يوسف اللبّاد وإصلاح الأجهزة الأمنية

المقدمة:

تمثل حادثة وفاة المواطن السوري يوسف اللبّاد إثر اعتقاله من قبل الأجهزة الأمنية لحظة صادمة تكشف استمرار انعدام المساءلة، وتضارب الروايات الرسمية حول الانتهاكات.

وفي هذه الدراسة، نطرح هذا الحدث كنقطة تحول تاريخية مفصلية تدفع نحو إعادة هيكلة العقيدة الأمنية، وتفعيل مقاصد الدين، ومبادئ حقوق الإنسان، كمرتكزات إصلاحية داخل المؤسسة الأمنية السورية برمّتها.

السياق العام والوقائع:

في نهاية شهر تموز 2025، اتصلت وزارة الداخلية السورية بعائلة الشاب يوسف لبّاد لتخبرهم بنبأ وفاته، وذلك بعد اعتقاله من داخل "مسجد بني أمية" الجامع الأموي بدمشق، حيث كان بحالة نفسية غامضة كما روي.
بينما أفادت الرواية الرسمية بأن الوفاة نتجت عن إيذاءه لنفسه بسبب حالته النفسية الحرجة، لكن عائلة الضحية أكدوا وجود آثار لتعذيب جسدي واضح على جثته.
بعدها تم تنظيم اجتماع بين وجهاء حي القابون ووفد حكومي، في خطوة استيعابية لكنها تفتقر إلى أطر تحقيق شفافة أو مساءلة مؤسسية، إضافة لاستنفار وزير الداخلية الذي أكد على فتح تحقيق رسمي بالحادثة، وكل ذلك مع ورود بيان رسمي يتنصل من مسؤولية قتله بالجملة.

وفي تحليل رمزية الحدث نجد الآتي:

  1. المكان:
    اختيار الموقع الذي جرت فيه عملية الاعتقال هو مسجد بني أمية بدمشق (الجامع الأموي) وهو ما يفتح باباً لفهم الارتباط من جهة والارتباك العميق بين السلطة الدينية والأمنية من جهة أجرى، فالمسجد فضاءٌ مقدسٌ تتلاقى فيه الروحانية والسيادة الرمزية، وانتهاك هذا الفضاء (إن حصل) فهو يعكس غياب البنية القيمية في الممارسة الأمنية، خصوصاً وقد أكدت عائلة المتوفى أنه نذر الاعتكاف بالجامع الأموي ثلاثة أيام فرحاً بعودته من ألمانيا.
  2. طبيعة الأشخاص:
    إن عودة المتوفى يوسف من أوروبا قبل يومين فقط من اعتقاله فموته، ربما يعكس استمرار منهجية الريبة تجاه أبناء الوطن من المغتربين والوافدين، بما يحملون من خلفيات مدنية أو فكرية مناوئة، وهي استراتيجية أمنية (إن حصلت) فهي تقوض أساسات المصالحة الوطنية، وتعزز الانقسام المجتمعي، رغم احتمالية أن يكون المتوفى فعلا بحالة نفسية غير متزنة كما أوضحت الفيديوهات عن حالة اعتقاله، أو بلغ تلك الحالة بسبب تعامل الأمن منه أصلاً (أي دُفِعَ لكي يبلغ حالة التوتر التي تظهر عليه بسبب منعه من اتمام اعتكافه، أو سؤاله عن أصله وفصله وغير ذلك مما لم يعد المغتربُ يستسيغه أو يهضمه أو حتى يقبله).
  3. تضارب الروايات:
    إن النفي الرسمي للتعذيب في ظل الأدلة البصرية، والشهادات الأسرية، يضع المؤسسات الأمنية في مواجهة مباشرة مع أزمة الشرعية (مع فهمنا العميق جدا لما تمر به دولتنا الوليدة من مرحلة صعبة وحساسة)، ولكن غياب الشفافية، وتأخر إتمام مراحل التحقيق المستقل، قد يخلق مناخًا عامًا من السخط لا نتمناه، ويفتح المجال لسرديات الظلم، كما يعمق الهوة بين الدولة والمجتمع.

وهنا نُشدد على جعل تصريحات السيد وزير الداخلية ذات شفافية مطلقة، لعدم تكرار ما حدث، وبلوغ المؤمل من هذا الامتحان القاسي واللازم.

الضرورة الفقهية والحقوقية لإعادة بناء العقيدة الأمنية:

  1. مقاصد الدين كمحرك إصلاحي:
    وفقًا للمقاصد الخمسة في الشريعة الإسلامية (حفظ النفس، الدين، العقل، العرض، والمال)، فإن الاعتداء على كرامة الإنسان يتعارض بشكل مباشر مع وظيفية الدولة كراعية للمجتمع، ومؤسسات الأمن في هذا السياق، ينبغي أن تُعتمد كأداة لحفظ الحقوق، لا كآلية قمع، وهو ما أكد عليه الرئيس السوري أحمد الشرع.
  2. حقوق الإنسان كمرجعية تأسيسية:
    إن مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وخاصة تلك المتعلقة بالكرامة، وعدم التعرض للتعذيب، توفر إطارًا تأسيسيًا يعزز شرعية الدولة داخليًا وخارجيًا، وإعادة هيكلة المؤسسة الأمنية وفق هذه المبادئ يعيد موضعة الدولة كفاعل شرعي في المجال الدولي.

وعليه فإن الحاجة ماسة اليوم إلى بناء عقيدة أمنية بديلة، ويجب أن تستند إلى المفاهيم والمنطلقات الآتية:

  1. منطق الوقاية المجتمعية لا الردع السلطوي:
    يجب أن تتحول البنية الأمنية من "منطق الردع" القائم على الشك المسبق، والمعاملة القاسية إلى "منطق الوقاية" المرتكز على استشعار الأزمات المجتمعية، وتفعيل دور علم النفس والمجتمع في إدارة السلوك العام.
  2. الأمن المجتمعي كمفهوم تشاركي:
    ينبغي تبني نموذج للأمن قائم على التفاعل المجتمعي، حيث يكون المواطن شريكًا في إنتاج الأمن، لا مجرد موضوع للرقابة أو الاحتجاز.
    وهذا النموذج يتطلب إصلاحات تعليمية، وتدريب الكوادر الأمنية على مهارات التواصل وبناء الثقة.
  3. الفصل بين الأمن والعقيدة الأيديولوجية:
    أحد أهم إصلاحات العقيدة الأمنية (وقد كتبنا عنه مسبقاً) هو الفصل التام بين المهام الأمنية والولاءات السياسية أو العقائدية، ويجب أن تكون وظيفة الأمن مدنية وقانونية بالدرجة الأولى، بحيث تستند إلى قواعد صريحة للمساءلة والمعايير الأخلاقية.

وعليه فإننا في تيار المستقبل السوري نوصي بما يأتي:

  1. فتح تحقيق مستقل ومحايد في قضية وفاة يوسف لبّاد، وبإشراف قضاة ومراقبين وطنيين ذو خبرة ومصداقية، على أن يحدد أهل المتوفى أحدهم إن أمكن ذلك.
  2. إعادة تدريب الكوادر الأمنية وفق مناهج تعتمد على القانون الدولي الإنساني، ومبادئ حقوق الإنسان.
  3. دمج مفاهيم المقاصد الشرعية في الخطط التدريبية للأمن الداخلي لتعزيز بُعد القيمة الأخلاقية ضمن العمل الوظيفي والمهام المنوطة بهم.
  4. إنشاء هيئة مدنية مستقلة لمراقبة الأداء الأمني، والتحقيق في الشكاوى والانتهاكات.
  5. إطلاق برنامج وطني "ثقة وأمان" بالتعاون مع المجتمع المدني لاستعادة العلاقة بين المواطن والمؤسسة الأمنية.

إن قضية يوسف اللباد محنة أمام الضابطة العدلية تتجلى معها الحاجة لإعادة رسم بنية الأجهزة الأمنية بما يجعلها راعية للمواطن السوري، وبما أننا بمرحلة بناء لمؤسسات الدولة، سيكون من المهنية جعل هذه الحادثة لحظة مفصلية فارقة بتعامل الأجهزة الأمنية مع المواطنين، على اعتبار ضرورة تحمل هذه الأجهزة مسؤولية سلامة جميع المواطنين، ومحاسبة العناصر غير المنضبطة بشكل حازم يمنع تكرار مثل هكذا جرائم وانتهاكات (إن حصلت).

المراجع:

  • ابن عاشور، الطاهر. مقاصد الشريعة الإسلامية. تونس: دار سحنون، 1946.
  • حنّة أرندت. أصول الشمولية. نيويورك: هاركورت، 1951.
  • فوكو، ميشيل. المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن. باريس: غاليمار، 1975.
  • الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الأمم المتحدة، 1948.
  • تقرير هيومن رايتس ووتش حول التعذيب في سوريا، 2023.
  • ناعوم تشومسكي. السيطرة على الإعلام. لندن: بلوتو برس، 2002.
  • جون رولز. نظرية العدالة. هارفرد، 1971.
شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع