقمية موحدة لتسجيل الشركات والحصول على التراخيص ومتابعة الإجراءات بشفافية وسرعة (World Bank, 2020).
  5. تطوير نظام التحكيم التجاري وربطه بمحاكم اقتصادية مستقلة لضمان العدالة وسرعة البت في القضايا.
  6. إطلاق برامج تدريب مهني وتكنولوجي بالشراكة مع القطاع الخاص لتأهيل الشباب لاحتياجات سوق العمل.
  7. تخصيص مناطق اقتصادية خاصة في المحافظات الأكثر تضرراً، مع حوافز ضريبية وجمركية ذكية (OECD, 2022).
  8. تفعيل شراكات تنموية مع السوريين في الخارج، عبر أدوات مالية مرنة وضمانات قانونية لاستثماراتهم (Sachs, 2005).
  9. إعادة تعريف أولويات السياسة التجارية، عبر دعم الصادرات وتطوير الصناعات التحويلية لتعزيز الميزان التجاري.
  10. وضع آلية وطنية للحوكمة والشفافية، تراقب تنفيذ المشاريع وتمنع التداخل بين القرار الاقتصادي والسياسي.

الخاتمة:

تمثل رؤية الرئيس أحمد الشرع خطوة مهمة نحو تحول نوعي في الخطاب الاقتصادي السوري، فهي تضع الأسس لبناء اقتصاد سيادي ومنتج، لكنها لا تزال بحاجة إلى إطار استراتيجي واضح، ومؤسسات تنفيذية فاعلة، وشراكات وطنية حقيقية.
إن نجاح هذه الرؤية مرهون بقدرة الدولة على تأمين موارد مالية مستدامة، وبناء مؤسسات قوية، وتفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص، والمجتمع المدني، والشتات السوري.
إن سورية اليوم بحاجة إلى نموذج اقتصادي تشاركي جديد، يعيد توزيع الثروة، ويُرسّخ العدالة، ويؤسس لتنمية متوازنة ومستدامة تُخرج البلاد من منطق الإغاثة إلى منطق الإنتاج.

المراجع:

  • Rodrik, D. (2007). One economics, many recipes: Globalization, institutions, and economic growth. Princeton University Press.
  • Sachs, J. D. (2005). The end of poverty: Economic possibilities for our time. Penguin Press.
  • World Bank. (2020). *Doing Business 2020: Comparing business regulation in 190 economies. World Bank Group.
  • UNDP Syria. (2024). Post-conflict economic recovery framework: Strategic assessment for Syria. United Nations Development Programme.
  • OECD. (2022). OECD investment policy reviews: Morocco 2022. Organisation for Economic Co-operation and Development.
شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع