في واحدة من أكثر اللحظات توتّرًا على الصعيدين الداخلي والخارجي، خرج الرئيس السوري أحمد الشرع بخطاب متلفز عقب ضربات جوية إسرائيلية غير مسبوقة على محيط قصر الشعب وقيادة الأركان في دمشق، تزامن مع احتقان داخلي متصاعد في محافظة السويداء، ليضع النقاط على الحروف في مشهد داخلي وإقليمي مرتبك.
أولًا: الضربة الجوية ومرمى الرسالة السياسية:
بدأ الرئيس الشرع خطابه بالتعليق على الغارات الإسرائيلية قائلاً: لن تُستدرج سورية إلى الفخ، لكننا نحتفظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين.
وهذا التصريح ليس مجرد تموضع دبلوماسي، بل تأكيد على تحوّل في عقيدة الردع السوري، فالرد لم يعد غريزيًا أو متسرعًا كما في مراحل سابقة، بل خاضعٌ لحسابات توازن القوى الإقليمي، ومرتبط باستراتيجية شاملة هدفها تحييد إسرائيل كفاعل فوضوي دون الانزلاق إلى حرب موسّعة.
وأما الغارات على مواقع قريبة من المراكز السيادية فليست مجرد رسائل بالنار، بل محاولة اختراق رمزية للدولة الجديدة الناشئة بعد سنوات من النزف، وكان الرد عليها في الخطاب واضحًا: سورية تدرك اللعبة ولن تكون جزءًا منها.
ثانيًا: السويداء مِن الفتنة إلى الاختبار الوطني:
في محور الخطاب الداخلي، كان الرئيس صريحًا حيث قال: كنا بين خيارين: الحرب المفتوحة مع الكيان الإسرائيلي عبر بوابة السويداء، أو فسح المجال لوجهاء ومشايخ الدروز للعودة إلى رشدهم… فاخترنا طريق العقل.
وهنا تتجلى فلسفة القيادة السورية الجديدة؛ فليست القوة في إطلاق الرصاص!، بل في تطويق الفتنة قبل أن تتمدد. فالسويداء لم تكن مجرد ساحة اشتباك محلي، بل مشروع فتنة مركبة من الداخل والخارج.
الشرع قال أيضًا: لقد قررنا تفويض بعض الفصائل المحلية ومشايخ العقل بمسؤولية حفظ الأمن، لأننا نؤمن بأن التهدئة تبدأ من الجذور، لا من فوهات البنادق.
وفي هذا تصريح تأسيسي لتوجه سياسي أمني مفاده أن الأمن في سورية لن يُبنى بعد اليوم بالقوة العسكرية فقط، بل بالشراكة المجتمعية والمسؤولية المحلية.
ثالثًا: إسرائيل كفاعل تخريبي – هندسة الفوضى الجديدة:
وصف الشرع إسرائيل بأنها: تسعى لتحويل أرضنا الطاهرة إلى ساحة فوضى، وتغذّي الانقسامات الطائفية، وتمنع السوريين من لملمة جراحهم.
وهنا يعيد الرئيس إنتاج سردية وطنية لا تعتبر إسرائيل فقط عدوًا عسكريًا، بل فاعلًا سياسيًا يستخدم أدوات داخلية للتمزيق، تمامًا كما جرى في لبنان والعراق، فمن خلال فتح خطوط اتصال مع مكونات سورية محددة، تحاول إسرائيل خلق نموذج "المنطقة الآمنة تحت حماية الجو الإسرائيلي"، وهو ما رفضته القيادة السورية بشكل قاطع.
رابعًا: الوساطات الدولية – المرونة دون المساس بالسيادة:
في سابقة لافتة، أعلن الرئيس الشرع أن: الوساطة الأمريكية والعربية والتركية ساهمت في وقف تصعيد خطير كاد يجر البلاد إلى مواجهات لا تحمد عقباها.
لكنه استدرك بلهجة حازمة فقال: تعاملنا مع هذه الوساطات بمرونة، لكن دون أن نمنح أحدًا حقّ التدخل في شؤوننا الداخلية أو تجاوز سيادتنا.
وهنا نقرأ تحوّلًا دبلوماسيًا ناضجًا، فالاعتراف بالجهود الدولية لا يعني الخضوع لها، بل هي شراكة في تفادي التصعيد، لا وصاية على القرار الوطني.
خامسًا: رسالة خاصة إلى أبناء الطائفة الدرزية:
خاطب الرئيس الشرع أبناء السويداء قائلاً: أنتم جزء أصيل من الوطن، وحمايتكم واجبنا، ولن نسمح لأحد أن يجركم إلى مشاريع تقسيم أو وصاية.
وهذا التصريح يعيد التأكيد على أن الهوية الوطنية السورية تتجاوز الاصطفافات الطائفية، ويُحبط في الوقت ذاته محاولات إسرائيل وبعض الدول الغربية لعزل الدروز وتقديمهم كمكوّن يحتاج إلى حماية خارجية.
سادسًا: منطق العدالة لا الغلبة:
قال الرئيس: سنحاسب من تجاوز وأساء لأهلنا، سواء كانوا من القوى النظامية أو من خارجها، فلا حماية لأحد فوق القانون.
وبذلك يُعلنها صراحةً أن الدولة لا تمنح الغطاء لأية جهة، حتى لو كانت محسوبة عليه، وهذا إعلان ضمني لبداية مرحلة تفكيك بنية الاستثناءات التي كانت تغطي التجاوزات الأمنية باسم الحرب أو الولاء لجهات أو أشخاص.
سابعًا: المشروع الوطني الجديد – إعادة هندسة الدولة:
في ختام خطابه، قال الرئيس: سورية ليست ما بعد الحرب فقط، بل ما بعد الانقسام، وما بعد الطائفية، وما بعد التبعية، فالوحدة هي سلاحنا، والعمل الجاد هو طريقنا، وإرادتنا الصلبة هي الأساس الذي سنبني عليه هذا المستقبل الزاهر.
إنها ليست مجرد خاتمة بل "مانيفستو سياسي"، يتجاوز إدارة الأزمة إلى إعادة تشكيل الدولة السورية انطلاقًا من مبادئ التشاركية، اللامركزية الواعية، والحكم الرشيد.
خاتمة تحليلية – ما بعد الخطاب:
- لأول مرة، نشهد خطابًا رئاسيًا يُقرّ بوجود وساطات دولية، دون الخضوع لها.
- لأول مرة، يتم تفويض فصائل مجتمعية بمهام الأمن في إطار منظم وشرعي.
- لأول مرة، يُعلن أن المحاسبة ستشمل أي جهة تخالف القانون، حتى من داخل النظام.
- وأخيرًا، لأول مرة نرى خطابًا يؤسس فعليًا لمشروع سياسي جديد جامع لكل السوريين، لا يقوم على القوة وحدها، بل على الوعي، والتوازن، والانفتاح الحذر.