مقدمة:
في قرار جديد اتخذته الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية في سورية، يقضي بمنع دخول الشاحنات السعودية والمصرية إلى الأراضي السورية، والاكتفاء بعمليات "المناقلة" على المعابر الحدودية، وذلك اعتبارًا من يوم الأحد 20 تموز، والذي جاء ردًا على استمرار منع دخول الشاحنات السورية إلى أراضي السعودية ومصر، وهو ما اعتبرته الهيئة خرقًا لمبدأ "المعاملة بالمثل". وكان مدير العلاقات العامة في الهيئة، مازن علوش، أوضح أن القرار استند إلى مطالب "عادلة ومزمنة" من سائقي الشاحنات السوريين، الذين يعانون من عراقيل تشغيلية وجمركية في الدولتين.
ويهدف القرار إلى تعزيز مبدأ التكافؤ في التبادل التجاري والنقل البري. وتحسين أوضاع قطاع النقل السوري، الذي تأثر سلبًا بسبب القيود المفروضة على الشاحنات السورية في دول الجوار. وفرض الحد الأدنى من التوازن الإقليمي في التعامل مع الأسطول السوري، دون الإضرار بالعلاقات التجارية.
وقد تزامن القرار مع إعلان توقيع مذكرة تفاهم بين سورية وتركيا لإعادة تفعيل النقل الطرقي (الترانزيت)، بعد انقطاع دام أكثر من عشر سنوات، ما يُعد خطوة استراتيجية لإعادة تموضع سورية كممر تجاري محوري بين آسيا وأوروبا.
تحليل الخبر:
إن مبدأ المعاملة بالمثل (Reciprocity) يُعد ركيزة في العلاقات الدولية، ويُطبّق حين تفرض دولة قيودًا غير مبررة على حركة التجارة أو التنقل، فتقوم الدولة المتضررة برد مماثل. وفي هذه الحالة، سورية تحتج على منع دخول شاحناتها إلى السعودية ومصر، وترد بالمثل.
قانونيًا، القرار لا يخرق الاتفاقيات الدولية ما لم تكن هناك اتفاقات تجارية أو جمركية موقّعة ملزمة (كاتفاقية تجارة حرة أو ترانزيت)، ويبدو أن القرار السوري يُمارس ضمن هامش السيادة التجارية للدولة.
كما يُعد القرار استجابة رسمية لمطالب قطاع النقل البري، ويمكن اعتباره نوعًا من الحماية القانونية للسائقين السوريين الذين اشتكوا من التمييز أو العراقيل في الخارج.
وفي تحليل الخبر على المدى القصير نرى:
- احتمال ارتفاع تكاليف النقل بسبب آلية "المناقلة"، حيث تُنقل البضائع من الشاحنات السعودية والمصرية إلى أخرى سورية عند المعابر، مما يؤدي إلى زيادة زمن التوريد وتقليل الكفاءة.
- انخفاض حجم التبادل التجاري مؤقتًا مع السعودية ومصر إذا تعرقلت سلاسة التدفق اللوجستي.
- تأثر الصناعات التي تعتمد على توريد المواد أو تصديرها مباشرة عبر تلك الشاحنات.
وأما على المدى المتوسط والطويل فإننا نرى: - إذا لم يُصحَّح الوضع الدبلوماسي والتجاري، فقد يتجه التجار السوريون إلى مسارات بديلة مثل تفعيل ممرات النقل مع تركيا والعراق، ما قد يُغيّر خارطة التجارة البرية في المنطقة.
- يشير إلى توجه اقتصادي سوري نحو إعادة تشكيل مبدأ التكافؤ الإقليمي والتفاوض عبر أدوات الضغط التجارية.
السيناريوهات المحتملة المرتبطة بقرار السلطات السورية منع دخول الشاحنات السعودية والمصرية:
أولًا: مقاربة قانونية:
تأسس القرار السوري على مبدأ المعاملة بالمثل، وهو مبدأ معترف به في القانون الدولي وفي السياسات التجارية السيادية، ويُفعّل حينما تقوم دولة بإجراءات تُقيد حركة التجارة دون مبرر أو إطار اتفاقي مُلزم. لا يوجد مؤشرات حالية على وجود اتفاقيات ثنائية أو إقليمية نافذة تُلزم دمشق بالسماح بالدخول الحر لتلك الشاحنات، ما يجعل القرار السوري من الناحية القانونية واقعًا ضمن نطاق السيادة التجارية المشروعة.
في الوقت نفسه، فإن أي رد تصعيدي من قبل السعودية أو مصر – سواء عبر التضييق على الشحنات السورية أو فرض تدابير انتقامية – قد يُعرض تلك الدول لانتقادات على المستوى الإقليمي إن لم يكن هناك مبرر قانوني صريح لهذا الإجراء.
ثانيًا: مقاربة اقتصادية:
على الصعيد الاقتصادي، فإن المنع المباشر لدخول الشاحنات دون تفعيل بدائل مؤقتة يشكل ضغطًا قصير المدى على سلاسل الإمداد، ويهدد الكفاءة التشغيلية لقطاعات النقل والتصدير. آلية "المناقلة" في المعابر تفرض تكاليف إضافية على الشحن والتخليص، وتُطيل زمن التوريد، ما يؤثر على المنتجات الزراعية والغذائية الحساسة زمنيًا.
في المقابل، يمكن لوزارة الاقتصاد السورية أن تستغل هذا القرار ضمن إطار استراتيجي لتفعيل ممرات تجارية بديلة مع العراق وتركيا، والاستثمار في النقل السككي والموانئ البحرية، بما يُعزز القدرة التفاوضية المستقبلية ويقلل التبعية اللوجستية للدولتين المعنيتين.
ثالثا، سيناريوهات الاستجابة:
- التصعيد المتبادل، والذي يؤدي إلى تقلص التبادل التجاري، وقد يفاقم الضغوط على القطاعين الخاصين في الدول الثلاث، مع تداعيات محتملة على الاستثمارات العابرة للحدود.
- إعادة التفاوض الفني أو الوزاري، حيث يُعد المسار الأمثل لتفكيك التوتر، عبر بروتوكولات تنسيق تشغيلية لا تمس بالسيادة وتراعي مبدأ التكافؤ.
- تدويل الملف اقتصاديًا، باللجوء إلى مؤسسات إقليمية أو العربية لتوثيق التمييز في المعاملة، وهو خيار بطيء لكنه يُعزز الروافع القانونية السورية في السياق الدبلوماسي.
- إعادة هيكلة المسارات التجارية، عبر تطوير بدائل لوجستية ومسارات ترانزيت مستقرة تخفف الضغط على نقاط التماس التقليدية.
انعكاسات:
في محاولة لتوسيع النظر في القرار، سنعرض للانعكاسات والتأثيرات الايجابية والسلبية له، فأما التأثيرات الإيجابية التي نراها:
- تعزيز السيادة الوطنية في إدارة التجارة البينية، افلقرار يُرسّخ مبدأ المعاملة بالمثل، ويُظهر قدرة الحكومة السورية على استخدام أدوات سياسية واقتصادية دفاعية لحماية مصالحها.
- الاستجابة لمطالب قطاع النقل السوري، حيث جاء القرار في سياق مطالبات من السائقين والشركات السورية، ما يعكس نوعًا من التفاعل المؤسسي مع الشكاوى المزمنة، ويُسهم في رفع معنويات العاملين في هذا القطاع الحيوي.
- إعادة توجيه التجارة نحو ممرات إقليمية جديدة، إذ يُمكن أن يدفع القرار نحو تنشيط التعاون التجاري مع دول مثل العراق أو تركيا، ويُسرّع عملية تفعيل ممرات ترانزيت بديلة عن المعابر التقليدية.
- ضغط تفاوضي إقليمي، فالقرار قد يُستخدم كورقة تفاوضية من قبل دمشق لتحسين شروط دخول شاحناتها إلى السعودية ومصر، خصوصًا إذا اقترن بمواقف إعلامية ومراسلات دبلوماسية متوازنة.
وأما التأثيرات السلبية التي نراها: - ارتفاع تكاليف النقل والتخليص الجمركي، والاعتماد على "المناقلة" يزيد من زمن العملية اللوجستية، ويُحمّل المصدرين السوريين والمستوردين تكاليف إضافية، خصوصًا في السلع الزراعية أو الطازجة.
- احتمال تراجع حجم الصادرات والواردات، فالقيود قد تؤدي إلى تقلص التبادل التجاري مع مصر والسعودية على المدى القصير، مما يضغط على قطاع التجارة الخارجية، ويؤثر على وفرة بعض المواد.
- توتر سياسي أو ردود انتقامية محتملة، إذا لم يُرافق القرار بخطاب تفاوضي حكيم، فقد ترد الدول المعنية بإجراءات مقابلة قد تُضر بالواردات السورية أو تُعقّد العلاقات الاقتصادية الثنائية.
- ضغط على القطاع الخاص، فالشركات السورية، خصوصًا الصغيرة والمتوسطة، قد تجد نفسها أمام تحديات تشغيلية جديدة، وتضطر لتغيير نماذج عملها دون استعداد كافٍ.
خاتمة وتوصيات حول قرار تنظيم دخول الشاحنات الأجنبية:
من الضروري أن يكون هناك تدابير مصاحبة لقرار الهيئة العامة للمنافذ بمنع دخول الشاحنات السعودية والمصرية، وعليه فإننا في المكتب الإقتصادي لـ تيار المستقبل السوري نقدم توصياتنا لوزارة الاقتصاد – هيئة تنظيم قطاع النقل:
أولًا: الإجراءات المقترحة لتخفيف الأثر السلبي:
- توسيع طاقات المناقلة على المعابر، من خلال تجهيز مناطق المناقلة بالبنية التحتية المناسبة (رافعات، مخازن مؤقتة، أنظمة تشغيل إلكترونية) لتقليل زمن الانتظار وتقليص التكاليف.
- إطلاق صندوق دعم للناقلين المحليين، عبر توفير دعم مالي وفني للسائقين وشركات النقل السورية لتجاوز أعباء التحول إلى مناقلة البضائع، خاصة فيما يتعلق بالصيانة والتحميل الإضافي.
- إجراء تفاهمات مع العراق وتركيا لتفعيل ممرات بديلة، من خلال عقد اتفاقات تشغيلية تسمح بمرور الشاحنات السورية بحرية، وتسهيل عمليات التخليص والتسجيل، مما يُخفف الاعتماد على المعابر الجنوبية والغربية.
- تنشيط النقل البحري والتعاون الجمركي مع المرافئ عبر تحفيز استخدام مرافئ اللاذقية وطرطوس وميناء الباسل كنقاط تصدير واستيراد بديلة للشاحنات، خاصة في ظل صعوبات الطرق البرية.
ثانيًا: توصيات لتعظيم المكاسب السياسية والتفاوضية:
- صياغة خطاب تفاوضي متوازن عبر إعداد ملف فني وحقوقي يوثق المعاملة غير المتكافئة من الطرفين المعنيين (السعودية ومصر)، وعرضه في إطار تفاوضي مهني يحفظ المصالح التجارية والكرامة الوطنية.
- إطلاق حملة إعلامية توعوية لشرح القرار للرأي العام المحلي والدولي باعتباره إجراءً سياديًا لحماية الناقلين السوريين، مع تسليط الضوء على تأثيراته الإيجابية في ضبط التجارة وتحقيق العدالة.
- فتح قنوات حوار تجاري غير رسمي مع القطاع الخاص في الدولتين والتواصل مع الغرف التجارية والناقلين في السعودية ومصر لخلق ضغوط داخلية تعزز الحاجة إلى تسوية عملية تحفظ مصالح جميع الأطراف.
أخيراً، وفي خضم هذه التفاعلات السياسية والاقتصادية والأمنية التي شهدتها الساحة السورية، يتضح أن البلاد تمر بمرحلة مفصلية تتطلب من الفواعل الوطنية قدرًا كبيرًا من الحكمة والوعي الاستراتيجي. من السويداء التي تنشد الأمن والاستقرار وتبحث عن توازن بين سلطة الدولة وشراكة المجتمع المحلي، إلى قرارات الحكومة الاقتصادية الهادفة لإعادة ضبط قواعد التكافؤ الإقليمي في قطاع النقل البري، تبدو ملامح تحول لا يتعلق فقط بتدبير أزمة آنية، بل بإعادة تعريف العلاقة بين المركز والمحيط، وبين الدولة ومواطنيها.
إن السير في هذا المنعطف التاريخي يتطلب خطابًا عقلانيًا وشراكات مدنية صادقة، وسياسات تؤسس لمستقبل تضمن فيه المواطنة حقوقًا متساوية، وتُدار فيه الموارد والعلاقات على أساس الشفافية والعدالة. فإعادة الثقة لا تُبنى بالقرارات وحدها، بل بالحوار، والتمثيل الحقيقي، والاعتراف بخصوصية كل منطقة بوصفها شريكة لا تابعة.
سورية لا تحتاج إلى أن تُدار بالأوامر فوقية، ولا أن تُصاغ مصائرها من خارج شعبها. بل تحتاج إلى تيارات وطنية تتقن الإصغاء مثلما تتقن البناء، وتُحسن قراءة اللحظة كما تُحسن تخطيط المستقبل. وهو ما تسعى إليه الأصوات الإصلاحية، والمبادرات المحلية، والنخب الفكرية التي ما زالت ترى في هذا البلد ما يستحق أن يُنقذ.
المراجع:
- تلفزيون سورية. (2025، تموز). سورية تمنع دخول الشاحنات السعودية والمصرية تحقيقاً لمبدأ التكافؤ. تم الاسترجاع من: https://www.syria.tv.
- علوش، مازن. (2025). تصريحات رسمية عبر الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية حول دوافع القرار التجاري بشأن الشاحنات السعودية والمصرية.
- مراجع في القانون الدولي العام، خاصة ما يتعلق بمبدأ المعاملة بالمثل ومفاهيم السيادة التجارية.
Shaw, M. (2017). International Law. Cambridge University Press. - اتفاقيات ومذكرات تفاهم سابقة بين سورية وكل من العراق وتركيا، في إطار النقل الطرقي والبرّي، وبيانات رسمية صادرة عن وزارة النقل السورية.
- تقارير اقتصادية وميدانية عن قطاع النقل البري السوري، بما في ذلك تحليل تكاليف المناقلة وتأثيرها على أداء السوق.
المركز السوري للسياسات الاقتصادية (2024). تحديات قطاع النقل البري في ظل الأزمات الإقليمية.