المقدمة:
في ظل تصاعد التوترات الأمنية في الجنوب السوري، كشف موقع أكسيوس الأميركي عن استعداد الولايات المتحدة للتوسط في اجتماع ثلاثي بين مسؤولين كبار من سورية وإسرائيل، برئاسة المبعوث الأميركي إلى سورية توم باراك، وذلك يوم الخميس 24 يوليو 2025م.
يأتي هذا التطور في أعقاب غارات إسرائيلية مكثفة على دمشق والسويداء، واشتباكات داخلية بين مكونات محلية، ما يطرح أسئلة جوهرية حول طبيعة التفاوض، شرعيته، وأثره على مستقبل سورية السياسي
أولاً، الخلفية التاريخية للتفاوض السوري الإسرائيلي:
منذ اتفاق فك الاشتباك عام 1974، حافظ النظام السوري على حالة "اللاحرب واللاسلم" مع إسرائيل، مع خطاب مقاوم شكلي مقابل واقع حدودي مستقر نسبيًا.
كما شهدت تسعينيات القرن الماضي محاولات تفاوضية أبرزها مؤتمر مدريد (1991) لكنها فشلت بسبب تعنت الطرفين، خاصة حول ملف الجولان.
هذا وقد استخدم النظام السوري زمن الأسد الأب والابن العلاقة مع إسرائيل كأداة لتثبيت شرعيته الخارجية، مقابل قمع داخلي ممنهج، دون أي تقدم حقيقي نحو تسوية عادلة أو استعادة الحقوق.
ثانيًا، السياق السياسي والأمني الراهن:
بحسب أكسيوس، فإن الاجتماع المرتقب يهدف إلى ترتيبات أمنية في الجنوب السوري، وتفادي أزمات مشابهة لما حدث في السويداء الأسبوع الماضي، حيث شنت إسرائيل غارات على أكثر من 160 هدفًا في أربع محافظات، أسفرت عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة 34 آخرين.
هذا وتُطالب إسرائيل بـ"منطقة منزوعة السلاح" وتواجد دائم على خط وقف إطلاق النار لعام 1974، بذريعة "حماية الدروز"، ما يعكس رغبة في إعادة هندسة الجنوب السوري أمنياً دون تسوية سياسية شاملة.
وعلى المقلب الآخر، تلعب تركيا دورًا وسيطًا، وتجري مشاورات مع سورية وإسرائيل حول ملفات تشمل "قسد"، والدروز، والعلويين، ما يعكس تقاطع مصالح إقليمية أكثر من توافقات.
ثالثًا، الإشكاليات الدستورية والشرعية:
لا توجد مرجعية دستورية شرعية حالياً تُحدد من يملك حق التفاوض باسم سورية، ما يجعل أي تفاهمات عرضة للطعن القانوني والسياسي.
كما أن غياب إطار تفاوضي انتقالي يُحصّن الحقوق السيادية ويمنع استخدام التفاوض كأداة لإقصاء المعارضة أو إعادة إنتاج العلاقات الأمنية السرية التي ميزت عهد الأسد.
وبالتالي فإن أي تفاوض يجب أن يُخضع لمبدأ التمثيل الوطني المتوازن، ويُدار ضمن ميثاق مؤقت أو دستور انتقالي يُحدد أهداف التفاوض وسقوفه وضوابطه الأخلاقية.
رابعًا، الأبعاد الاستراتيجية:
التفاوض في ظل غارات إسرائيلية مستمرة، وغياب التزام بوقفها، يُهدد بتحويل الجنوب السوري إلى منطقة نفوذ أمني إسرائيلي غير معلن. كما أن استمرار استبعاد القوى السياسية السورية من أي تفاهمات يُعيد إنتاج منطق "أمن النظام فوق أمن المواطن"، ويُضعف فرص بناء عقد اجتماعي جديد، فالتفاهمات الأمنية دون ضمانات قانونية أو إشراف دولي قد تُستخدم لتصفية القوى المحلية المعارضة، كما حدث في مراحل سابقة من العلاقة السورية–الإسرائيلية.
الخاتمة:
يشكل المسار التفاوضي المحتمل بين سورية وإسرائيل، في سياق الوساطة الأميركية التي كشفت عنها مصادر أكسيوس بتاريخ 21 يوليو 2025، اختبارًا بالغ الحساسية لإمكانات إنتاج شرعية تفاوضية جديدة خارج السياق السلطوي التقليدي الذي حكم علاقة دمشق بتل أبيب لعقود. إذ إن طبيعة الاجتماع الأمني المرتقب في الجنوب السوري، والتكتم الرسمي بشأن الأطراف التمثيلية، يعكس استمرار الإشكالية البنيوية في النظام السياسي السوري، لا سيما تلك المتعلقة بغياب إطار دستوري–شرعي يُحدد حدود السيادة، وشروط التمثيل، وضوابط التفاوض.
وعليه، فإن أي تفاهمات أمنية تُبرم في ظل غياب دستور انتقالي أو عقد اجتماعي واضح تمثل خطرًا على هوية الدولة السورية، وقد تؤدي إلى إعادة إنتاج نموذج الحوكمة الأمنية الذي ميّز عهد الأسد، حيث كانت العلاقة مع إسرائيل أداة لإعادة هندسة الداخل السياسي لا لاستعادة الحقوق الوطنية.
ولكل ماسبق، فإننا في المكتب السياسي لـ تيار المستقبل السوري نوصي بالآتي:
- إرساء مبدأ الشفافية التفاوضية: يجب أن يتم أي تفاوض ضمن إطار علني، يخضع للمساءلة الوطنية والدولية، ويُدار من قبل جسم تفاوضي شرعي.
- تحصين التفاوض دستوريًا: النص في أي دستور انتقالي على شروط التفاوض مع الدول المعادية، بما يمنع الاستفراد ويصون الحقوق.
- فتح صفحة جديدة قائمة على الحقوق: التفاوض يجب أن يكون وسيلة لإنهاء توظيف العلاقة مع إسرائيل ضد الداخل السوري، لا استمراراً لسياسات الأسد.
- إشراك القوى الوطنية: لا بد من تمثيل القوى الوطنية السياسية السورية دون تحفظ في أي تفاهمات، لضمان التوازن ومنع الإقصاء، كما وننصح باسم الأستاذ فاروق الشرع ليكون جزءاً ركيزاً من هذا المسار.
- ضمانات دولية: يجب أن تُرافق أي تفاهمات أمنية ضمانات دولية واضحة، تمنع الانتهاكات وتُحصّن السيادة السورية.
إن بناء مرجعية تفاوضية شرعية كما يتطلب إعادة النظر في الصيغ المؤسسية، فإنه -وهو الأهم- يستدعي مقاربة متعددة المستويات تتضمن إصلاحًا دستوريًا، وتوازنًا سياسيًا داخليًا، وإشرافًا دوليًا ضامنًا، بما يحول دون تحول الجنوب السوري إلى منطقة مقايضات أمنية ذات طابع أحادي.
وبينما يشكل التفاوض فرصة لإعادة تعريف السيادة على أسس حقوقية وتشاركية، فإن انفصاله عن السياق الدستوري الوطني سيحول دون تحقيق تلك الأهداف، ويُبقي العلاقة السورية–الإسرائيلية رهينة منطق الاستبداد الذي يستثمر في العداء دون تسوية، وفي الصراع دون عدالة.