مقدمة:
تعدّ محافظة السويداء، الواقعة في جنوب سورية قرب الحدود مع الأردن، واحدة من أبرز المناطق الدروزية في العالم، حيث يشكل الدروز غالبية سكانها (حوالي 90%)، مع وجود أقليات بدوية وعربية أخرى، وتتميز بتاريخ طويل من الاستقلالية النسبية والمقاومة للسلطات المركزية.
ومنذ عهد الانتداب الفرنسي، قادت السويداء ثورات مثل الثورة السورية الكبرى عام 1925 بقيادة سلطان الأطرش، مما يعكس تراثًا من التمسك بالحكم الذاتي والدفاع عن الهوية.
ومع اندلاع الثورة السورية في مارس 2011، دخلت السويداء مرحلة معقدة من الحياد الاستراتيجي، والاحتجاجات المتقطعة، والدفاع عن نفسها ضد التهديدات الخارجية والداخلية.
هذا التحليل يغطي تطور دورها منذ 2011 وحتى المظاهرات الراهنة في أغسطس 2025، التي تطالب بحق تقرير المصير، معتمدًا على سياقات سياسية، اقتصادية، واجتماعية متشابكة.
من 2011_2014:
اندلعت الثورة السورية في درعا المجاورة للسويداء، لكن رد فعل السويداء كان مختلفًا.
ففي البداية، حافظت القيادات الدروزية على حياد نسبي تجاه النظام البعثي بقيادة بشار الأسد، خوفًا من الوقوع في فخ الطائفية أو الانهيار الأمني.
ومع ذلك، شهدت المحافظة احتجاجات صغيرة في 2011-2012، غالبًا ما كانت نخبوية ومضادة للنظام، مطالبة بحقوق مدنية وإصلاحات اقتصادية.
كانت هذه الاحتجاجات محدودة بسبب القمع الحكومي، الذي شمل اعتقالات واستخدام أسلحة قمعية، لكنها لم تتصاعد إلى مواجهات مسلحة كما في حمص أو إدلب.
وبحلول 2013-2014، بدأت السويداء تشكل ميليشيات دفاع ذاتي، مثل "رجال الكرامة"، لمواجهة تهديدات الجماعات الإرهابية مثل داعش، التي حاولت التوغل جنوبًا.
هذا الحياد لم يكن مطلقًا؛ فقد رفض الدروز الالتحاق بالجيش النظامي بشكل واسع، مما أدى إلى اشتباكات مع قوات الأسد في بعض الحالات.
كانت المحافظة تعاني من تدهور اقتصادي بسبب الحرب، مع ارتفاع البطالة وانقطاع الخدمات، لكنها حافظت على استقرار نسبي مقارنة بمناطق أخرى.
وفي هذه المرحلة، كانت السويداء تمثل نموذجًا لـ"الثورة المكبوتة"، حيث كانت المطالب السياسية ثانوية أمام البقاء.
من 2015 _ 2022:
مع تصعيد الحرب، تحولت السويداء إلى ملاذ آمن نسبيًا، لكنها واجهت تحديات متعددة.
ففي 2015، هاجم داعش قرى دروزية، مما دفع المجتمع إلى تعزيز دفاعاته المحلية. رفض الدروز دعم النظام بشكل كامل، وشهدت المحافظة احتجاجات ضد التجنيد الإجباري، مع مقتل عشرات في اشتباكات مع قوات الأمن. بحلول 2018، ومع سيطرة النظام على معظم الجنوب، حاول الأسد فرض سيطرته، لكن السويداء حافظت على استقلاليتها الفعلية من خلال ميليشيات محلية.
اقتصاديًا، تفاقم الوضع بسبب العقوبات الدولية والفساد، مما أدى إلى احتجاجات متفرقة في 2020-2022 ضد رفع الدعم عن الوقود والخبز، وكانت هذه الاحتجاجات غير طائفية، تركز على الحياة اليومية، وتعكس رفضًا متزايدًا للنظام دون الانخراط في المعارك المسلحة.
في الوقت نفسه، بدأت أصوات تطالب بحكم ذاتي أو اتحادي، مستلهمة من تاريخ الثورة الكبرى، لكنها بقيت محدودة بسبب الخوف من التصعيد.
من 2023_ 2024:
شهد عام 2023 تحولًا دراماتيكيًا، ففي أغسطس، اندلعت مظاهرات واسعة في السويداء بسبب تدهور الاقتصاد، مطالبة بإسقاط الأسد وتطبيق قرار مجلس الأمن 2254، وكانت هذه الاحتجاجات سلمية، ومنظمة، وشملت نساءً بشكل بارز، مع شعارات مثل "الحرية" وطرد الإيرانيين والروس.
استمرت لأشهر، مع إغلاق مكاتب حزب البعث وإزالة تماثيل الأسد، مما جعل السويداء "ثورة دروزية" مستقلة عن المعارضة الشمالية.
وفي 2024، استمرت الاحتجاجات رغم الضغوط، مع رفض مشاريع انفصالية وتركيز على حل سياسي وطني.
ومع ذلك، مع سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024 (كما يشير إلى ذلك تقارير ما بعد الأسد)، احتفلت السويداء مع باقي الشعب السوري بمناسبة تحرير سورية، لكن ما لبث أن غدا صوت أحد مشايخ العقل "حكمت الهجري" مرتفعاً ضد القيادة الجديدة بدمشق، ورافضاً للإعلان الدستوري وللحوار الوطني ولكل مسارات القيادة الانتقالية، ثم غدا موقفه عبارة عن مواجهة حكومة جديدة إسلامية بقيادة هيئة تحرير الشام (HTS)، التي سيطرت على دمشق.
لتنقسم السويداء لطرفين، الأول مع مشروع بناء الدولة الجديدة، والثاني عدم الاعتراف بحكومة دمشق رغم استقبال الشيخ الهجري للمحافظ مصطفى البكور، والمطالبة بإصلاحات ديمقراطية وطرد المقاتلين الأجانب، مما أدى إلى تشكيل مجلس عسكري محلي لإدارة المنطقة.
في 2025:
في يوليو 2025، اندلعت اشتباكات عنيفة بين ميليشيات دروزية وبدوية، ثم كان هناك تدخل من الحكومة الجديدة في دمشق، بدأت بخلافات على الأراضي والموارد، لكنها سرعان ما تحولت إلى صراع طائفي.
قتل مئات، مع نزوح عشرات الآلاف، وتدخُّل إسرائيلي عبر غارات جوية لدعم الدروز، مدعيًا حماية الأقليات، ما أدى إلى أزمة إنسانية تمثلت بنقص في الغذاء، والماء، والكهرباء، مع تقارير عن هجوم على للمستشفيات ومقتل أطفال.
وبحلول أغسطس 2025، تحولت الاحتجاجات إلى مطالب صريحة بتقرير المصير، مع مظاهرات هي الأكبر منذ الاشتباكات، تجمع مئات في مدينة السويداء مطالبين بالاستقلال أو الحكم الذاتي.
هذه المطالب مستلهمة من التاريخ الدروزي، لكنها تثير مخاوف من تجزئة سورية، مع رفض الحكومة أي انفصال ووصفها بالتآمر الخارجي.
خاتمة:
ربما تمثل مطالب تقرير المصير في السويداء تحديًا للوحدة الوطنية، لكنها أيضًا فرصة لإعادة بناء سورية على أسس اتحادية عادلة، فمع الاشتباكات المستمرة والتدخلات الخارجية، يبقى المستقبل غامضًا، كما أن حل الصراع يتطلب حوارًا وطنيًا يضمن حقوق الأقليات دون تجزئة، وإلا قد يؤدي إلى مزيد من الانهيار.