اطلع تيار المستقبل السوري على الندوة الفكرية التي أقامتها وزارة الأوقاف السورية بالتعاون مع وزارة الثقافة، بعنوان "صناعة الوعي.. سُلطة الكلمة بين المنبر والعقل" وذلك في المكتبة الوطنية بدمشق بتاريخ 2025/07/19م، بمشاركة وزير الأوقاف الدكتور "محمد أبو الخير شكري" ووزير الثقافة الدكتور "محمد ياسين صالح".
وقد وجدنا أن نشارك في هذه الورقة عبر الفضاء المعرفي المفتوح، بعنوان: صناعة الوعي بين سلطة المنبر والعقل: مقاربة علمية وفكرية منهجية
مقدمة:
تُعد صناعة الوعي من أهم المهام التي يتقاطع فيها الدين، الفلسفة، والإعلام، حيث يُعاد تشكيل الإدراك الجمعي والفردي للأفراد وفقًا لما يُقدَّم من خطاب.
وبين سلطة المنبر بما تحمله من تأثير ديني ومجتمعي عاطفي، والعقل بما يمثّله من أداة تحليل وتمحيص، تقع مسافة حرجة يَتشكّل فيها الوعي، وتتحدّد عبرها اتجاهات الجماهير ومستوى نضجهم الفكري.
أولًا: مفهوم صناعة الوعي:
صناعة الوعي هي عملية منهجية لإعادة تشكيل الإدراك الفردي والجمعي للواقع، من خلال أدوات معرفية، لغوية، نفسية، وقيمية. وهي تختلف عن التلقين، لأن هدفها إحداث وعي نقدي، لا وعي خاضع.
وتتضمن تحديد المفاهيم، قراءة السياق، فهم العلاقات بين الظواهر، وتكوين مواقف تستند إلى العقل لا الغريزة.
ثانيًا: المنبر وسلطة التأثير:
يمتلك المنبر – الديني أو السياسي أو الإعلامي – قوة رمزية تستمد شرعيتها من مكانة المتكلم (الشيخ، السياسي، المفكر) ومن قدسية المكان (المسجد، البرلمان، شاشة التلفاز).
وهذه السلطة المنبرية تؤثّر مباشرة على العاطفة وتوجّه الجماهير من خلال:
- الخطاب الوعظي والمباشر الذي يُقدَّم كحقائق غير قابلة للنقد.
- استدعاء النصوص والرموز الكبرى لتكريس القناعة.
- توظيف البلاغة في ترسيخ الانفعال، لا الاستدلال.
غير أن سلطة المنبر، إذا لم تتقاطع مع النقد العقلي، يمكن أن تتحول إلى أداة تسطيح، وتكرّس ثقافة الاتباع لا الإبداع.
ثالثًا: العقل بوصفه ميزان الوعي:
يمثل العقل حجر الأساس في بناء الوعي المنهجي، إذ يعمل على تحليل الخطاب المنبري، ومقارنته بالمعطيات الواقعية، والنظر في النتائج العملية المترتبة عليه.
ويتمتع العقل بخصائص منهجية هي:
- الشك المنهجي كمدخل للمعرفة.
- البرهنة والتعليل بدل التسليم والتلقين.
- البحث عن العلاقة بين النص والسياق، بدل الانغلاق حول المعنى الحرفي.
فالعقل لا يُقصي المنبر، لكنه يضعه في سياق نقدي، ويعيد تقييم خطابه وفق معايير المصلحة، القيم العليا، والواقع المتحوّل.
رابعًا: جدلية المنبر والعقل في تشكيل الوعي:
الوعي لا يُصنع في فراغ، بل في بيئة يهيمن فيها أحد الخطابين: خطاب المنبر أو خطاب العقل.
وإذا هيمن المنبر منفردًا، ساد التكرار والانفعال والتلقي السلبي.
أما إذا تحرّك العقل وحده دون قاعدة أخلاقية وروحية، انزلق إلى النسبية المطلقة والتفكيك المعرفي.
لذلك، فإن التوازن بين المنبر والعقل هو الشرط المركزي لإنتاج وعي متزن، عميق، وواقعي. ويقوم هذا التوازن على:
- دمج القيم الروحية بالتحليل العقلاني.
- تفكيك الخطابات الشعاراتية والبحث عن أهدافها العميقة.
- إخضاع كل ما يُقال على المنابر إلى نقد علمي ومنهجي.
خامسًا: التحديات المعاصرة لصناعة الوعي:
في زمن الثورة الرقمية، تتعدد المنابر وتتشظى العقول. وتبرز تحديات جديدة أمام صناعة الوعي، أهمها:
- خطاب الكراهية الذي يستغل العاطفة المنبرية.
- التفاهة المعرفية في وسائل التواصل، حيث يتم تسويق الجهل بمظهر الوعي.
- غياب المنهجية في التحليل، وانتشار "الانطباعيات".
هذه التحديات تستدعي إعادة تأهيل المنبر ليكون منبرًا للعقل، لا للغريزة، وتفعيل دور المدارس والجامعات ومراكز الفكر في بناء منظومة معرفية متماسكة.
خاتمة:
إن صناعة الوعي هي معركة بين منابر التأثير والعقول المتفكّرة، بين الانفعال والفهم، بين التقليد والتجديد.
وإذا أُريد للمجتمعات أن تنهض، فلا بد من تحرير المنبر من التقديس، وتحرير العقل من التهميش، وبناء جسر متين بين الإيمان الواعي والعقل المستنير. وحده هذا الجسر يمكن أن يقودنا إلى وعي تاريخي، مدني، تحرّري، قادر على بناء الإنسان والدولة معًا.
المكتب الديني
الدكتور زاهر بعدراني
مقال