أزمة الأمن الغذائي في سورية

مقدمة:

تُعد أزمة الأمن الغذائي في سورية، التي تفاقمت بفعل الجفاف التاريخي الأسوأ منذ عام 1989، من أبرز التحديات التي تواجه البلاد في مرحلة التحول السياسي والاقتصادي بعد سنوات من الصراع.

أدى هذا الجفاف إلى انخفاض إنتاج القمح بنسبة تصل إلى 40%، ليصل إلى حوالي 1.2 مليون طن فقط، مقابل احتياج سنوي يبلغ 4 ملايين طن، مما يخلق عجزاً يقدر بنحو 2.73 مليون طن، وفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة (FAO).

هذا الوضع يهدد أكثر من 16 مليون شخص بخطر الجوع الشديد، فيما يعاني حوالي 12.8 مليون نسمة من انعدام الأمن الغذائي. تتداخل في هذه الأزمة عوامل بيئية واقتصادية وسياسية، مما يجعلها تحدياً متعدد الأبعاد يتطلب تحليلاً معمقاً ورؤية إصلاحية شاملة.

ويهدف هذا المقال إلى تحليل الأزمة في سياقها التاريخي والدولي، مع دمج رؤى من مقالات سابقة نشرها تيار المستقبل السوري، وتقديم توصيات مستوحاة من تجارب دولية ناجحة، بهدف صياغة استراتيجيات مستدامة لبناء أمن غذائي في سورية.

السياق التاريخي، الجفاف كعامل في التحولات السورية:

تعود جذور أزمة الأمن الغذائي في سورية إلى تاريخ طويل من الجفاف المتكرر، الذي أثر بشكل عميق على القطاع الزراعي، الذي كان يُعتبر تاريخياً عماد الاقتصاد الريفي السوري. خلال الفترة من 2006 إلى 2011، شهدت سورية جفافاً مدمراً أدى إلى فشل 75% من المزارع وموت 85% من الماشية، ما تسبب في تهجير ملايين الفلاحين نحو المدن، وهو ما ساهم في تأجيج الاحتجاجات الشعبية التي أفضت إلى الصراع الأهلي عام 2011، بحسب بعض الباحثين.

هذا الجفاف، الذي عزته دراسات الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم جزئياً إلى التغير المناخي، قلل من الإنتاجية الزراعية في مناطق الهلال الخصيب، مما جعل سورية، التي كانت تُعرف بـ"سلة الغذاء" الإقليمية، عرضة للأزمات الغذائية.
وكانت السياسات الزراعية غير المستدامة، مثل الاعتماد المفرط على الري السطحي والزراعة المكثفة دون إدارة فعالة للموارد المائية، قد عمقت هذه التحديات، كما وثقت ذلك تقارير منظمة الأغذية والزراعة على مدى عقود.

إن تيار المستقبل السوري، ككيان سياسي وطني تأسس عام 2012، تناول أزمة الغذاء والجفاف في مقالين رئيسيين نشرا على موقعه الرسمي (sfuturem.org)، وهما:

  1. ورقة معنونة بـ "واقع المياه في سورية" المنشور بتاريخ(19 أغسطس 2025)، حيث يركز المقال على تأثير الجفاف على الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي، مشيراً إلى أن نقص المياه يشكل تهديداً وجودياً للزراعة في مناطق مثل الحسكة وحلب.

ويقترح المقال إنشاء هيئة وطنية لإدارة الموارد المائية، مع التركيز على تحسين أنظمة الري وتفعيل التعاون الدولي لمواجهة التغير المناخي، وهذه الرؤية تضيف بعداً إدارياً مهماً، حيث تؤكد على ضرورة التنسيق المؤسسي لمواجهة الأزمة.

  1. ورقة معنونة بـ "التاجر السوري وعلاقته بالدولة بين الانحدار والتجدد" المنشورة بتاريخ (4 يوليو 2025)، حيث تناولت الورقة دور القطاع الخاص في مواجهة الأزمات الغذائية، مشيرة إلى أن التجار لعبوا دوراً حيوياً خلال سنوات الصراع في تأمين السلع الأساسية، وقد دعونا في تلك الورقة إلى شراكات بين القطاعين العام والخاص لتعزيز الاستيراد ودعم المزارعين، مما يوفر منظوراً اقتصادياً عملياً لتخفيف العجز الغذائي.

الأسباب المتعددة، تفاعل معقد للعوامل البيئية والسياسية:
تتعدد أسباب الأزمة الحالية، وتتفاعل لتشكل تحدياً معقداً يتمثل بـ :

التغير المناخي والجفاف، حيث أدى الجفاف الحالي إلى تضرر 95% من المحاصيل المعتمدة على الأمطار، خاصة في محافظات الحسكة وحلب وحمص، حيث انخفضت كميات الهطول إلى أدنى مستوياتها منذ عقود.
هذا يتماشى مع توقعات نموذج التأثيرات المناخية على الزراعة، الذي يربط بين انخفاض هطول الأمطار وتراجع الإنتاجية الزراعية بنسب تصل إلى 75% في بعض المناطق. تقارير منظمة الأغذية والزراعة تشير إلى أن هذا الجفاف هو جزء من نمط مناخي متزايد الشدة، يهدد الإنتاج الزراعي للقمح، الذي يشكل 70% من الاحتياجات الغذائية اليومية في سورية.

الصراع المسلح وتدمير البنية التحتية، إذ دمر الصراع بين الشعب ونظام الأسد البائد البنية التحتية الزراعية، بما في ذلك السدود وأنظمة الري، مما أدى إلى تهجير المزارعين وانخفاض الاستثمار في القطاع.

التحديات الاقتصادية والسياسات الحكومية، حيث تعيق العقوبات الدولية المستمر تأثيرها حتى كتابة هذه الورقة، ونقص التمويل قدرة الحكومة على الاستيراد، حيث اشترت 373,500 طن فقط من القمح المحلي هذا العام، وهو نصف الكمية السابقة.
وكان سعر الشراء الحكومي (450 دولاراً للطن) يشجع المزارعين على البيع، لكنه لا يكفي لتعويض الخسائر، مما يعكس غياب استراتيجية طويلة الأمد للاستيراد أو التنويع الزراعي.

هذا وتتجاوز آثار الأزمة الجوانب الاقتصادية لتشمل الاجتماعية والسياسية:

  • اقتصادياً: يؤدي العجز إلى زيادة أسعار الغذاء بنسبة تصل إلى 200% في بعض المناطق، مما يفاقم الفقر الذي يصيب 90% من السكان.
    فتوقعات وزارة الزراعة الأمريكية (USDA) تشير إلى زيادة الواردات بنسبة 53% في موسم 2025/2026، لتصل إلى 2.15 مليون طن، لكن هذا يعتمد على قدرة الحكومة على التمويل.
  • اجتماعياً: يهدد الجوع الشديد 3 ملايين شخص، مع تفاقم سوء التغذية بين الأطفال والنساء.
    فتقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) تشير إلى أن 16.2 مليون شخص قد يتأثرون، مما يزيد من الهجرة الداخلية والتوترات الاجتماعية.
  • سياسياً: تشكل الأزمة اختباراً للقيادة الجديدة، حيث قد تؤدي إلى اضطرابات اجتماعية إذا لم تُدار بشكل فعال، كما حدث تاريخياً في سورية خلال الأزمات السابقة.

الربط الدولي، دروس من أزمات مشابهة:

تشبه أزمة سورية تلك التي تواجهها دول أخرى مثل اليمن، وإثيوبيا، والسودان. ففي اليمن، أدى الصراع إلى ارتفاع عدد المتضررين من الجوع إلى 17 مليون شخص بين 2021 و2022، مع اعتماد مماثل على الواردات المعوقة بالعقوبات.
وفي إثيوبيا، أثر الجفاف على 23 مليون شخص في القرن الأفريقي، مما تسبب في هجرة جماعية وتوترات، كما وثق تقرير الشبكة العالمية لمكافحة أزمات الغذاء لعام 2025.
وفي السودان، يعمق الصراع الداخلي أزمة الغذاء، حيث يواجه 258 مليون شخص عالمياً انعدام الأمن الغذائي، وفقاً لتقرير حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم (SOFI) لعام 2025.

هذه الحالات تكشف عن نمط عالمي، حيث يصبح الجفاف في الدول الهشة محفزاً للنزاعات، كما أبرزت دراسات في مجلة Global Food Security.

خاتمة:
لمعالجة الأزمة، يمكن لسورية الاستفادة من تجارب دول ناجحة في إدارة الجفاف، مع دمج رؤى تيار المستقبل السوري:

  1. قصيرة الأمد: تعزيز الاستيراد الطارئ من خلال صفقات دولية، مع الاستفادة من المساعدات الإنسانية.
    حيث يوصي تقرير FAO بتوفير بذور مقاومة للجفاف ودعم أنظمة الري الحديثة، كما فعلت إثيوبيا عبر برامج المساعدات الطارئة التي خففت من حدة الجوع في مناطق تيغراي.
  2. طويلة الأمد: تبني سياسات مستدامة مستوحاة من تجارب دولية.
    ففي إسرائيل، ساعد الري بالتنقيط وإعادة تدوير 86% من المياه العادمة على تحويل الصحراء إلى أراضٍ خصبة.
    واستراليا طورت أنظمة مراقبة الجفاف المبكرة، مما قلل الخسائر الزراعية بنسبة كبيرة.
    والهند استفادت من التنويع الزراعي وبذور مقاومة للجفاف، مع تمويل أخضر من برامج دولية.

يُوصى بسورية بإنشاء هيئة وطنية لإدارة الموارد المائية، كما اقترح تيار المستقبل السوري، مع دمج القطاع الخاص في شراكات لدعم الاستيراد والإنتاج.

  1. إصلاحات مؤسسية: إنشاء احتياطي غذائي وطني، ودمج سورية في اتفاقيات مناخية دولية مثل اتفاق باريس للحصول على تمويل أخضر، مع الاستفادة من تجربة المغرب في إدارة الموارد المائية عبر الشراكات الدولية.

تمثل أزمة الأمن الغذائي في سورية لحظة فارقة، حيث يمكن للجفاف أن يصبح محفزاً للإصلاح بدلاً من كارثة ممتدة.
ومن خلال دمج الرؤى المحلية من تيار المستقبل السوري مع الدروس الدولية، يمكن بناء نموذج مستدام يعيد لسورية دورها كمركز زراعي إقليمي. فالنجاح يتطلب تعاوناً بين الحكومة، والقطاع الخاص، والمجتمع الدولي، ليس فقط لتجاوز الأزمة الحالية، بل لبناء مستقبل يقاوم التحديات المناخية بإبداع وصمود.

إن هذه الأزمة، رغم قسوتها، تفتح الباب أمام إعادة صياغة السياسات الزراعية نحو استدامة طويلة الأمد، مما يعزز الأمل في سورية موحدة ومزدهرة.

المراجع:

  1. تقرير رويترز، سورية تواجه شبح أزمة غذاء تاريخية مع تفاقم الجفاف وتراجع إنتاج القمح، 18 أغسطس 2025.
  2. منظمة الأغذية والزراعة (FAO)، تقرير حالة الأمن الغذائي في سورية، 2025.
  3. الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم، دراسة حول تأثير الجفاف على الصراع السوري، 2015.
  4. مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، تقرير الأمن الغذائي في سورية، 2025.
  5. تيار المستقبل السوري، واقع المياه في سورية، 19 أغسطس 2025.
  6. تيار المستقبل السوري، التاجر السوري وعلاقته بالدولة بين الانحدار والتجدد، 4 يوليو 2025.
  7. الشبكة العالمية لمكافحة أزمات الغذاء، تقرير 2025.
  8. تقرير حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم (SOFI)، 2025.
  9. دراسة في مجلة Global Food Security، منطق الحرب والأمن الغذائي، 2023.
  10. منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، تقرير عن إدارة الجفاف في أستراليا، 2020.
  11. تقرير إعادة تقييم سياسات الجفاف في الهند مقارنة مع إسرائيل وأستراليا، 2022.
شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع