مقدمة:
في مرحلة ما بعد النزاع، تواجه الدول الخارجة من الحروب تحديات بنيوية عميقة تتطلب إعادة بناء المؤسسات، وترميم الاقتصاد، وصياغة عقد اجتماعي جديد.
في هذا السياق، يبرز تمكين المرأة اقتصاديًا كأحد أهم ركائز التنمية المستدامة، ليس فقط بوصفه مطلبًا حقوقيًا، بل كضرورة استراتيجية لإعادة بناء المجتمعات على أسس أكثر عدالة واستقرارًا.
سورية، التي شهدت عقدًا من النزاع المسلح، تقف اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة تعريف دور المرأة في الاقتصاد الوطني، خصوصًا في المناطق المحررة التي بدأت تشهد تحولات اجتماعية واقتصادية ملموسة.
التمكين الاقتصادي للمرأة كمدخل للتنمية المستدامة:
تشير الأدبيات التنموية إلى أن تمكين المرأة اقتصاديًا يرتبط مباشرةً بتحقيق أهداف التنمية المستدامة، خاصة ما يتعلق بالقضاء على الفقر، وتحقيق النمو الاقتصادي، والمساواة بين الجنسين، إذ وفقًا لتقرير البنك الدولي (2022)، فإن زيادة مشاركة النساء في سوق العمل يمكن أن ترفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تصل إلى 30% في بعض الدول النامية، كما أن النساء المعيلات يشكلن نسبة كبيرة من الأسر الفقيرة، وتمكينهن اقتصاديًا ينعكس مباشرة على تحسين ظروف الأسرة والمجتمع.
في السياق السوري، فإن الحرب قد أعادت تشكيل البنية الاجتماعية، حيث اضطرت آلاف النساء إلى لعب أدوار اقتصادية جديدة نتيجة غياب المعيل، أو النزوح، أو فقدان مصادر الدخل التقليدية.
هذا التحول، وإن كان قسريًا في بدايته، إلا أنه يفتح المجال أمام إعادة صياغة دور المرأة في الاقتصاد السوري بطريقة أكثر شمولًا واستدامة.
الواقع السوري بعد التحرير – تحديات وفرص:
في سورية بعد التحرير يواجه التمكين الاقتصادي للمرأة عدة تحديات بنيوية، أبرزها:
- ضعف البنية التحتية الاقتصادية: معظم المناطق الخارجة من سيطرة النظام البائد مثلا تفتقر إلى شبكات النقل، والطاقة، والاتصالات، ما يحد من قدرة النساء على الوصول إلى الأسواق أو تأسيس مشاريع.
- غياب السياسات العامة الموجهة للنساء: لا توجد حتى الآن استراتيجية وطنية واضحة لتمكين المرأة اقتصاديًا، سواء على مستوى التعليم المهني أو التمويل أو الحماية القانونية.
- القيود الاجتماعية والثقافية: رغم التغيرات التي فرضتها الحرب، لا تزال بعض المجتمعات تنظر إلى عمل المرأة خارج المنزل بعين الريبة، ما يتطلب تدخلًا توعويًا وتربويًا طويل الأمد.
ومع ذلك، هناك مؤشرات إيجابية تستحق البناء عليها، ففي تقرير نشره موقع "سورية على طول" (2024)، تم تسليط الضوء على مبادرة نسائية في مدينة إعزاز، حيث قامت مجموعة من النساء بتأسيس جمعية تعاونية لإنتاج الصابون الطبيعي، وتمكنت من تصديره إلى تركيا، ما شكل نموذجًا ناجحًا للتمكين المحلي المرتبط بالسوق الإقليمي.
كما أشار تقرير سابق قبل التحرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" (2023) إلى أن النساء السوريات في المناطق الخارجة من سيطرة النظام يواجهن تحديات مضاعفة في الوصول إلى فرص العمل، لكنهن أظهرن قدرة عالية على التكيف والابتكار، خاصة في المشاريع المنزلية والتعليمية. دروس مستفادة من التجارب الآسيوية – سنغافورة وماليزيا نموذجًا:
في سنغافورة كان التمكين عبر التعليم والتكنولوجيا سياسة واضحة، فمنذ استقلالها في الستينيات، اعتمدت سنغافورة سياسة تنموية شاملة، كان من أبرز ركائزها تمكين المرأة عبر التعليم التقني، ووفقًا لتقرير وزارة التنمية الاجتماعية السنغافورية (2022)، فإن نسبة النساء العاملات في قطاع التكنولوجيا تجاوزت 40%، بفضل برامج التدريب المهني، والحوافز الحكومية، والدعم المؤسسي للأمهات العاملات.
وسنغافورة لم تكتف بتمكين المرأة في القطاعات التقليدية، بل دفعت بها نحو ريادة الأعمال، عبر إطلاق منصات تمويل صغيرة، وتوفير حاضنات أعمال، وربط النساء بشبكات السوق المحلية والعالمية.
هذا النموذج يمكن أن يُستلهم في سورية عبر تطوير مراكز تدريب مهني مخصصة للنساء، وربطها بمنصات تسويق إلكترونية، خصوصًا في ظل انتشار الهواتف الذكية حتى في المناطق الريفية.
وأما في ماليزيا، فقد كان التمكين عبر الشراكة المجتمعية، حيث ركزت على تمكين النساء في الريف، عبر برامج إنتاجية صغيرة، مثل "نساء الريف المنتج"، التي وفرت تدريبًا في الصناعات اليدوية والزراعة، وربطت النساء بأسواق محلية وعالمية، ووفقًا لتقرير وزارة تنمية المرأة الماليزية (2021)، فإن هذه البرامج ساهمت في خفض معدلات الفقر بين النساء بنسبة 18% خلال خمس سنوات.
وما يميز النموذج الماليزي هو إشراك المنظمات الدينية والمجتمعية في دعم التمكين، ما عزز القبول المجتمعي لدور المرأة الاقتصادي.
في السياق السوري، يمكن تكييف هذا النموذج عبر إشراك المجالس المحلية، والهيئات الشرعية المعتدلة، في دعم مشاريع نسائية، وتوفير بيئة آمنة ومقبولة اجتماعيًا للعمل.
نحو نموذج سوري خاص:
بدلًا من استنساخ نماذج جاهزة، يمكن لسورية أن تطور نموذجًا خاصًا بها، يستند إلى خصوصياتها الثقافية والاجتماعية، ويستفيد من التجارب الدولية، ومن الأفكار التي يمكن تبنيها:
- إنشاء مناطق اقتصادية نسائية مصغرة: وهي مساحات مخصصة للنساء، تضم ورشًا إنتاجية، ومراكز تدريب، وحاضنات أعمال، وتوفر بيئة آمنة للعمل، خصوصًا في المناطق التي تعاني من هشاشة أمنية.
- إطلاق صناديق تمويل مجتمعية: تُدار محليًا، وتُموّل من جهات دولية أو مغتربين، وتُخصص لدعم مشاريع نسائية صغيرة، مع إشراف مجتمعي لضمان الشفافية والاستدامة.
- تطوير منصات رقمية للنساء المنتجِات: تربط النساء في المناطق المحررة بالأسواق المحلية والدولية، وتوفر لهن التدريب والتسويق والدفع الإلكتروني، مستفيدة من انتشار الإنترنت والهواتف الذكية.
- إدماج التمكين في المناهج التعليمية: عبر إدخال مفاهيم ريادة الأعمال، والتمكين الاقتصادي، والمساواة في المناهج المدرسية، لتشكيل وعي جديد لدى الأجيال القادمة.
واستنادًا إلى الواقع السوري والتجارب الدولية، نقدم في المكتب الاقتصادي لـ تيار المستقبل السوري التوصيات الأتية: - صياغة استراتيجية وطنية لتمكين المرأة اقتصاديًا، بالتعاون بين الجهات المحلية والمنظمات الدولية، على أن تكون مرنة وقابلة للتكيّف مع السياقات المحلية.
- إنشاء مراكز تدريب مهني مخصصة للنساء في المناطق المحررة، بالشراكة مع البلديات والجامعات، مع التركيز على المهارات الرقمية، والصناعات الخفيفة، والخدمات التعليمية.
- تأسيس صناديق تمويل صغيرة موجهة للنساء، تُدار بشفافية، وتُربط بمنصات تسويق إلكترونية، مع توفير دعم إداري وقانوني للمشاريع الناشئة.
- إطلاق حملات إعلامية لتغيير الصورة النمطية عن المرأة العاملة، عبر وسائل الإعلام المحلية والمؤثرين المجتمعيين، مع التركيز على قصص النجاح المحلية.
- إشراك المجالس المحلية والهيئات الدينية المعتدلة في دعم مشاريع نسائية، لضمان القبول المجتمعي والاستدامة، وتفادي التصادم الثقافي.
خاتمة:
إن التمكين الاقتصادي للمرأة في سورية بعد التحرير ليس مجرد مطلب حقوقي، بل ضرورة استراتيجية لإعادة بناء مجتمع أكثر عدالة وقدرة على الصمود، والتجارب الدولية، من سنغافورة إلى ماليزيا، تُظهر أن النجاح لا يأتي فقط من السياسات، بل من الإرادة المجتمعية، والابتكار، والشراكة. وإذا ما أُحسن استثمار طاقات النساء السوريات، فإنهن قادرات على أن يكنّ حجر الأساس في بناء سورية الجديدة، ليس فقط كعاملات أو رائدات أعمال، بل كصانعات مستقبل.