المقدّمة:
تشهد محافظة السويداء منذ منتصف عام 2023 قبل سقوط النظام البائد، تطورات متسارعة، تتراوح بين احتجاجات مدنية موسعة، ومواجهات مسلّحة محدودة، ومبادرات سياسية متباينة محليًا وإقليميًا. ووسط هذا المشهد، تبرز تصريحات الزعيم اللبناني وليد جنبلاط في تموز 2025 كمداخلة سياسية تضع الأزمة في إطار تفاوضي يتقاطع مع خطاب الدولة السورية الرسمي حول مركزية الحل السياسي.
تهدف هذه الورقة إلى تفكيك المقاربة الجنبلاطية، وتحليل الخطاب الرسمي السوري، وقراءة الحراك المحلي من منظور يؤمن بالدولة الوطنية بوصفها تعاقدًا مؤسسيًا ومجتمعيًا يتجاوز اختزال الهوية في الطائفة أو القبيلة. كما تتناول الورقة إمكانية بلورة مسار تفاوضي حقيقي يتأسس على المشاركة السياسية، والتمثيل المحلي، وإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع في السويداء ضمن الإطار السوري العام.
موقع السويداء في التصوّر السياسي السوري:
تمثّل السويداء من الناحية التاريخية والجغرافية فضاءً له خصوصية سكانية وسياسية، باعتبارها موطنًا رئيسيًا لطائفة الموحدين الدروز، وبوابة جنوبية ذات امتدادات عشائرية واجتماعية مع درعا والقنيطرة، وقد اتّسم موقف السويداء من النظام السوري منذ عام 2011م بالحياد النسبي، إلا أن هذا الحياد لم يمنع تصاعد أصوات الاحتجاج في لحظات مفصلية نتيجة تدهور الواقع الاقتصادي وغياب التمثيل السياسي الفاعل.
ويمكن تلخيص ديناميكيات السويداء وفق ثلاث مستويات:
- الاحتجاج المدني المحض، وقد تجلى في حركات تطالب بالخدمات العامة، واستقلال القرار المحلي، ورفض عسكرة المجتمع.
- المجموعات المسلّحة المحلية، ظهرت كرد فعل على فراغ السلطة، لكنها لم تتطور إلى فاعل سياسي متماسك، خصوصا بعد اغتيال الشيخ وحيد البلعوس.
- الوساطات الدينية والزعامات التقليدية، مثل مشيخة العقل، التي تتلقى الدعوات من أطراف عدة دون أن تملك هامش قرار مستقل.
هذه المستويات المتشابكة تجعل من الحل السياسي تحديًا يتطلب إعادة بناء الثقة، وتفكيك رواسب الانعزال، وتجاوز منطق الاستقطاب الهوياتي.
خطاب جنبلاط بين الوساطة الإقليمية والضبط الهوياتي:
في تصريحاته بتاريخ 20 تموز 2025، يطرح الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط أربعة مواقف مركزية:
- دعوة للحوار مع الحكومة السورية، تشمل كافة المكونات الدينية والطائفية في السويداء.
- حث الشيخ حكمت الهجري على المشاركة في المسار التفاوضي.
- رفض الحماية الدولية والإسرائيلية للطائفة الدرزية.
- التأكيد على انتماء الدروز للنسيج العربي والسوري.
ويمكن تفسير هذه المواقف وفق ثلاث اعتبارات استراتيجية:
- ضبط المسار الهوياتي عبر التأكيد على وحدة الدروز ضمن الإطار العربي، ورفض الانفصال أو التدويل.
- احتواء الأزمة دون إضعاف الدولة السورية، فجنبلاط، وإن وجّه نقدًا غير مباشر، لم يشكك في شرعية الدولة كإطار تفاوضي.
- استعادة الموقع الوسيط للطائفة الدرزية، بحيث تُوظّف دورها التفاوضي في رسم حل شامل لا يتناقض مع المركز ولا يُخضعه.
ويبدو جنبلاط هنا كمن يوازن بين الحفاظ على الخصوصية الدرزية، ومنع انفجار داخلي في الجبل أكثر مما هو منفجر اليوم، وبين تنشيط المسار السياسي بالتنسيق مع دمشق دون الاصطفاف خلفها كليًا.
الخطاب الرسمي السوري والرهان على مركزية الدولة:
أبرز ما ورد على لسان وزير الإعلام حمزة المصطفى يتمثل في:
- اعتبار "غياب الدولة" سببًا رئيسيًا في الأزمة، مع التأكيد أن الدولة "حرصت منذ سقوط الأسد" على توفير مقومات الحياة في السويداء.
- تحميل المجموعات المسلحة مسؤولية رفض الحلول السياسية.
- التمسك بثلاثية "بلد واحد، حكومة واحدة، جيش واحد".
- دعوة للتصرف المسؤول على أساس أن "سورية تتّسع لجميع أبنائها".
ويُلاحظ أن هذا الخطاب يحتوي على مفارقة دلالية وسياسية: - فـ"غياب الدولة" يُستخدم هنا لتبرير الأزمة، لكنه لا يرتّب مسؤولية مباشرة على السلطة المركزية.
- التركيز على وحدة الدولة لا يقابله طرح عملي لتمكين التمثيل المحلي أو الاعتراف بالتعدد السياسي.
- دعوة الجميع للاندماج في الجيش الوطني تتعارض مع واقع أن كثيرًا من الفاعلين المحليين لا يثقون بالمؤسسة العسكرية كضامن للاستقرار، بل يرونها طرفًا في الأزمة.
وتشير هذه المفارقات إلى أن الدولة تتبنى سردية سياسية أحادية، لا تتيح مساحة كافية لمفاوضات حقيقية، بل تضع شروطًا مسبقة على طبيعة الحل وشرعية الفاعلين فيه. نحو دولة وطنية تفاوضية.. شروط إعادة التعاقد في السويداء:
من منظور الدولة الوطنية التعاقدية، يمكن طرح خمسة شروط أساسية لإعادة بناء العلاقة بين الدولة والسويداء:
- الاعتراف بالتمثيل المحلي غير المسلح كمكوّن شرعي تفاوضي، دون اختزاله في الزعامات التقليدية.
- رفع الحصار ووقف التصعيد العسكري كمدخل لبناء الثقة وإفساح المجال للحوار.
- تشكيل لجنة تحقيق مستقلة، بمشاركة حقوقيين محليين، في أحداث العنف والانتهاكات.
- إعادة تعريف دور الجيش في المناطق ذات الخصوصية، بحيث لا يُنظر إليه كقوة فرض بل كمؤسسة حامية للعقد الوطني.
- بلورة مسار سياسي تشاركي لا يُدار حصريًا من دمشق، بل يُفتح لصياغة وطنية متعددة الأطراف والمؤسسات.
هذه الشروط ليست خارجة عن الإطار الدستوري، بل تهدف لتأويله بوصفه إطارًا عقديًا مرنًا، لا وثيقة جامدة تُفرض من المركز. الدور المحتمل للمراكز البحثية والوساطة المدنية:
ينبغي لمراكز الدراسات الوطنية أن تلعب دورًا جوهريًا في:
- صياغة أوراق موقف تخصصية تدفع نحو تمثيل سياسي تعددي في المحافظات الخارجة من النزاع.
- تبني خطاب تواصلي مع الحكومة يستند إلى الواقعية السياسية لا المجابهة الرمزية.
- إعداد منصّات حوارية مشتركة بين ممثلي المجتمع المدني والدولة، بصيغة تعاونية لا فوقية.
وتستطيع هذه المراكز أن تكون حلقة وصل بين الحراك المحلي والدولة، وبين العقل السياسي والمجتمعي، عبر أدوات البحث، والوساطة، والتقييم المستقل.
الخاتمة:
تمثّل تصريحات جنبلاط، وردّ الدولة عليها، مناسبة لتحفيز نقاش أوسع حول شكل الدولة الوطنية السورية بعد سنوات من الانقسام، فبين مركز يريد احتواء الجميع، وهامش يطالب بحق التمثيل المستقل، تبرز السويداء كنموذج يمكن فيه اختبار جدّية الدولة في تبنّي الحلول السياسية لا كمناورة خطابية بل كعقد اجتماعي جديد.
إن بناء دولة وطنية تفاوضية لا يبدأ من الهياكل فحسب، بل من إعادة الثقة وتعددية التمثيل، ومن الاعتراف بأن ما هو “محلي” لا يُلغى إلا حين يُحتضن، وأن الحلول لا تُفرض، بل تُنتج عبر التفاوض والاحترام المتبادل.
المراجع:
- الجزيرة مباشر، تصريحات وليد جنبلاط، 20 تموز 2025
- تلفزيون سورية، تغطية الأزمة في السويداء، تموز 2025
- خطاب وزير الإعلام السوري، حمزة المصطفى، المؤتمر الصحفي 19 تموز 2025
- نبيل صالح، “السويداء ومأزق المركزية السورية”، مجلة قضايا وطنية، 2024
- فواز جرجس، “الدولة الوطنية في المشرق: جدلية المركز والهامش”، المركز العربي للأبحاث، 2022
- عزمي بشارة، “في سؤال الدولة في العالم العربي”، المؤسسة العربية، 2018