مقدمة:
تعد مخلفات الحرب، وعلى رأسها الألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة، أحد أكثر التحديات إلحاحًا في سورية ما بعد النزاع. فبينما ينشغل الفاعلون المحليون والدوليون بإعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار، يبقى خطر تلك المخلفات متربصًا بالمجتمعات المدنية، ويعيد إنتاج دوائر الألم والتهجير والعجز البنيوي.
هذا المقال يسعى إلى تجاوز الخطاب الحقوقي التقليدي، نحو تحليل مؤسسي ومنهجي لتأثير مخلفات الحرب على الاستقرار المحلي، والنمو الاقتصادي، والتماسك الاجتماعي، مستندًا إلى تجارب دول خرجت من صراعات دموية وتحولت إلى نماذج في التعافي.
أولًا: السياق السوري وحجم الكارثة:
منذ بدء عمليات التحرير في شمال سورية وحتى تاريخ 1 آب 2025، وثّقت العديد من المنظمات المحلية والدولية آلاف الإصابات بين المدنيين نتيجة انفجار مخلفات الحرب.
وتشير تقارير الدفاع المدني السوري إلى مقتل ما يزيد عن 390 مدنيًا في الأشهر الأخيرة فقط، من بينهم أكثر من 100 طفل.
ورغم أهمية هذه الأرقام، إلا أنها تمثل الجانب المرئي فقط من الكارثة.
فغياب منظومة وطنية للمسح الشامل والتوثيق، وتوزع السيطرة العسكرية، وغياب التنسيق بين الجهات الفاعلة، تجعل من تقييم الحجم الحقيقي للمشكلة أمرًا بالغ التعقيد. كما أن الذخائر المنتشرة في المناطق الزراعية والسكنية تمنع عودة المهجّرين، وتعرقل جهود التعافي المجتمعي، وتولد بيئة طاردة للاستثمار.
ثانيًا: مخلفات الحرب كإشكالية مؤسسية مركّبة:
تمثل مخلفات الحرب تحديًا متعدد الأبعاد يتجاوز البُعد الأمني:
- البُعد القانوني: عدم وجود إطار قانوني موحد في سورية يحدد مسؤولية الجهات المسيطرة عن إزالة الألغام، أو يضع معايير للتعامل معها، يفضي إلى حالة من الإفلات من المساءلة، وإعادة تدوير الألم بدون تعويض أو اعتراف.
- البُعد التنموي: تعيق الألغام المشاريع الزراعية والبنية التحتية، وتقلّص الفرص الاستثمارية، وتهدد الأمن الغذائي، ما يؤدي إلى إبطاء عجلة التعافي الاقتصادي، خصوصًا في المناطق الريفية.
- البُعد الاجتماعي والنفسي: يخلّف انفجار الألغام أجيالًا من المعاقين والأيتام، ويكرّس مشاعر الخوف وعدم الاستقرار، ويغذّي الخطاب الكارثي في المجتمع، ما يعوق بناء الثقة المجتمعية الضرورية لأي عملية تحولية.
ثالثًا: التجارب الدولية المقارنة:
- رواندا: العدالة المجتمعية والتوثيق
بعد الإبادة الجماعية، اعتمدت رواندا على نموذج "العدالة التصالحية" عبر محاكم الغاشا، التي أتاحت للضحايا والجلادين فضاءً للتوثيق والمحاسبة ضمن سياق مجتمعي. كما تم دمج ضحايا الألغام في برامج إعادة الدمج الاقتصادي. - كمبوديا: الشراكة التقنية ونزع الألغام
اعتمدت كمبوديا على شراكات دولية طويلة الأمد، أبرزها التعاون مع مركز جنيف لنزع الألغام، لتطوير قاعدة بيانات رقمية للمناطق الملوثة، وتنفيذ برامج توعية مجتمعية في المدارس ودور العبادة. وقد ساهم ذلك في تقليص عدد الضحايا بنسبة 80% خلال عشر سنوات. - كوريا الجنوبية: الاستثمار في الذاكرة والتنمية
في مقاطعة تشونشيون، تم تحويل المناطق الملوثة سابقًا إلى "متاحف ذاكرة"، وأُدرج ضحايا الحرب ضمن برامج تدريب وإعادة تأهيل نفسي ومهني. كما جُندت التكنولوجيا لإنتاج خرائط تفاعلية تُظهر المناطق الملوثة، ما عزز الشفافية وساهم في جذب المستثمرين.
رابعًا: تحديات أمام سورية في تبني سياسات فعالة
رغم استفادة سورية من الخبرات الدولية، إلا أن تعقيدات الوضع الداخلي تفرض تحديات إضافية:
- تداخل السلطات والمراكز العسكرية.
- غياب مسح وطني موحد.
- افتقار معظم المؤسسات المحلية للتمويل والتقنيات اللازمة.
- انعدام الثقة بين المجتمعات والجهات الرسمية أو المسيطرة.
لذلك، يتطلب التعامل مع هذه المعضلة إطارًا مدنيًا تشاركيًا يرتكز على الشفافية، ويستفيد من الجامعات ومراكز البحوث والمجتمع المحلي.
خامسًا: التوصيات الاستراتيجية:
- تأسيس هيئة مدنية مستقلة تُعنى بمخلفات الحرب، وتضم خبراء حقوقيين ومهندسين وممثلين عن المجتمعات المتأثرة.
- إنشاء قاعدة بيانات وطنية لتحديد المناطق الملوثة، والضحايا، وخطط إزالة الألغام، بالشراكة مع منظمات دولية ذات خبرة مثل HALO Trust وUNMAS.
- دمج ضحايا مخلفات الحرب في الخطط الوطنية للتأهيل النفسي والمجتمعي، عبر برامج تدريب مهنية وتوظيف محلي.
- إطلاق حملات توعية مجتمعية تُصمم باللغة المحلية وتُوجه للأطفال والمزارعين، وتُدمج في المناهج الدراسية والمساجد ومراكز الخدمات.
- تطوير خارطة رقمية تفاعلية للمناطق الخطرة، تتاح عبر الهواتف الذكية، وتُحدث دوريًا.
- توثيق الانتهاكات المرتبطة بمخلفات الحرب وتقديمها للمنصات الدولية لضمان الاعتراف القانوني والحقوقي بالضحايا.
- تبني المقاربة الإنسانية في السياسات الاقتصادية عبر ربط الاستثمار والتوظيف بإزالة الألغام وتحقيق الأمان المجتمعي.
خاتمة:
إن ضحايا مخلفات الحرب ليسوا مجرد أرقام في تقارير حقوقية، بل يمثلون اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة والمجتمع السوري على بناء عقد اجتماعي جديد.
وبينما يشكل نزع الألغام خطوة ضرورية، فإن السياسات المرتبطة بها ينبغي أن ترتكز على مفاهيم العدالة، والمشاركة، والذاكرة، والتأهيل، حتى تتحول من مجرد إجراء تقني إلى مسار وطني جامع يعيد الاعتبار للإنسان، ويفتح المجال لاستثمار مستدام وتعايش حقيقي.