مقدمة:
يشهد الواقع السوري في عام 2025 تداعيات عقد ونصف من النزاع المسلح والدمار الشامل، ما جعل إعادة الإعمار مهمة مركّبة تتخطى إعادة البنى التحتية إلى إعادة بناء الأمان الاجتماعي والهوية الوطنية.
وفي هذا السياق، يُعتبر هرم ماسلو للاحتياجات البشرية إطاراً تحليلياً قوياً لفهم أولويات التنمية بعد النزاع، حيث يرتكز على مبدأ أساسي ينطلق من أنه لا يمكن تحقيق مستويات الانتماء والتقدير والإنجاز الذاتي دون تأمين الاحتياجات الفسيولوجية والأمنية أولاً.
تهدف هذه الورقة إلى استكشاف دور السياسة الخارجية السورية في تأمين قاعدة هرم ماسلو، بما يمكّن البلاد من جذب التمويل الدولي لإعادة بناء البنى الأساسية (الغذاء، الماء، السكن، الأمان) والانتقال لاحقاً إلى مستويات أعلى من الاستقرار الاجتماعي والمشاركة السياسية.
- الإطار النظري: هرم ماسلو في سياق إعادة الإعمار
ابتكر أبراهام ماسلو عام 1943م هرم الاحتياجات البشرية كمصفوفةٍ تحلل دوافع الإنسان بدءاً من الاحتياجات الفسيولوجية الأساسية، مروراً بأمان الوجود الجسدي والنفسي، فالمكانة الاجتماعية والتقدير، وصولاً إلى تحقيق الذات.
وعلى الرغم من أن نموذج ماسلو صُمم في الأصل لتحليل الدوافع الفردية، إلا أن الباحثين في التنمية الدولية اعتمدوه لتفسير أولويات الدول الخارجة من النزاع، إذ يتعذّر تحقيق الحكم الرشيد أو المشاركة السياسية دون تأمين الأساسيات للمواطنين.
تعززت مكانة الإطار النظري في أدبيات ما بعد النزاع بدراسات رصدت أن المجتمعات التي أغفلت المستويات الأولى من الهرم (كالطعام والمأوى والأمان) فشلت في بناء مؤسساتٍ اجتماعية وسياسية صامدة.
وفي سورية، حيث دمّرت سنوات الحرب شبكة الخدمات الأساسية وأعادت تشكيل رقعة النفوذ الطائفي والجغرافي، يصبح النموذج أداة لرسم خارطة الأولويات:
الأولى تأمين الاحتياجات الفسيولوجية للأمن الغذائي والمائي، ثم بناء أجهزة أمنٍ محلية قادرة على فرض هيبة القانون، قبل الانطلاق نحو برامج العدالة الانتقالية وإشراك المجتمع في صنع القرار.
- تقييم الاحتياجات الأساسية: الواقع الإنساني في سورية 2025
2.1 الاحتياجات الفسيولوجية والغذائية:
بحسب تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، يحتاج 16.5 مليون سوري إلى مساعدات إنسانية عاجلة، بينهم 6.8 مليون نازح داخلي.
وتشير البيانات إلى أن نصف سكان البلاد تقريباً يعانون انعدام الأمن الغذائي بدرجات متفاوتة، فيما لا تغطي الاستجابة الدولية سوى 15.9% من الاحتياجات الممولة لعام 2025.
وتفيد منظمة الإغاثة النرويجية بأن انقطاع الكهرباء ونقص مضخات المياه جعل ملف الصرف الصحي عرضةً لانتشار الأوبئة، ما يفاقم معاناة النازحين في المخيمات والبيوت المدّمرة.
هذه الفجوة في تلبية الاحتياجات الفسيولوجية تمنعهم من الانتقال إلى مستويات أعلى من الهرم كالشعور بالانتماء أو الاندماج الاجتماعي.
2.2 احتياجات الأمان والاستقرار:
الأمن الداخلي ركيزة أساسية في هرم ماسلو، ويُحدّد مدى قدرة المواطن على الشعور بالأمان الشخصي وضمان سبل المعيشة.
وقد وثّق المتحدث باسم الأمين العام في مجلس الأمن أن 670 ألف شخص نزحوا خلال النصف الأول من 2025 بسبب تجدد العنف في مناطق مثل ريف دمشق وسويداء، وأن عشرات المدن الصغيرة تتعرض لقصف متقطع رغم الهدنات الرسمية.
كما يؤكد صندوق النقد الدولي أن انهيار الجهاز الاقتصادي وغياب السيولة النقدية يجعلان المواطنين عرضةً للسوق السوداء والجريمة المنظمة، ما يستدعي إعادة هيكلة أجهزة الأمن والدرك والشرطة لضمان سلطة الدولة على كامل الأراضي السورية والتقليل من الانتهاكات بحق المدنيين. - السياسة الخارجية وتأمين التمويل الدولي لإعادة البناء
3.1 العلاقات مع الولايات المتحدة ودور العقوبات
رغم تحفظات الإدارة الأمريكية على التعامل مع دمشق، شهد مطلع 2025 نقاشات في الكونغرس حول رفع جزئي للعقوبات الاقتصادية المفروضة بهدف إدخال المواد الإنسانية وإعادة تأهيل البنى التحتية.
يُرى هذا التحوّل كموضع تجربةٍ لاستعادة الثقة الدبلوماسية، إذ يشترط رفع العقوبات أن تحقق الحكومة السورية التزاماً بتوزيع عادل للمساعدات وعدم استغلالها سياسياً أو طائفياً.
3.2 تسوية الديون والعلاقات مع السعودية:
لعبت الرياض دوراً محورياً في تخفيف أعباء الديون السورية لدى البنك الدولي عبر مبادرةٍ رعتها في الرياض منتصف 2025، ما فتح الباب أمام تسهيلات ائتمانية للشركات السورية لإعادة تأهيل المستشفيات والمدارس في المناطق المحررة.
ترافق ذلك مع دعم مالي شهري للقطاع العام ومنحٍ مباشرة للموظفين المدنيين بقيمة 30 دولاراً شهرياً، الأمر الذي خفف إلى حدٍّ ما من تضخم البطالة وأعطى إشاراتٍ أولية على رغبة سعودية في استعادة مكانتها الإقليمية كفاعلٍ إغاثي واستثماري.
3.3 الدور التركي وإعادة الإعمار في المناطق الشمالية:
ساهمت أنقرة في إطلاق مشاريعٍ مشتركة مع دمشق لاستصلاح مئات الكيلومترات من الطرق الريفية في محافظات حلب والحسكة والرقة، بالشراكة مع جهات استثمارية سعودية وأوروبية.
وقدّم الخبراء تقديرات أولية بأن هذه المشاريع قد تخفض تكلفة النقل الداخلي بنسبة تصل إلى 30%، مما يعيد بريق النشاط الزراعي والصناعات الخفيفة في الشمال السوري.
3.4 المحادثات مع إسرائيل وتأثيرها على الاستقرار الجنوبي:
في الجنوب، حيث رعتها واشنطن وباركتها تل أبيب، أدّت محادثات غير مباشرة إلى تثبيت اتفاقات هدنةٍ في منطقة هضبة الجولان، مع وجود مراقبين دوليين لضمان التزام الطرفين بوقف إطلاق النار، هذه التهدئة رغم خرقها من قبل اسرائيل بتغلغلها بالقنيطرة قد سمحت بفتح معابرٍ إنسانية محدودة، وإدخال مواد بناء لإصلاح عدّة مدارس ومستشفيات حدودية، وهو ما اختبرته الحكومة السورية كمبادرةٍ أولى لمدّ جسور الثقة مع المجتمع الدولي. - التحديات الأمنية وإصلاح القطاع الأمني
4.1 تدريب القوات وتحديث المعدات:
تسلط المصادر الضوء على أن أكثر من 1,800 عنصر أمني سوري خضعوا لتدريبات مكثفة في قطر والسعودية ضمن برنامجٍ امتد 45 يوماً لكل فئة، شمل مهارات حفظ الأمن، وإدارة الأزمات، والتعامل مع التجمعات المدنية.
وجاء هذا التحرك في سياقٍ إقليمي يسعى إلى استبدال النظم الأمنية القائمة على الولاء الحزبي بكياناتٍ مهنية تعمل تحت إشراف مدني.
4.2 المساءلة وبناء الثقة:
تشير دراسات مؤسسة كارنيجي إلى أن تدريب الكوادر وحده لا يكفي، بل لا بد من إنشاء آلياتٍ قضائية ومدنية لمحاسبة الانتهاكات الأمنية، ومنح المواطنين قنوات تظلم فعّالة.
فغياب المساءلة يعيد إنتاج دورة العنف ويقلل من فرص انتقال المجتمع إلى مستويات أعلى من هرم ماسلو كالتقدير والإنجاز الذاتي. - من قاعدة الهرم إلى إعادة بناء الهوية الوطنية
5.1 الانتماء الاجتماعي والتماسك الوطني:
بمجرد استعادة الأمان وتأمين الاحتياجات الأولية، يصبح التحدي التالي هو بناء نسيجٍ اجتماعي جديد يتجاوز الانقسامات الطائفية والإثنية.
وتُعد لجان المصالحة المحلية والمجالس القروية أدوات تشاركية أسهمت في حل نزاعات معمارية وقبلية في ريف حمص ودير الزور، مدعومة ببرامج تمويل مصغّرة أطلقتها منظمات أممية ومنظمات المجتمع المدني.
5.2 التقدير وتحقيق الذات: العدالة الانتقالية والإصلاح السياسي
عند انتقال الدولة لتطبيق برامج العدالة الانتقالية، يصبح المواطنون قادرين على استعادة كرامتهم وتحصيل حقوقهم في التعويضات والمشاركة السياسية.
وقد أفضت مبادرةٌ تشرف عليها مفوضية الانتقال العدلي إلى توثيق آلاف حالات الاختفاء القسري وإطلاق لجان تحقيق مستقلة، حيث وضعت أساساتٍ للتعبير عن الغضب المجتمعي عبر وسائل قانونية، ما يعزز الشعور بالعدالة والانتماء. - توصيات سياساتية
لكل ما ذكر سابقا، فإننا في المكتب السياسي لـ تيار المستقبل السوري نوصي بما يأتي: - تعزيز التنسيق الدولي عبر تشكيل فريق عمل متعدد الأطراف يضم منظمات أممية وإقليمية وغربية، لتنسيق جهود إعادة الإعمار والتأكد من التزام الأطراف السورية بتوجيه الموارد إلى الاحتياجات الأساسية أولاً.
- إصلاح القطاع الأمني عبر دمج برامج التدريب الإقليمي مع آليات تنظيمية وبنيوية لمساءلة الانتهاكات وتوفير تدريبات مستمرة على حقوق الإنسان.
- إطلاق برامج تنموية مصغرة تشارك فيها المجتمعات المحلية لتحديد أولوياتها وإدارة المشاريع بما يعزز ملكية السكان للمبادرات ويُحسّن من مستوى الانتماء والتقدير.
- ربط العدالة الانتقالية بالإغاثة الإنسانية عبر إحداث وحدات مختلطة تضم قانونيين وخبراء نفسيين لتوثيق الانتهاكات وتقديم دعم نفسي واجتماعي للضحايا أثناء وصولهم إلى خدمات الإعمار.
- متابعة الإصلاحات المالية من خلال منح دمشق حوافز اقتصادية تدريجية مقابل تحقيق معاييرٍ محددة في الشفافية ومكافحة الفساد، بهدف كسب ثقة المانحين وإحداث نمو اقتصادي مستدام.
خاتمة:
تظهر تجربة سورية في عام 2025 كيف يُمكن لتطبيق هرم ماسلو أن يوفر خارطة طريق لأكثر أولويات إعادة الإعمار إلحاحاً، بدءاً من تلبية الاحتياجات الفسيولوجية والأمنية مروراً ببناء نسيجٍ اجتماعي قوي وتنفيذ العدالة الانتقالية.
وفي هذا الإطار، تصبح السياسة الخارجية الآلية الرئيسية لجذب التمويل الدولي وضمان تنسيق الجهود الإقليمية والدولية. وبمعالجة الاحتياجات الأساسية أولاً، يمكن لسورية أن تفتح الباب أمام مستويات أعلى من التنمية المستدامة، وصولاً إلى مجتمع مستقر ومزدهر يقف على قواعدٍ إنسانية صلبة.
المراجع:
- المركز الديمقراطي العربي. (2023). إشكالية بناء الدولة بعد الثورات: الحالة السورية نموذجاً. برلين: المركز الديمقراطي العربي للنشر والدراسات.
- رؤية للفكر والدراسات. (2024). التحديات السياسية والاقتصادية والإنسانية في سورية بعد الثورة. عمّان: مؤسسة رؤية للفكر.
- مركز الجزيرة للدراسات. (2025). التحول السياسي في سورية: بين الواقع والطموح. الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات.
- Maslow, A. H. (1943). A theory of human motivation. Psychological Review, 50(4), 370–396. https://doi.org/10.1037/h0054346
- Brunckmann, J., & Kizilhan, J. I. (2017). Psychological needs and integration of Syrian refugees in Germany. Journal of Refugee Studies, 30(3), 456–472. https://doi.org/10.1093/jrs/fex027
- United Nations Office for the Coordination of Humanitarian Affairs (UNOCHA). (2025). Syria humanitarian needs overview. https://www.unocha.org/syria
- Norwegian Refugee Council (NRC). (2025). Rebuilding Syria: Challenges and priorities. https://www.nrc.no/reports/rebuilding-syria-2025
- International Monetary Fund (IMF). (2025). Syria: Economic outlook and reconstruction needs. https://www.imf.org/en/Countries/SYR
- Carnegie Middle East Center. (2024). Syria’s foreign policy and reconstruction: Between isolation and engagement. https://carnegie-mec.org/2024/03/15/syria-foreign-policy
- Atlantic Council. (2025). A roadmap for Syria’s stabilization: International task force proposal. https://www.atlanticcouncil.org/report/syria-stabilization-roadmap
- Human Rights Watch. (2025). Reforming Syria’s security sector: Accountability and professionalization. https://www.hrw.org/report/2025/04/10/syria-security-reform