عيد التجلي الإلهي

في السادس من آب/أغسطس من كل عام، تقف الكنائس المسيحية في أنحاء العالم، ومنها الكنائس السورية، في لحظة خشوع وتأمل أمام حدث عظيم في تاريخ الخلاص المسيحي: عيد تجلي يسوع المسيح على جبل طابور.
هو ليس مجرّد تذكار طقسي، بل إشراقة روحية تحمل في طياتها إشارات عميقة عن هوية المسيح، وتدعونا لاستقراء أبعادها الروحية والأخلاقية كمنهج حياة وتحوّل داخلي ومجتمعي.

وردت رواية التجلي في الأناجيل الإزائية (متى 17، مرقس 9، لوقا 9)، حيث أخذ يسوع ثلاثة من تلاميذه المقربين: بطرس ويعقوب ويوحنا، وصعد بهم إلى جبل عالٍ، وهناك "تغيّر منظر وجهه، وصارت ثيابه تلمع بيضاء كالضوء"، وظهر له موسى وإيليا يتكلمان معه، وهما رمزا الشريعة والنبوة في العهد القديم.
ثم أتى صوت من السحابة يقول: "هذا هو النبي الحبيب الذي به سُررت، له اسمعوا."

إن هذا الحدث يشكل نقطة تحول في وعي التلاميذ، حيث لا يعود يسوع مجرد معلم أو نبي، بل هو كلمة الله.
فالتجلي إذًا هو إعلان يكشف مجد المسيح، ويُعطي لمحة عن القيامة والنور الذي سيغلب الظلمة.
وعليه فإن الأبعاد الرمزية تتمثل بـ:

  1. اللقاء بين السماء والأرض، فالجبل، كمكان للتجلي، يرمز إلى نقطة التقاء بين الزمني والأبدي، بين الإنسان والله.
  2. ظهور موسى وإيليا، يكشف أن المسيح هو إتمام الشريعة والنبوة، وتوحيد للرؤية الإيمانية العبرانية والمسيحية.
  3. بياض الثياب، علامة النقاء والمجد، ودعوة إلى الطهارة الداخلية كمقدمة للرؤية الروحية.
  4. الصوت الإلهي، تأكيد على نبوّة المسيح وتفويضه بالرسالة.
    هذه الرموز تمنح العيد بعدًا تأمليًا يتجاوز حدود الطقس، ويدعونا إلى قراءة الحدث كتجلٍّ دائم لنور الله في وسط تحديات الحياة.

وفي سورية، حيث تلتقي الحضارات والأديان، يحتل عيد التجلي مكانة مميزة في الوجدان المسيحي، ويُحتفل به من خلال القداديس والتراتيل والتأملات الروحية.
لكن ومع تعقيدات المرحلة الراهنة، يصبح من المفيد أن نستعيد العيد كمنطلق لاستلهام المعاني التي تعين في بناء مرحلة ما بعد الاستبداد، وتأسيس وطنٍ يسع الجميع.

وفي ظل معاناة الشعب الوري، وانقساماته العميقة، وجرحاته الممتدة، يكتسب عيد التجلي بُعدًا إضافيًا: أن يكون تجليًا أخلاقيًا ومجتمعيًا، يدعو إلى:

  1. التحول من الظلمة إلى النور، فكما تجلى المسيح وسط ظلمة الليل، فإن سورية اليوم مدعوة لتتجلى من بين ركام الحرب والدمار، فتُشعّ نورًا جديدًا من العدالة والمصالحة.
    إن التجلي لا يبدأ من السماء، بل من الإنسان الذي يطلب الحق وينبذ العنف.
  2. المصالحة بين الموروثات الدينية، فموسى وإيليا في التجلي يشكلان رمزًا لتكامل الشريعة والنبوة، بينما في سورية يمكن أن يكونا رمزًا لالتقاء المسيحية والإسلام في فضاء وطني مشترك، تُستعاد فيه الرموز الإيمانية كمصدر تلاقٍ لا صراع.
  3. إعلاء الصوت الإلهي فوق الأصوات الطائفية والسياسية، فالصوت الذي قال "له اسمعوا" ينبغي أن يُستعاد كدعوة للاستماع إلى صوت الضمير الإنساني، بدلاً من شعارات الكراهية والانقسام، فكل طائفة في سورية تحمل إرثًا غنيًا، يمكن أن يتحول إلى لبنة في بناء الوطن لا أداة للهدم.
  4. القيادة الأخلاقية بدل السلطة القهرية، فيسوع، في التجلي، لم يكن ملكًا في القصور، بل عظيماً في المجد الروحي.
    كذلك، فإن ما تحتاجه سورية هو قيادة تتمتع بالرؤية والضمير، لا القوة والقمع. كيف نُترجم التجلي إلى مشروع وطني؟
    عبر ترسيخ خطاب روحي وطني يدمج بين الرؤى الدينية، ويُعلّي من شأن القيم المشتركة: الرحمة، العدالة، الكرامة.
    وتعزيز التربية الأخلاقية والدينية في المدارس والبيوت، تُستعاد المعاني الروحية للأعياد في بناء الوعي.
    ومأسسة الحوار بين الطوائف ليصبح اللقاء الرمزي بين موسى وإيليا ومسيح التجلي نموذجًا لسورية تتسع للجميع.
    وأيضا دعم المبادرات الثقافية والرمزية، أن يُعتمد عيد التجلي كمناسبة وطنية للتأمل في معاني السلام والتسامح.
    وأخيراً، إطلاق وثيقة أخلاقية وطنية مستلهمة من المعاني الدينية المشتركة، تكون أساسًا للمرحلة الانتقالية.

إن عيد التجلي، بما يحمله من نور وسكينة ورسائل سماوية، يمكن أن يتحول إلى رمز لإعادة بناء سورية، ليس فقط في عمرانها، بل في إنسانها، فكرها، ومشروعها الوطني. فحين يتجلى الله على الإنسان، يصبح مدعوًّا لأن يُنير مَن حوله، وإذا كان التجلي في المسيحية حدثًا في تاريخ الخلاص، فإن سورية اليوم بحاجة إلى حدث "تجلٍّ وطني"، تنبعث فيه أرواح الشهداء والمظلومين في نور جديد، لا انتقام فيه ولا إقصاء، بل احتضان للجراح وتحويلها إلى طاقة حياة.

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع