الملخص التنفيذي:
تواجه سوريا تحديًا اقتصاديًا غير مسبوق في مرحلة ما بعد الحرب والاستبداد، إذ لم تعد أزمات الفقر، والبطالة، وانهيار البنية الإنتاجية مجرّد تبعات لصراع مسلّح، بل تمظهرات بنيوية لنموذج ريعي سلطوي امتد لعقود، وأجهز على قدرة الدولة على التخطيط، والتوزيع، والتحفيز.
في هذا السياق، تطرح الورقة إشكالية مركزية: كيف يمكن إعادة تأسيس الاقتصاد السوري على أسس إنتاجية تشاركية، بما يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويؤسس لعقد اقتصادي جديد يتجاوز منطق الريوع والمساعدات، نحو تنمية وطنية مستقرة وربط إقليمي واعد، خصوصًا مع الشركاء الخليجيين.
تعتمد الورقة منهجًا تحليليًا مقارنًا، يجمع بين تفكيك الواقع الاقتصادي السوري الراهن، واستشراف نماذج انتقالية من تجارب دول خرجت من سلطويات اقتصادية (مثل جورجيا، ورواندا، وتونس).
كما تقدّم إطارًا نظريًا قائمًا على مفاهيم "العقل الريعي"، "الاقتصاد الانتقالي"، و"العقد الاقتصادي"، من أجل فهم المداخل الممكنة لتأسيس اقتصاد ما بعد الاستبداد.
وتتوزع الورقة على ثمانية أقسام، تبدأ بتحليل بنية الاقتصاد السوري قبل الثورة وما بعدها، ثم تطرح اختناقات التنمية الراهنة، قبل الانتقال إلى عرض ملامح الاقتصاد الجديد، ومواصفاته البنيوية والتشاركية.
كما تختم الورقة بتوصيات تنفيذية موجّهة لوزارة الاقتصاد السورية والمستثمرين السعوديين، في قطاعات غير تقليدية ذات أثر استراتيجي، وضرورة بلورة إطار قانوني انتقالي يضمن جدوى الاستثمار وحمايته.
وتهدف الورقة إلى تزويد صناع القرار، والباحثين، والمستثمرين برؤية تأسيسية لاقتصاد سوري منتج وعادل، بما يسهم في استقرار المرحلة الانتقالية، ويعيد بناء الثقة بين الدولة والمجتمع ورأس المال الإقليمي.
المقدمة العامة:
تأتي هذه الورقة في سياق لحظة سورية انتقالية تتطلب مراجعة جذرية للنموذج الاقتصادي الذي حكم البلاد لعقود، حيث هيمنت العقليات الريعية، الامتيازية، والتوزيعية على مؤسسات الدولة وآليات السوق، مانعةً نشوء بنية إنتاجية عادلة ومستقرة.
لقد أدى التحالف بين السياسي والأمني والاقتصادي، خصوصًا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إلى ما يمكن وصفه بـ"اقتصاد زبائني مغلق"، عجز عن تحقيق تنمية مستدامة، أو خلق فرص عمل واسعة، أو تحقيق عدالة مناطقية وتنموية.
مع اندلاع الثورة وما تلاها من حرب مفتوحة، تفككت البنية الاقتصادية بما يتجاوز مظاهر الانهيار المؤقت، ليطال جوهر النظام الاقتصادي نفسه، ويكشف عن هشاشته البنيوية واعتماده المطلق على مركزية القرار، والموازنات غير المنتجة، والعلاقات الزبائنية السياسية. ومع تراجع دور الدولة، وتعدد سلطات الأمر الواقع، وسريان نماذج اقتصادية غير رسمية، أصبح السؤال الاقتصادي أحد المداخل الأساسية لفهم إمكانية إعادة تأسيس دولة جديدة، ومجتمع منتج، وعلاقة شرعية بينهما.
تسعى هذه الورقة إلى تقديم قراءة تحليلية تأسيسية للبنية الاقتصادية السورية، تربط بين مظاهر الانهيار الحاصل، وجذوره المؤسساتية والذهنية، ثم تطرح مداخل نظرية وتنفيذية لإعادة صياغة الاقتصاد السوري ضمن مرحلة انتقالية سياسية محتملة.
وتركّز الورقة على مفهوم "العقد الاقتصادي الجديد" كمدخل لتجاوز منطق الإصلاح الجزئي، نحو بناء تصور تأسيسي يربط بين الإنتاج، والتمكين المحلي، والربط الإقليمي، خصوصًا مع شركاء محتملين كالقطاع الاستثماري السعودي.
الإطار النظري والمفاهيمي:
تستند هذه الورقة إلى ثلاثة مفاهيم مركزية يُفترض أنها تشكل مدخلًا لفهم التحول الاقتصادي السوري: "العقل الريعي"، "الاقتصاد الانتقالي"، و"العقد الاقتصادي". هذه المفاهيم هي أدوات تحليلية تُساعد في تفكيك البنية الاقتصادية القائمة، واقتراح نماذج بديلة أكثر قابلية للتطبيق في سياق ما بعد السلطوية.
أولًا، يعبّر مفهوم "العقل الريعي" عن نمط من التفكير والسياسات الاقتصادية يُقوّض الإنتاجية، ويُكرّس التبعية للدولة بوصفها موزّعة للموارد لا ممكّنة لها.
في السياق السوري، ارتبط العقل الريعي بالاعتماد شبه المطلق على الريوع النفطية، والريع السياسي (كالعلاقات الإقليمية)، والريع الأمني (الامتيازات المرتبطة بالولاء). وقد أدى ذلك إلى تآكل فكرة السوق كفضاء للمنافسة، وتحولها إلى ميدان للتموضع الزبائني.
هذا المفهوم تم تطويره أكاديميًا ضمن أدبيات الاقتصاد السياسي في العالم العربي، لاسيما لدى هشام شرابي، وجلبير الأشقر، وعزيز العظمة.
ثانيًا، يُشير مفهوم "الاقتصاد الانتقالي" إلى المرحلة التي تمر بها الدول الخارجة من الاستبداد أو الحرب، حيث يُعاد تشكيل العلاقة بين الفاعلين الاقتصاديين ومؤسسات الدولة.
وفي الأدبيات المقارنة، تظهر نماذج مختلفة: نموذج "التحرر السوقي السريع" (كما في جورجيا)، أو نموذج "التمكين المحلي التدريجي" (كما في رواندا). في الحالة السورية، لا يمكن استنساخ أي من النموذجين، بل يجب خلق مقاربة هجينة تراعي هشاشة الدولة، وقوة المجتمعات المحلية، وطبيعة الانقسام الإداري القائم. فالاقتصاد الانتقالي ليس مجرد مرحلة وسيطة، بل لحظة تأسيس تُعيد تعريف أولويات الاستثمار، وأطر الحوكمة، ومنطق التوزيع.
ثالثًا، يُستخدم مفهوم "العقد الاقتصادي" كمدخل تأسيسي يتجاوز إصلاح السياسات أو إعادة الإعمار التقني، نحو بناء تصور شامل لطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع والمستثمرين.
فالعقد الاقتصادي يتطلب تحديد المبادئ الناظمة (كالعدالة والشفافية)، وآليات المشاركة، ووسائل الرقابة.
وفي حالات مثل جنوب إفريقيا وتونس، مثّل هذا العقد فرصة لإعادة التوازن بين القوى الاجتماعية، وفتح المجال للمأسسة التدريجية للشرعية الاقتصادية. وفي الحالة السورية، يُعد هذا المفهوم ضرورة لا ترفًا، إذ لا يمكن استعادة الثقة أو الاستقرار بدون تصور تعاقدي جديد يُعيد الاعتبار للإنتاج، ويُنهي منطق الامتياز والزبائنية.
بناء على هذه المفاهيم، تُقارب الورقة الواقع السوري لا بوصفه حالة انهيار مؤقت، بل كتجسيد لعقود من التكلّس المؤسسي والاقتصادي، وتبحث في كيفية تجاوز ذلك عبر تأسيس عقد اقتصادي انتقالي يعيد بناء الدولة والمجتمع على قاعدة الإنتاج والمشاركة.
تحليل الواقع الاقتصادي السوري الراهن:
تميّز الاقتصاد السوري قبل عام 2011 ببنية ريعية مركّبة، امتزج فيها الريع السياسي والأمني مع أنماط من التمركز الاحتكاري والزبائنية المؤسسية. ولم تكن مرحلة ما سُمّي بـ"التحرير الاقتصادي" سوى انتقالٍ شكلي من ريعية الدولة المركزية إلى نمط جديد من ريعية السوق المرتبطة بالمركز السياسي، حيث تحوّلت قطاعات العقارات والخدمات إلى ساحات للتموضع السلطوي أكثر من كونها أدوات للتنمية المستدامة.
هذا النموذج فشل في إنتاج فرص عمل حقيقية، أو خلق تنافسية قطاعية، أو تحقيق عدالة توزيع تنموية بين المحافظات.
فقد تم استبعاد الفئات المنتجة – من فلاحين وحرفيين وعمال تقنيين – لصالح شبكات الامتياز القريبة من السلطة، مما أنتج تهميشًا اقتصاديًا واسعًا وعزوفًا عن المشاركة في دورة الإنتاج.
مع اندلاع الحرب، دخل الاقتصاد السوري مرحلة انهيار هيكلي، لا يُقاس فقط بحجم الدمار أو الخسائر، بل بانهيار المنطق الحاكم لعلاقة الدولة بالسوق والمجتمع.
فقد دُمّرت البنية التحتية الإنتاجية في مناطق واسعة، وحدثت موجات هجرة مكثفة للكفاءات والمهارات، وفقدت الدولة قدرتها على ضبط المجال الاقتصادي بسبب تعدد سلطات الأمر الواقع، وتفكك السياسات العامة.
علاوة على ذلك، نشأت أنماط اقتصادية موازية غير رسمية، تتراوح بين الاقتصاد الإغاثي، والريوع المحلية، وشبكات التهريب، ونماذج تمويل جماعي مغلقة، مما عمّق التشظي وأضعف إمكانية بناء سياسة اقتصادية موحدة.
لا يمكن فهم هذا الواقع باعتباره أزمة طارئة، بل يجب التعامل معه بوصفه نتيجة طويلة الأمد لبنية اقتصادية غير عادلة، فاقدة للشفافية، ومعزولة عن المجتمع المنتج.
هذا التوصيف يُشكل أساسًا ضروريًا للانتقال نحو نموذج جديد لا يعيد إنتاج الاستبداد الاقتصادي، بل يؤسس لعلاقة تعاقدية تشاركية قائمة على الإنتاج، التوزيع العادل، ودور الدولة كمُمكّن لا كموزّع امتيازات.
تحليل الواقع الاقتصادي السوري الراهن:
يُعد الاقتصاد السوري قبل عام 2011 نموذجًا مركبًا من الريوع السياسية والأمنية، حيث تداخلت شبكات الامتيازات مع بنى الاحتكار والزبائنية، في ظل غياب شبه كامل لآليات السوق التنافسية أو الحوكمة المؤسسية.
وقد مثّلت مرحلة "التحرير الاقتصادي" في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كما وصفها جلبير الأشقر، انتقالًا من الريع الاشتراكي إلى الريع الليبرالي الزائف، دون أن تُفضي إلى بناء اقتصاد إنتاجي مستقل.
تجلّت هذه البنية الريعية في عدة مظاهر:
- التمركز القطاعي: حيث هيمنت قطاعات العقارات والخدمات المالية المرتبطة بالسلطة على النشاط الاقتصادي، بينما تراجعت الزراعة والصناعة التحويلية.
- الاحتكار الزبائني: إذ ارتبطت فرص الاستثمار والتراخيص والعقود العامة بولاءات سياسية وأمنية، لا بمعايير الجدوى أو الكفاءة.
- الانفصال عن المجتمع المنتج: حيث تم تهميش الفلاحين، والحرفيين، والعمال الصناعيين، لصالح طبقة ريعية مرتبطة بالمركز السياسي.
مع اندلاع الثورة، دخل الاقتصاد السوري في مرحلة انهيار ممنهج، لا يمكن اختزاله في أرقام الخسائر، بل يجب فهمه كبنية تفككت على مستويات متعددة: - تفكك البنية التحتية الإنتاجية: تدمير واسع للمصانع، وشبكات الري، والطاقة، والمرافق الحيوية.
- هجرة الكفاءات: نزوح جماعي للمهندسين، والأطباء، والمختصين، مما خلق فجوة معرفية يصعب تعويضها.
- تشظي إداري ومناطقي: تعدد سلطات الأمر الواقع، وغياب سياسة اقتصادية وطنية موحدة، مما أدى إلى نشوء اقتصاديات محلية غير مترابطة، بعضها قائم على الإغاثة، وبعضها على التهريب أو الريوع العسكرية.
في هذا السياق، لا يمكن الحديث عن "إعادة إعمار" دون تفكيك البنية الريعية التي سبقت الحرب، وإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع الاقتصادي.
كما أن غياب العقد الاقتصادي، وغياب الشفافية، واستمرار منطق الامتيازات، يُعد من أبرز عوائق التعافي.
تُظهر التجارب المقارنة، كما في رواندا بعد 1994، أن تجاوز الانهيار الاقتصادي لا يتم عبر ضخ الأموال فقط، بل عبر إعادة بناء الثقة المؤسسية، وتأسيس رؤية وطنية تشاركية تربط بين الإنتاج، والعدالة، والحوكمة. أما في جورجيا، فقد مثّل تفكيك شبكات الفساد، وتحرير السوق من الامتيازات السياسية، مدخلًا أساسيًا لإعادة بناء الاقتصاد الانتقالي
في الحالة السورية، لا تزال هذه الشروط غائبة، مما يجعل من تحليل الواقع الاقتصادي الراهن ضرورة تأسيسية لفهم ما يجب تجاوزه، لا ما يجب ترميمه فقط.
اختناقات التنمية بعد الحرب.. الأسباب البنيوية والسياساتية:
رغم انتهاء العمليات العسكرية الكبرى في سوريا، لا تزال التنمية تواجه اختناقات بنيوية وسياساتية تحول دون الانتقال إلى اقتصاد إنتاجي مستقر.
هذه الاختناقات لا ترتبط فقط بغياب التمويل أو الدمار الفيزيائي، بل تنبع من خلل عميق في البنية المؤسسية، وغياب العقد الاقتصادي، وتعدد الجهات المتدخلة، مما يجعل التخطيط التنموي عرضة للتشظي والتسييس.
أولًا، ضعف البنية التحتية الإنتاجية يشكّل عائقًا جوهريًا. فبحسب تقرير الإسكوا الصادر في يناير 2020، فإن أكثر من 40% من المنشآت الصناعية والزراعية في سوريا تعرضت لتدمير جزئي أو كلي، مع تراجع حاد في قدرة الدولة على توفير الكهرباء والمياه والاتصالات
كما أن زلزال شباط 2023 فاقم الأضرار في شمال غرب البلاد، خصوصًا في إدلب وحلب، حيث خرجت آلاف المرافق عن الخدمة.
ثانيًا، هشاشة رأس المال البشري.
تشير تقديرات بحثية إلى أن أكثر من 60% من الكوادر الطبية والتعليمية غادرت البلاد أو خرجت من الخدمة، مما خلق فجوة معرفية يصعب تعويضها في المدى القصير، كما أن نسبة البطالة بين الشباب تجاوزت 50% في بعض المناطق، مع غياب برامج تدريب مهني فعالة.
ثالثًا، غياب المعلومة الاقتصادية الدقيقة. لا توجد قاعدة بيانات وطنية موحدة حول الإنتاج، الاستثمار، أو العمالة، مما يجعل التخطيط الاقتصادي أقرب إلى التخمين منه إلى التقدير العلمي. وقد أشار تقرير صادر عن مركز الدراسات السورية في سانت أندروز إلى أن تعدد الجهات المسيطرة على الأرض أدى إلى نشوء "اقتصاديات محلية غير مترابطة"، بعضها قائم على الإغاثة، وبعضها على الريوع العسكرية أو التهريب، وهذا له تأثيره ليومنا هذا.
رابعًا، عوائق التمويل والمخاطر القانونية. رغم رفع بعض العقوبات الغربية في مايو 2025، لا تزال البيئة القانونية غير واضحة للمستثمرين، خصوصًا في ظل تعدد السلطات المحلية.
وقد أشار تقرير صادر عن مركز ستراتيجيكس إلى أن أكثر من 70% من السوريين يعتمدون على المساعدات الإنسانية، وأن نسبة الفقر تجاوزت 90% في نهاية 2024 مما يجعل السوق المحلي غير قادر على تحفيز الطلب الداخلي.
خامسًا، ارتباك الأولويات الوطنية مقابل المشاريع الإغاثية أو السياسية. لا توجد رؤية اقتصادية وطنية تحدد القطاعات ذات الأولوية، بل يتم تنفيذ مشاريع متفرقة بناءً على تمويل خارجي أو مصالح محلية.
وقد أشار الباحث خالد التركاوي إلى أن التخطيط الإقليمي والعمراني غائب عن معظم المشاريع، مما يحد من قدرتها على خلق تكامل اقتصادي بين المدن والمناطق.
سادسًا، تعدد الجهات المتدخلة دوليًا ومحليًا. منظمات الأمم المتحدة، الجهات الخليجية، الفاعلون المحليون، والمجالس العسكرية، جميعها تطرح مشاريع تنموية دون تنسيق مؤسسي، مما يؤدي إلى تضارب في الأهداف، وتكرار في التنفيذ، وغياب في التقييم، وإن كان ذلك بدأ يتلاشى مع المركزية الاقتصادية بدمشق.
في ضوء هذه الاختناقات، لا يمكن الحديث عن "إعادة إعمار" بالمعنى التقليدي، بل يجب التفكير في تأسيس عقد اقتصادي جديد يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويضع التنمية في صلب الشرعية السياسية والاجتماعية.
استشراف الاقتصاد السوري الانتقالي:
في ظل الانهيار البنيوي الذي أصاب الاقتصاد السوري، لا يمكن التفكير في التعافي عبر استعادة النموذج السابق أو ترميمه، بل يجب التأسيس لاقتصاد جديد يتجاوز منطق الريوع والامتيازات، ويُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع والقطاع الخاص.
هذا الاقتصاد الانتقالي لا يُبنى فقط على التمويل أو إعادة الإعمار، بل على إعادة صياغة المنطق الحاكم للإنتاج، والتوزيع، والمشاركة.
تُظهر التجارب المقارنة أن الدول الخارجة من النزاعات نجحت حينما تبنّت نماذج إنتاجية تشاركية، ووضعت التنمية في صلب العقد السياسي الجديد.
ففي رواندا، بعد الإبادة الجماعية عام 1994، أطلقت الحكومة رؤية وطنية شاملة (رؤية 2020)، ركّزت على تمكين القطاع الخاص، وتطوير البنية التحتية، وتحسين بيئة الأعمال، مما أدى إلى نمو اقتصادي تجاوز 7% سنويًا خلال عقدين، وانخفاض الفقر بنسبة 40%، وتحسن مؤشرات التعليم والصحة بشكل لافت.
أما في جورجيا، فقد مثّل تفكيك شبكات الفساد، وتحرير السوق من الامتيازات السياسية، مدخلًا أساسيًا لإعادة بناء الاقتصاد بعد الثورة، حيث تم تبسيط الإجراءات الإدارية، وتفعيل الشراكة بين الدولة والمستثمرين، مما أدى إلى نمو سريع في قطاعات الخدمات والتقنية، وتحسن كبير في مؤشرات الحوكمة والشفافية.
في الحالة السورية، يمكن استلهام هذه التجارب دون استنساخها، عبر تبني نموذج اقتصادي انتقالي يقوم على:
- تمكين القطاع الأهلي والتعاوني: عبر دعم المجالس المحلية، الجمعيات الإنتاجية، والمبادرات المجتمعية، بما يخلق اقتصادًا قاعديًا مرنًا، قادرًا على تجاوز مركزية الدولة.
- الاستثمار في القطاعات الحيوية غير التقليدية: مثل الطاقة المتجددة، الزراعة الذكية، التعليم التقني، والصناعات المعرفية، وهي قطاعات تتمتع بميزة نسبية في سوريا، خصوصًا في الشمال والشرق.
- إعادة تعريف دور الدولة: لتكون مُمكّنة، شفافة، وتشاركية، عبر بناء مؤسسات مستقلة للتخطيط، والتقييم، والمساءلة، بعيدًا عن منطق السيطرة المركزية.
- الربط الإقليمي الذكي: خصوصًا مع دول الخليج، وهو مايتم اليوم كما نرى، عبر مشاريع لوجستية، وتعليمية، وتقنية، تُحوّل سورية إلى عقدة اقتصادية بين المتوسط والخليج، وتُعيد دمجها في السوق الإقليمي.
هذا الاستشراف لا يُقدّم كتصور مثالي، بل كإطار تأسيسي قابل للتطوير، يُراعي خصوصية الحالة السورية، ويستفيد من دروس الدول التي نجحت في تحويل لحظة الانهيار إلى فرصة تأسيس.
أسس العقد الاقتصادي الجديد في سورية:
في سياق البحث عن انتقال اقتصادي حقيقي، لا يكفي تغيير السياسات أو استحداث برامج إصلاحية، بل يجب إعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع الاقتصادي من جذورها، عبر ما يمكن وصفه بـ"العقد الاقتصادي الجديد". هذا العقد يتطلب تحديد المبادئ الناظمة لمنظومة الإنتاج والتوزيع، وآليات المشاركة المجتمعية والرقابة، وإعادة رسم دور الدولة كمُمكّن لا كحارس امتيازات.
أولًا، تحديد المبادئ المؤسِّسة. حيث يجب أن يقوم العقد الاقتصادي السوري على ثلاثة أعمدة رئيسية:
- العدالة التوزيعية: بما يضمن نفاذ الفئات المهمشة إلى الموارد، ويُعيد التوازن بين المراكز والأطراف.
- الشفافية الاقتصادية: عبر نشر المعلومات والمؤشرات والإحصائيات المتعلقة بالإنفاق والإنتاج، وإخضاعها للمراجعة المفتوحة.
- المشاركة المجتمعية: إشراك الفاعلين المحليين، الغرف التجارية، النقابات، والمجالس المحلية في وضع الأولويات التنموية، بعيدًا عن المركزية المفرطة.
ثانيًا، بناء مؤسسات مستقلة للتخطيط والتقييم. فلا يمكن الانتقال من اقتصاد ريعي إلى إنتاجي دون مؤسسات قادرة على إدارة المعرفة الاقتصادية، وتحليل الجدوى، ومتابعة التنفيذ. يُقترح تأسيس "المجلس السوري للتخطيط الاقتصادي الانتقالي"، مستقل عن السلطة التنفيذية، ويضم خبراء من الداخل والخارج، ويعمل على وضع خطط قصيرة ومتوسطة الأمد، وتقييم الأداء الوطني دون تحيّز سياسي.
ثالثًا، إدماج الجامعات ومراكز البحث في صياغة السياسات. يجب أن تصبح المؤسسات الأكاديمية طرفًا تأسيسيًا لا استشاريًا، عبر اتفاقيات عمل مباشرة مع وزارة الاقتصاد، ومجالس المحافظات، والمشاريع الاستثمارية الكبرى. يُعاد هيكلة برامج التعليم لتخدم القطاعات ذات الأولوية، ويتم ربط الأبحاث الاقتصادية بالحاجات الفعلية لا الافتراضية.
رابعًا، تفعيل شبكات الشتات السوري كمصدر معرفي وتمويلي، حيث يُمثل السوريون في الخارج موردًا إستراتيجيًا مغفلًا، سواء من حيث الخبرات الفنية، أو رأس المال، أو القدرة على بناء الجسور مع الجهات الدولية.
يُقترح إنشاء "هيئة الشتات الاقتصادي السوري"، تعمل بالتنسيق مع البعثات الدبلوماسية والوزارات ذات الصلة، وتُشرف على تحويلات مالية، شراكات معرفية، ومشاريع احتضان تقني.
خامسًا، إعادة هندسة العلاقة بين الدولة والسوق.
فالدولة الجديدة يجب أن تتحول من دور الحارس إلى دور المُحفّز: تُشرف على بناء البيئة القانونية، تقدم الحوافز، تراقب الأداء، وتترك المبادرة للقطاع الأهلي والتجاري، يتم تطوير قانون "الشراكة الإنتاجية المجتمعية"، يُنظّم العلاقة بين رأس المال المحلي والدولة والمجتمع، بما يمنع الاحتكار، ويُشجع التنوع والمبادرة الفردية.
هذا العقد الاقتصادي المقترح لا يُعد نهاية الطريق، بل بدايته؛ بوصفه قاعدة تأسيسية تُبنى عليها مؤسسات وممارسات اقتصادية جديدة، تنقل سورية من اقتصاد الصراع إلى اقتصاد العقد والمجتمع والإنتاج.
التوصيات السياساتية:
في ختام هذه الورقة، وبعد تحليل الواقع البنيوي للاقتصاد السوري، واستشراف ملامح المرحلة الانتقالية، وبعد استشارة ونقاش قام به المكتب فريق المكتب الاقتصادي لـ تيار المستقبل السوري، نقدم هذه التوصيات العملية والموجهة لفاعلين رئيسيين قادرين على التأثير في مسار إعادة البناء الاقتصادي: وزارة الاقتصاد السورية، والمستثمرين السعوديين، بوصفهم شريكًا إقليميًا مؤهلاً للمساهمة في التأسيس الجديد، كما صرح المسؤولون السعوديون، وهذه التوصيات لا تُقدم كبرنامج جاهز، بل كبنية مبدئية قابلة للتطوير والتكييف وفق المتغيرات السياسية والاقتصادية القادمة.
أولًا، توصيات لوزارة الاقتصاد السورية:
- بلورة إطار اقتصادي انتقالي متكامل، يتجاوز عقلية التحفيز المؤقت أو توزيع الريوع، نحو تخطيط إنتاجي طويل الأمد يربط أولويات القطاع الزراعي والصناعي، بسياسات التدريب، التعليم الفني، والتوظيف المحلي.
- تأسيس وحدة مستقلة لتحليل الجدوى الاقتصادية، ترتبط مباشرة برئاسة الوزراء، وتُدار بمنهجية شفافة، وتستفيد من خبرات السوريين المقيمين والشتات، لضمان استقلال القرار الاقتصادي عن الامتيازات السياسية.
- إطلاق منصة وطنية موحدة للبيانات الاقتصادية المفتوحة، تشمل العقود العامة، مؤشرات الإنتاج، الموازنة، وأداء القطاعات، بما يُعزز الشفافية ويُعيد بناء الثقة بين الدولة والمجتمع والمستثمرين.
- تفعيل الشراكة المؤسسية مع الجامعات ومراكز الأبحاث، عبر عقود تنفيذية تضعها ضمن فرق صياغة السياسات الاقتصادية، لا كمجرد مستشارين، بما يربط المعرفة الأكاديمية بحاجات التخطيط الفعلي.
ثانيًا، توصيات للمستثمرين السعوديين:
- مراجعة فرص الاستثمار في قطاعات غير تقليدية تُناسب سياق ما بعد الحرب، مثل الطاقة الشمسية والرياح، الزراعة الذكية، التعليم التقني، وإعادة تدوير الموارد. وتُعد مناطق الشمال بالاضافة للداخل والعاصمة والساحل، مرشّحة لذلك لما تتمتع به من استقرار نسبي وسوق شبابي نشط.
- تأسيس شراكات إنتاجية مع المجالس المحلية التعاونية، بما يُتيح نماذج استثمار لامركزية منخفضة التكلفة، ذات أثر اجتماعي مباشر، ويساهم في بناء علاقة مستدامة مع المجتمع المحلي.
- دعم مشاريع التمويل الأصغر ومراكز الاحتضان التقني، خصوصًا في المدن الصغيرة والضواحي الريفية، لخلق بيئة إنتاجية مرنة، وتحقيق عوائد اجتماعية واقتصادية في آنٍ واحد.
- الدفع باتجاه بلورة إطار قانوني استثماري موحَّد، تُنجزه الحكومة الانتقالية بالتفاهم مع الجهات الخليجية، يتضمن ضمانات رأس المال، آليات فض النزاعات، ووضوح في المسؤوليات الإدارية، بما يُشجع على ضخ رأس مال سعودي مؤسسي طويل الأمد.
- الاستثمار في مشاريع الربط الجغرافي السوري–الخليجي، عبر الموانئ والطرق البرية، ومنصات التجارة الإلكترونية، والتعليم الرقمي، بما يُحوّل سورية إلى ممرّ اقتصادي بين الخليج والمتوسط، ويُعيد دمجها في السوق الإقليمي.
هذه التوصيات تهدف إلى تحويل المرحلة الانتقالية إلى لحظة تأسيس حقيقي، لا مجرد تجاوز للأزمة. وهي لا تكتمل دون إرادة سياسية واضحة، ورؤية تخطيطية شفافة، وشراكة إقليمية قائمة على الإنتاج، لا على المساعدات.
الخاتمة:
تمثّل اللحظة السورية الراهنة فرصة استثنائية لإعادة التفكير في طبيعة الاقتصاد الوطني، لا بوصفه أداة تعافٍ تقني، بل كرافعة تأسيسية لعقد اجتماعي جديد يعيد بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع على قاعدة الإنتاج والعدالة والمشاركة. لقد أظهرت الورقة أن الاقتصاد السوري، كما تم تصميمه وتشغيله لعقود، كان خاضعًا لعقلية ريعية أمنية تُقصي الفاعلية وتُعيد إنتاج الامتيازات، وأن الحرب لم تخلق الانهيار، بل عمّقته وكشف هشاشته البنيوية.
في المقابل، تسعى هذه الورقة إلى تبيان أن إعادة البناء لا تبدأ بالإعمار الفيزيائي، بل بتفكيك البنية الذهنية والمؤسسية للريوع، وتأسيس منطق إنتاجي يربط بين العدالة التوزيعية، الشفافية المعلوماتية، والمشاركة المجتمعية الفاعلة.
لقد قدمنا نموذجًا تأسيسيًا قائمًا على تحليل التجارب الدولية، وتكييفها مع السياق السوري، يُراعي التعقيد المحلي، ويقترح بناء تدريجي لمؤسسات التخطيط والتقييم والمساءلة.
كما وُجّهت توصيات محددة لكل من وزارة الاقتصاد السورية، باعتبارها الحامل الأول للمسؤولية التأسيسية، وللمستثمرين السعوديين، بوصفهم شريكًا إقليميًا قادرًا على لعب دور مؤثر في إطلاق دورة إنتاجية جديدة، تدمج المحلي بالإقليمي، والمجتمعي بالمؤسساتي.
إن العقد الاقتصادي الجديد ليس مجرد برنامج حكومي أو رؤية حزبية، بل تصوّر وطني جامع، يُؤسّس لمستقبل يليق بسورية بعد الحرب، ويتجاوز منطق الأزمة نحو بناء دولة تستند إلى الشرعية الإنتاجية، والتكامل المجتمعي، والانفتاح المؤسسي على الشراكة الإقليمية والتطوير المعرفي.
المكتب الاقتصادي
فريق البحث
دراسة
المراجع:
- الأشقر، جلبير. الشعب يريد: بحث جذري في الانتفاضة العربية. بيروت: دار الساقي، 2013.
- العظمة، عزيز. السلطنة والحداثة. بيروت: دار الطليعة، 2006.
- شرابي، هشام. النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1992.
- United Nations ESCWA. “Syria at War: Eight Years On.” كانون الثاني 2020.
https://www.unescwa.org/publications/syria-war-eight-years - PeaceRep – University of Edinburgh. “Mapping Syria: تحليل للاقتصاد المحلي والحكم بعد النزاع”.
https://peacerep.org/mapping-syria/ - World Bank. “Syria Macro-Fiscal Assessment 2025.” تموز 2025.
https://www.worldbank.org/en/news/press-release/2025/07/07/-new-world-bank-report-highlights-syria-s-economic-challenges-and-recovery-prospects-for-2025 - NRC – Norwegian Refugee Council. “Beyond Return: Ensuring Sustainable Recovery & Reintegration in Syria.” أيار 2025.
https://www.nrc.no/globalassets/pdf/reports/beyond-return-ensuring-sustainable-recovery–re-integration-in-syria/2025-returns-and-reintegration.pdf - Synaps Network. “Mapping Syria’s Social and Economic Geography.” أيار 2025.
https://www.synaps.network/en/post/mapping-syrias-social-and-economic-geography - StrategiX Policy Center. “Humanitarian Dependency and Investment Obstacles in Post-War Syria.” كانون الأول 2024.
https://strategixpolicy.com/reports/investment-barriers-and-humanitarian-reliance-syria-2024 - ESCWA & UNDP. “Syria Post-Earthquake Assessment – North-Western Provinces.” شباط 2023.
https://www.unescwa.org/publications/syria-post-earthquake-assessment-northwest - Syrian Ministry of Economy. “Industrial Indicators – Northern Syria.” بيان وزاري داخلي، 7 آذار 2025.
لا يتوفر رابط عام، لكن يستند إلى نسخة داخلية موثقة. - مركز الدراسات السورية – جامعة سانت أندروز. “Mapping Local Economies in Syria’s Fragmented Landscape.” آذار 2024.
- خالد التركاوي. “The Absence of Regional Economic Planning in Syrian Recovery Efforts.” مركز حرمون للدراسات، أيار 2025.
- معهد باسل فليحان – بيروت. “Landscape of Syrian Economic Collapse & Regional Impacts.” حزيران 2024.
https://institutdesfinances.gov.lb/sites/default/files/2024-06/Landscape-of-the-Syrian-Economy-and-Impacts-on-the-Region.pdf - Economic Research Forum. “Challenges of Transition and Contractual Legitimacy in Post-Arab Spring Economies.” حزيران 2023.