المدخل السياسي والاستراتيجي العام:
في لحظة إقليمية تتّسم بالتقلبات الحادة وإعادة رسم محاور النفوذ، يبرز قرار صندوق قطر للتنمية في 31 تموز 2025 بتمويل تزويد سورية بالغاز الأذربيجاني عبر الأراضي التركية، كخطوة تتعدى الإطار الاقتصادي الإغاثي لتلامس عمق التحولات السياسية والاستراتيجية في المنطقة.
اللافت أن الإعلان تزامن مع هدوء نسبي في الجبهات السورية، واستئناف الحوار الإقليمي حول إعادة الإعمار، ما يجعل التمويل القطري حاملًا لرسائل متعددة:
- إعادة تموضع قطر كفاعل إنساني-سياسي في الملف السوري، بعد سنوات من الاصطفاف الحذر.
- المساهمة في إعادة تأطير مفهوم "التطبيع الإغاثي"، أي تسخير أدوات إنسانية لتوسيع الشرعية الاقتصادية دون إقرار سياسي رسمي.
وهنا تكتسب الإشادة الرسمية من المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية، توماس باراك، أهمية مزدوجة: أولًا بوصفها غطاءً دوليًا غير مباشر لهذا التوجّه، وثانيًا لأنها تؤسس لمسار جديد تتجاوز فيه واشنطن لغة العقوبات الصارمة لصالح دعم "بنية تحتية لا سياسية".
القراءة الجيوبوليتيكية للقرار القطري:
يأتي التمويل القطري ضمن شبكة معقدة من المصالح بين أنقرة، باكو، والدوحة:
- تركيا تمثل نقطة عبور استراتيجية للطاقة القادمة من أذربيجان إلى شمال سورية.
هذا يعيد تأكيد دورها كـ"محور طاقوي إقليمي"، لا سيما بعد تعزيز شبكات النقل من حقول الغاز الأذرية إلى أوروبا في الأعوام الماضية. - قطر، لاعب عالمي في سوق الغاز الطبيعي المسال، تستثمر هنا ليس في الغاز نفسه وإنما في بنيته اللوجستية، ما يعكس رغبتها في توسيع أدوات قوتها الناعمة.
- أذربيجان تواصل تطوير صورتها كموفر طاقة متنوع، مستفيدًا من الاضطرابات الروسية-الأوروبية ما بعد حرب أوكرانيا.
وتتقاطع هذه المصالح مع التوجهات الجديدة نحو ما يمكن تسميته بـ"دبلوماسية الطاقة البديلة"، التي تسمح بالتموضع السياسي من بوابة المساعدة وليس المصالح المباشرة.
السياق السوري الداخلي وتأثير التمويل:
القرار القطري يندرج ضمن ما يمكن اعتباره محاولة لتكريس الشرعية الاقتصادية المؤقتة، وهي نمط يتزايد استخدامه في السنوات الأخيرة كبديل للشرعية السياسية الغائبة.
فتمويل الكهرباء بغاز خارجي يغطي نحو 5 ملايين منزل بدءًا من 2 آب، ما يعني:
- تعزيز الاستقرار في سورية بهذه المرحلة.
- تقوية الهياكل المحلية التي تعتمد على الطاقة في دعم التعليم، الصحة، والخدمات البلدية.
- فتح نافذة محتملة لمشاريع تنموية مستقبلية تمهد لإعادة إعمار تمر عبر بوابة دمشق الرسمية.
ومن هنا، يصبح التمويل الغازي مدخلًا تقنيًا لإعادة هندسة التوازنات الداخلية دون خرق للخطوط الحمراء الأميركية والأوروبية حيال التطبيع السياسي.
قراءة في الموقف الأميركي والتوظيف الدبلوماسي:
تصريحات المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية توماس باراك في 31 تموز 2025، جاءت بعد ساعات من إعلان صندوق قطر للتنمية عن التمويل، مما يعكس تنسيقًا سياسيًا غير مباشر. باراك وصف القرار بأنه «بادرة شراكة وصداقة»، مؤكدًا أن الخطوة تمثل مساهمة فعلية في دعم بنية سورية التحتية في لحظة حرجة.
ماذا تعني هذه الإشادة؟
- تحوّل دبلوماسي أميركي نحو أدوات "الشرعية التقنية" حيث تركز واشنطن على تمكين مؤسسات خدمية مرتبطة سياسيًا مباشرة بحكومة دمشق.
- توظيف قطر كقناة آمنة للتأثير بالنظر إلى علاقات قطر المتوازنة مع طيف من الفاعلين الإقليميين والدوليين، تصبح الدوحة وسيطًا مثاليًا لإيصال دعم إنساني–تنموي في بيئة معقدة دون انتهاك العقوبات التي لم يكتمل رفعها.
- توسيع مفهوم "الإغاثة الاستراتيجية" وهي المساعدات التي لا تقتصر على الاستجابة العاجلة، بل ترتبط ببناء مقومات صمود طويلة الأمد، كالبنية الطاقوية.
ويأتي ذلك في وقت تراجعت فيه المبادرات الأميركية المباشرة، ما يجعل إشادة باراك محاولة لتأطير التحرك القطري ضمن أجندة واشنطن دون الالتزام المباشر.
تحليل زمني وتاريخي للقرار:
توقيت القرار في 31 تموز 2025 يواكب لحظة دقيقة، وهو الجمود في ملف إعادة الإعمار، ما فتح الباب أمام مبادرات منفردة من دول عربية وخليجية.
وأيضا استكمال تركيا لخط نقل الغاز TANAP في كانون الثاني 2025، بما يوفر بنية لوجستية جاهزة لنقل الغاز إلى سورية.
ومن المقارنات التاريخية زمن النظام البائد:
- 2021: مشروع الربط الكهربائي المصري عبر الأردن إلى سورية، والذي توقف بسبب اعتراضات أميركية.
- 2022: المبادرة الأردنية–اللبنانية لتمرير الكهرباء عبر سورية برعاية البنك الدولي، والتي شهدت تعثرًا سياسيًا.
ولكن ما يميز القرار القطري أنه يرتكز على الممرات الرسمية للدولة السورية الجديدة، ويعتمد على مسار يخدم اقتصاد سورية، مما يمنحه طابعًا مختلفًا عن المبادرات السابقة.
السيناريوهات المستقبلية والاستنتاجات:
أ. هل تمثل هذه الخطوة بداية تطبيع طاقوي؟
عمليا، نعم، لأنه يرتكز على التنسيق مع حكومة دمشق. كما قد تتبعها خطوات أخرى، كربط الشبكات الكهربائية المحلية بخطوط إقليمية، أو دعم محطات تحويل في شمال حلب.
ب. إمكانيات تحويل الطاقة إلى أداة تفاوض سياسي:
الطاقة يمكن أن تكون أداة استقرار أو ورقة ضغط، بحسب إدارة التوزيع والتمويل.
وإذا رُبطت مشاريع الغاز والكهرباء بإطار تفاوضي يشمل الحكومة وقسد بضمانات إقليمية، فقد تصبح مدخلًا جديدًا للحوار.
ج. تحديات أمام قطر:
- التنسيق مع تركيا، عبر الحفاظ على مرونة المسار دون أن يتحول إلى أداة نفوذ أنقرة.
- التوازن بين المساعدات الإنسانية والبنية التحتية، فقطر تحتاج لتوضيح أن هدفها ليس التوسع الطاقوي بل الدعم الإغاثي طويل الأمد.
خاتمة تحليلية:
إن قرار قطر بتمويل نقل الغاز الأذربيجاني إلى سورية لا يمكن فصله عن ديناميات إعادة التشكل الإقليمي، والمقاربات الجديدة في إدارة الصراع السوري.
فهو يحمل في طياته تحولًا في أدوات التأثير من الخطاب السياسي إلى دعم البنية التحتية، ومن المواجهة الدبلوماسية إلى الشراكة الفنية غير المباشرة.
بمعنى آخر، الخطوة القطرية ليست فقط مساهمة إنسانية، بل هي إشارة إلى أن المستقبل السياسي لسورية قد يُرسم عبر الكيبلات والمحطات أكثر مما يُرسم عبر المحادثات الرسمية. وفي هذه الرمزية يكمن جوهر التحول الجيوبوليتيكي الذي نعيشه اليوم.