مقدمة:
تشهد سورية، بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، مرحلة انتقالية حاسمة تتسم بتحديات إنسانية وسياسية واقتصادية معقدة، فعودة ملايين اللاجئين والنازحين إلى ديارهم، إلى جانب إقرار إعلان دستوري جديد يعزز المساواة، أثار آمالًا في التعافي الوطني.
ومع ذلك، يواجه هذا التعافي عقبات كبيرة، أبرزها أزمة التمويل الدولي، فقد حذرت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) يوم أمس الثلاثاء 02/09/2025م، من أن التمويل الدولي لعام 2025 يغطي 22% فقط من الاحتياجات الإنسانية في سورية، يهدف هذا المقال إلى تحليل أزمة التمويل في سياق التحولات السياسية والإنسانية في سورية، وتقديم توصياتنا في تيار المستقبل السوري ورؤية استشرافية لدعم التعافي.
السياق التاريخي:
بدأت الثورة السورية في مارس 2011، عندما تحولت الاحتجاجات السلمية ضد نظام الأسد إلى نزاع مسلح مدمر، وأسفر عن مقتل مئات الآلاف وتشريد أكثر من 12 مليون شخص، بما في ذلك 5.6 مليون لاجئ في دول الجوار و6.7 مليون نازح داخلي بحسب بيان UNHCR سنة ٢٠٢٣، كما دمرت الحرب البنية التحتية، وأدت إلى انهيار الاقتصاد السوري، حيث انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 60% بين 2010 و2020.
وتفاقمت الأزمة الإنسانية بسبب العقوبات الدولية، ونقص التمويل، والأزمات الإقليمية، مما جعل 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر بحلول 2023.
في 8 ديسمبر 2024، أنهت معركة ردع العدوان التي قامت بها فصائل الثورة نظامَ الأسد، مما أشار إليه السوريون بـ"تحرير سورية"، كما أدى هذا التحول إلى عودة أكثر من 2.5 مليون شخص، بما في ذلك 850 ألف لاجئ و1.7 مليون نازح داخلي، بحلول أغسطس، لكن هذه العودة تواجه تحديات بسبب استمرار الأعمال العدائية في مناطق مثل السويداء وشمال شرق سورية، ونقص التمويل الذي يهدد استدامة التعافي.
تحليل أزمة التمويل:
أشارت كيلي كليمنتس، نائبة المفوض السامي لشؤون اللاجئين، إلى أن التمويل الدولي لعام 2025 يغطي 22% فقط من احتياجات المفوضية في سورية، مقارنة بـ60% في الفترة 2015-2018، و40% بين 2020-2022، و30% في 2023، هذا الانخفاض يعكس تراجع الالتزام الدولي بالأزمة السورية، حيث تشتت الاهتمام الدولي نحو أزمات أخرى مثل الحرب في أوكرانيا وأزمة المناخ، نتيجة لذلك، اضطرت المفوضية إلى تقليص عدد موظفيها بنسبة 30%، مما قلل من قدرتها على تقديم خدمات حيوية مثل المساعدات النقدية، والرعاية الصحية، والتعليم.
وقد أدى تأثير نقص التمويل إلى:
- الأمن الغذائي: توقف برنامج الأغذية العالمي عن تقديم المساعدات الغذائية في يناير 2024 بسبب نقص التمويل، مما أثر على 5.5 مليون شخص. ونتيجة لذلك، يعاني 56% من المستفيدين السابقين من استهلاك غذائي غير كافٍ.
- إعادة الإدماج: يواجه العائدون صعوبات في تأمين السكن، والوثائق القانونية، والوظائف، ففي مناطق مثل السويداء، نزح 190 ألف شخص في يوليو 2025 بسبب التوترات، مما زاد الضغط على الموارد المحدودة.
- البنية التحتية: دمرت الحرب 70% من البنية التحتية في سورية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس، ولا يزال الدعم الدولي لإعادة الإعمار محدودًا بسبب العقوبات ونقص التمويل.
وعلى الرغم من التحديات، اتخذت المفوضية خطوات لدعم العائدين، مثل إطلاق منصة "سورية هي الوطن" لتوفير معلومات حول الخدمات القانونية والاجتماعية، وافتتاح مركز السجل المدني في معرة النعمان، وإعادة تأهيل منشآت صحية، كما قدم الاتحاد الأوروبي 235 مليون يورو في يونيو 2025، بما في ذلك 20 مليون يورو إضافية لشمال شرق سورية، مع إطلاق جسر جوي إنساني من دبي وقوافل شاحنات من الدنمارك.
ومع ذلك، فإن خطة الاستجابة الإقليمية، التي تتطلب 4.9 مليار دولار لدعم 6.1 مليون لاجئ و6.8 مليون من المجتمعات المضيفة، لا تزال تعاني من فجوة تمويلية بنسبة 65.5%.
وعليه، فإن التحديات الحالية التي تعاني منها سورية يمكن تقسيمها إلى:
- الأزمة الاقتصادية: يعاني الاقتصاد السوري من ارتفاع التضخم (200% في 2024)، وانخفاض قيمة الليرة السورية، مما يجعل العائدين يعتمدون بشكل كبير على المساعدات.
- الأمن: استمرار التوترات في مناطق مثل السويداء وشمال شرق سورية يعيق وصول المساعدات ويؤثر على استقرار العائدين.
- العقوبات الدولية: على الرغم من دعوات رفع العقوبات لدعم التعافي، لا تزال العقوبات الغربية تعيق استثمارات إعادة الإعمار، مما يزيد من الاعتماد على المساعدات الإنسانية.
- نقص التنسيق: غياب استراتيجية دولية موحدة لدعم سورية الانتقالية يعيق توزيع المساعدات بفعالية.
رؤية استشرافية:
استنادًا إلى الوضع الحالي، يمكن توقع ثلاثة سيناريوهات محتملة لسورية بحلول 2030:
- التعافي المستدام: إذا زاد التمويل الدولي إلى 70% من الاحتياجات، وتم رفع العقوبات بشكل مؤثر بالواقع، واستقرت الأوضاع الأمنية، فقد تشهد سورية تعافيًا تدريجيًا، مع إعادة إدماج 4-5 ملايين لاجئ ونازح، وإعادة إعمار 30% من البنية التحتية.
- التعثر الإنساني: استمرار نقص التمويل والعقوبات قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، مع عودة محدودة للاجئين (1-2 مليون)، وزيادة معدلات الفقر إلى 95%.
- الصراع المستمر: إذا تفاقمت التوترات الأمنية وفشلت الحكومة الانتقالية في تحقيق الاستقرار، فقد تعود سورية إلى دوامة العنف، مما يوقف عودة اللاجئين ويزيد من التشريد.
وعليه فإننا في المكتب الاقتصادي لـ تيار المستقبل السوري نوصي بالآتي:
- زيادة التمويل الدولي: يجب على الدول المانحة، خاصة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، زيادة التعهدات المالية لتغطية 70% على الأقل من احتياجات خطة الاستجابة الإقليمية. ويمكن تحقيق ذلك من خلال عقد مؤتمر مانحين دولي أواخر هذا العام برعاية الأمم المتحدة.
- رفع العقوبات بشكل حقيقي مع الإعلان عن ربط رفع العقوبات بتقدم الحكومة الانتقالية في تعزيز حقوق الإنسان والحوكمة، مما يشجع الاستثمار الأجنبي في إعادة الإعمار حيث لا يتم اعتبار رفع العقوبات متزمنا ومؤقتا.
- تعزيز البنية التحتية: تخصيص 30% من التمويل لإعادة تأهيل المدارس والمستشفيات، مع التركيز على المناطق ذات الكثافة العالية من العائدين مثل حلب ودمشق.
- دعم إعادة الإدماج: توسيع برامج المساعدات النقدية والتدريب المهني للعائدين، بالتعاون مع المنظمات المحلية، لتقليل الاعتماد على المساعدات.
- تعزيز التنسيق الدولي: إنشاء آلية دولية مشتركة بقيادة الأمم المتحدة لتنسيق المساعدات وإعادة الإعمار، مع إشراك الحكومة الانتقالية والمجتمع المدني السوري.
خاتمة:
تواجه سورية فرصة تاريخية للتعافي بعد سقوط نظام الأسد، لكن أزمة التمويل الدولي تهدد استدامة هذا التعافي، ونقص التمويل بنسبة 78% يعيق جهود إعادة إدماج 2.5 مليون عائد، ويعرض الأمن الغذائي والبنية التحتية لمزيد من التدهور.
من خلال زيادة التمويل، ورفع العقوبات، وتعزيز التنسيق الدولي، يمكن للمجتمع الدولي دعم سورية في بناء مستقبل مستقر، كما أن الرؤية الاستشرافية تشير إلى أن النجاح في هذه المرحلة يعتمد على التزام دولي طويل الأمد، يتجاوز الاستجابة الإنسانية إلى دعم إعادة الإعمار والتنمية المستدامة.
المراجع:
- تلفزيون سورية. (2025). "مفوضية اللاجئين تحذر: التمويل الدولي يغطي 22% فقط من الاحتياجات في سورية."
- UNHCR. (2023). "Syria Regional Refugee Response."
- البنك الدولي. (2021). "The Economic Impact of the Syrian Conflict."
- OCHA. (2023). "Syria Humanitarian Needs Overview."
- WFP. (2024). "Syria Food Security Assessment."
- الاتحاد الأوروبي. (2025). "EU Pledges €235 Million for Syria."
- Foreign Policy. (2025). "Sanctions and Syria’s Recovery: A Double-Edged Sword.".