مصير أطفال المعتقلين والمغيبين قسرًا في إطار وطني للإصلاح الجنائي والاجتماعي

مقدمة:

منذ إعلان تشكيل لجنة التحقيق الوطنية حول مصير أبناء وبنات المعتقلين والمغيبين قسرًا داخل السجون والمراكز الحكومية التابعة للنظام المخلوع، برز الملف بوصفه أحد أكثر قضايا العدالة الانتقالية حساسية وتعقيدًا في سورية ما بعد الحرب. وتمثل خطوة إطلاق اللجنة، التي ترأسها وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل وتضم ممثلين عن وزارات الداخلية والعدل والأوقاف، إضافة إلى خبراء حقوقيين وممثلين عن المجتمع المدني وأهالي المفقودين، انتقالًا من الإنكار إلى التأسيس المؤسسي، ومن التستّر الإداري إلى المساءلة الوظيفية.
وبعد مؤتمر اللجنة الصحفي المنعقد في 9 تموز 2025، حيث استعرضت خطتها وآلية عملها، بات من الضروري مرافقة جهود اللجنة بوثيقة سياسات تستند إلى قواعد الإصلاح الجنائي والاجتماعي، وتوجه عمل الدولة نحو سياسات كشف، عدالة، وجبر ضرر تراكمت عبر عقدين من التغوّل الأمني والإداري على حياة الأطفال.


يهدف هذا المقال إلى:

  1. دعم عمل اللجنة الوطنية بمقترحات تنفيذية مدروسة، قائمة على التجارب الدولية في العدالة الانتقالية للأطفال.
  2. وضع إطار مؤسسي دائم يتجاوز اللجنة المؤقتة نحو بنية رقابية وتشريعية وطنية تضمن حقوق الأطفال ضحايا الاعتقال أو الإخفاء.
  3. توحيد قاعدة البيانات المتعلقة بالمفقودين، وربطها بنظام وطني للهوية الأسرية والرعاية المجتمعية.
  4. بناء شراكة وطنية–دولية في التوثيق، التحقيق، والمرافقة القانونية والنفسية للضحايا.

التحليل المؤسسي والقانوني:
أ. طبيعة الانتهاكات:
تشمل الانتهاكات توثيقًا مبدئيًا لـ مئات الحالات من الأطفال الذين فُقدوا أثناء اعتقال ذويهم أو بعد تسليمهم لدور رعاية حكومية مرتبطة بأجهزة الأمن أو منظمات غير رسمية. كما تتضمن الانتهاكات:

  • تغيير النسب القانوني لبعض الأطفال.
  • إدخالهم إلى جمعيات خيرية غير مرخصة.
  • إخراجهم من البلاد بطرق غير رسمية.
  • عدم توثيق ولادات أثناء الاعتقال، ما أدى إلى اختفاء سجلاتهم المدنية.

ب. الهيكل الإداري المعني:

اللجنة الحالية تُدار من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية، وتتضمن ممثلين عن:
وزارة الداخلية لجمع البيانات الأمنية والتحقيقات الجنائية. ووزارة العدل للإشراف القضائي ومراجعة انتهاكات الهوية والسفر.
ووزارة الأوقاف لمعالجة الانتهاكات في الجمعيات الدينية. ومنظمات المجتمع المدني لتمثيل الضحايا وضمان التوثيق المجتمعي.
إضافة لأهالي المفقودين لتقديم الشهادات والوثائق.
وقد بدأت اللجنة بزيارات ميدانية لدور الرعاية، وتم توقيف عدة مسؤولين، منهم وزيرتان سابقتان ومديرات جمعيات اجتماعية، في خطوة تُعد غير مسبوقة منذ عام 2011.

الإطار المقارن: تجارب دولية مماثلة:


في الأرجنتين (1985–2005) أنشأت الحكومة بالتعاون مع منظمة "أبناء المفقودين" سجلًا وراثيًا وطنيًا لاستعادة نسب الأطفال الذين تم تبنيهم سرًا أثناء ديكتاتورية العسكر.
وفي المغرب (هيئة الإنصاف والمصالحة) أقرّت الدولة بحق الضحايا في معرفة الحقيقة وتأسيس صندوق لجبر الضرر، بمن فيهم الأطفال المتأثرين بانتهاكات سنوات الرصاص.
وفي رواندا بعد الإبادة، شكلت لجان محلية "الغاتشاكا" لتقصي الحقيقة وتحديد مصير الأطفال الذين فُقدوا أو خضعوا للتجنيد القسري.
هذه التجارب تؤكد أهمية الاعتراف القانوني، التوثيق العلمي، والشراكة المدنية–الدولية لبناء ذاكرة حقوقية جامعة.

خاتمة:


إن قضية أطفال المعتقلين والمغيبين قسراً لا تتعلق بالماضي فقط، بل بمستقبل العدالة السورية ذاتها. فكل طفل فُقد، هو اختبار للدولة في قدرتها على حماية الأضعف، واستعادة الكرامة، وتفعيل وظيفة القانون.
كما أن هذه القضية تُعيد تعريف مفهوم المواطنة – من مجرد رقم مدني إلى هوية محمية وحق غير قابل للتشويه.

إن تيار المستقبل السوري، ومن منطلق رؤيته لمجتمع العدالة والمؤسسة، يدعو إلى تحويل هذا التحقيق إلى سياسة عامة دائمة، وإطار دستوري للإصلاح الجنائي، ومشروع وطني جامع يعيد بناء الثقة ويضع حدًا لحلقات الإفلات والإذلال التي شوّهت صورة الدولة لعقود.


وعليه فإننا في تيار المستقبل السوري نوصي بالآتي:

1.التأسيس القانوني والإداري:

  • تحويل اللجنة إلى هيئة وطنية دائمة لحقوق الأطفال في سياق العدالة الانتقالية، ترتبط مباشرة بالحكومة وتملك صلاحيات التحقيق، التحويل القضائي، والتوثيق المركزي.
  • إصدار مرسوم يقضي بإنشاء سجل وطني للهوية الأسرية للأطفال المفقودين، يُربط بشبكة السجل المدني، ويتاح لأهالي الضحايا وللجهات القضائية

2.الإجراءات القضائية:

  • تفعيل دوائر قضائية خاصة ضمن وزارة العدل، للنظر في قضايا الأطفال المتأثرين بالاعتقال أو الإخفاء، على غرار وحدات الأحداث، مع ضمان التمثيل القانوني المجاني

    إحالة الملفات إلى نيابات متخصصة في الجرائم ضد الإنسانية أو انتهاكات الطفولة، وفق المعايير الدولية (اتفاقية حقوق الطفل – بروتوكول جنيف الثاني)

3.العدالة الاجتماعية وجبر الضرر:

  • إنشاء صندوق حماية الأطفال المفقودين والمغيبين قسراً، تُموّله الدولة بالتعاون مع شركاء دوليين، ويُخصص لتعويض المتضررين، وتقديم دعم نفسي واجتماعي وإدماج تربوي.
  • توفير خدمات صحية ونفسية مجانية للأطفال المُستعادين أو الذين مروا بتجارب استغلال، بالتنسيق مع منظمة الصحة العالمية ومنظمات الرعاية النفسية المعتمدة

4.الشراكة والرقابة المدنية:

  • إقرار قانون ينص على تشكيل لجنة رقابة مجتمعية دائمة، تضم أهالي المفقودين، جمعيات حقوقية، باحثين قانونيين، تُراجع سير التحقيقات وتُنشر تقريرًا سنويًا.
  • إشراك منظمات دولية مثل اليونيسف، الصليب الأحمر، والمفوضية السامية في الرقابة، التدريب، وتأمين المسارات القضائية الدولية

5.الاعتراف الرمزي والوطني:

  • إعلان يوم وطني لـ "ضحايا الإخفاء القسري من الأطفال"، يُنظّم فيه مؤتمر حقوقي وتربوي، وتُعرض فيه شهادات ضحايا، وتُمنح فيه جوائز لمراكز البحث والضحايا الناجين.
  • إدراج ملف "أطفال المعتقلين" ضمن المناهج الدراسية الثانوية، بموجب وحدة تعليمية حول العدالة الاجتماعية والحقوق الأساسية.


إن كل طفل يُكتشف مصيره، هو استعادة لوظيفة الوطن. وكل تقرير يُنشر، هو حجر في أساس سورية العدالة والمؤسسات.

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع