قراءة نقدية لورقة"إعادة تموضع قوات سوريا الديمقراطية ضمن الدولة السورية الجديدة: رؤية توافقية للاندماج المؤسسي وضبط التعددية الوطنية"

الورقة التي قدمها تيار المستقبل السوري -قسم البحوث والدراسات- تحت عنوان "إعادة تموضع قوات سوريا الديمقراطية ضمن الدولة السورية الجديدة: رؤية توافقية للاندماج المؤسسي وضبط التعددية الوطنية" مكتوبة بعناية وضمن تسلسل موضوعي للمشكلة، أسبابها، تحليلها، والحلول المقترحة. وهو جهد يستحق الثناء حتى مع الاختلاف مع بعض الطرح. هذا الاختلاف أقدمه بشكل مختصر قدر الإمكان.

مقدمة:


ضمن قراءة الواقع السوري، وضمن واقع موازين القوى الجيوسياسية الداخلية، والإقليمية، والدولية، وأيضاً مع الإدراك الكامل لصعوبة المهمة بعد سقوط نظام الأسد البائد على مستوى المؤسسات والاقتصاد والحالة الاجتماعية والحالة الديموغرافية؛ وبسبب عمق وفداحة المأساة التي مرت بها سورية فإن الحلول يجب أن ترى الواقع والبراغماتية السياسية، لكن يجب أيضا أن ترى الأسس الوطنية والأخلاقية والعاطفية في سورية؛ بمعنى الخروج من خانة الركون لمبرر "الواقعية السياسية وموازين القوى"، والذي يمكن أن يبرر كل وأي سياسة أو قرار أو طرح.
هل فعلاً المشكلة فقط عند قسد؟
توحي الفقرتان الأولى والثانية من ورقة تيار المستقبل السوري وكأن المشكلة تتلخص بنوع من "العناد" لدى قسد، مقابل مرونة كاملة تقدمها الحكومة السورية في دمشق. وبهذه الرؤية أعتقد أننا نقع بخطأ أساسي في القراءة المحايدة الموضوعية، فالخطأ بالواقع يحمله الطرفان، قيادة قسد والحكومة السورية.
فالحكومة السورية أيضا لها أخطاؤها الكبيرة في عملية إعادة بناء الدولة والوطن السوري، والتي تؤثر ليس فقط على المشكلة مع قسد، بل أيضا تؤثر على كامل عملية إعادة البناء. وهذه الأخطاء ستتضح خلال ما سيلي من نقاش، حيث تتحمل الحكومة السورية هذه الأخطاء انطلاقا من مبدأ أساسي للتقييم في أي دولة. حيث تتحمل الحكومة المسؤولية الأساسية عن الأخطاء التي تحدث بعهدها، لأن الحكومة عادة هي الطرف الأقوى في الدولة؛ وفي سورية الحكومة السورية هي الطرف الأقوى والممثل للدولة سياسيا وتملك أوسع وسائل الإعلام نسبيا في سورية.

الأسس المفقودة في إعادة البناء وبالتالي في الحوار مع قسد:


قبل نقاش أي وسائل مفاوضات أو حوار بين الحكومة السورية وقيادة قسد، أو أي قوة سياسية، أو أي مكون سوري، هناك خطوات أساسية لم تتخذها الحكومة السورية، وخطوات اتخذتها لكن في الاتجاه الخاطئ.
سورية بعد سقوط نظام الأسد البائد، وهو ما مثل أكبر فرحة للسوريين بعد ثورتهم الممتدة منذ 2011، كانت بحاجة لتحرك سريع لوضع أسس الدولة السورية الجديدة، التي ترى المستقبل بوضوح ووفق خطط واستراتيجيات قريبة ومتوسطة وبعيدة المدى، وترى الماضي بعين موضوعية حيادية تحليلية؛ لكن للأسف لم تقدم الحكومة مؤشرات على وجود هذه الرؤية.

أزمة الثقة المفقودة في التركيبة السورية:


لم تطلق الحكومة السورية مشروعا متكاملا، خريطة طريق مدروسة بعناية، لإعادة البناء في سورية، يشمل فيما يشمل إعادة بناء الثقة في الداخل السوري على المستوى الشعبي (المصالحة الشعبية الشعبية السورية)، وعلى المستوى السياسي. وهنا لا بد من تعريف المقصود بالثقة السياسية على الأقل:
الثقة السياسية هي درجة الاطمئنان المتبادل بين الفاعلين السياسيين -سواء كانوا أفرادًا أو أحزابًا أو دولًا- بأن الطرف الآخر سيلتزم بالتفاهمات، القواعد، أو الاتفاقيات، حتى في ظل غياب رقابة مباشرة أو ضمانات قوية. وتقوم هذه الثقة على التوقع بأن السلوك السياسي للطرف الآخر سيكون قابلاً للتنبؤ، ولا يهدف إلى الغدر أو الاستغلال غير القانوني لهذه الثقة، وتُبنى الثقة في هذا المستوى عادة على سجل سابق من الالتزام أو المصالح المشتركة المتفاهم عليها بوضوح وشفافية، لا على علاقة شخصية مباشرة.
عموماً الثقة السياسية تُبنى ولا تُفترض. ويمكن أن تنهار بسبب غدر مفاجئ، أو ببساطة بسبب الغياب المزمن للشفافية، اختلال التوازن، أو التجربة المشتركة الفاشلة.
إن أحد أصعب وأكبر الصعوبات التي تواجه سورية في عملية إعادة البناء، وفي عملية تأسيس التوافق بين الحكومة السورية وقسد هو فقدان الثقة اللازمة بين الحكومة وقيادة قسد، وبين العديد من القوى السياسية السورية، والمكونات السورية الشعبية، والتي بالمناسبة تشمل نسبة غير قليلة من العرب السنة.
هذه الثقة بالمعنى السياسي والوطني هي مسؤولية الحكومة السورية أولاً، وثانيا قيادات القوى السياسية السورية الفاعلة والممثلة أيضا لبعض المكونات. والمبادرة كان يجب أن تكون من طرف رئاسة الجمهورية والحكومة معه تجاه الآخرين، لكن ما حصل عملياً كان الاعتماد على حقيقة أن الشعب السوري كان قد وصل لأسوء حال من اليأس والإرهاق وكان على استعداد لتقبل أي بديل عن نظام الأسد، ثم كان الاعتماد على حملات إعلامية الكترونية فوضوية تحولت بسرعة إلى مجموعات أعادت مصطلح "الشبيحة" للواقع السوري.


باختصار عملية بناء الثقة تقوم على الشروط والخطوات التالية:


1- الحكومة السورية تتحمل مسؤولية المبادرة وإبراز أنها الضمان الحقيقي لكل السوريين، وهذا لا يقوم بمجرد إطلاق الوعود، بل الأهم الشفافية والوضوح في سياستها.
2- وضع خارطة طريق تتضمن العمل السياسي والإعلامي والتعليمي باتجاه إطلاق معالجة الشروخ الشاقولية التي زاد عمقها وتقسيمها للمجتمع السوري خلال الأربعة عشر سنة الماضية.
3- إطلاق حملة إعلامية مدروسة لمعالجة مشاكل الشروخ الشاقولية الطائفية والقومية، وبالذات الأوهام السائدة حول أن "العلويين حكموا، والسنة العرب الآن يحكمون". ما حصل عمليا تسليم ملف الإعلام لمن لم يقم بالمهمة المطلوبة، مثلا عبر الإخبارية السورية؛ بل المُحبط أن أول فضائية سورية رسمية بعد سقوط الأسد لم تغادر منهج الحكومات العربية التقليدية بما فيها إعلام النظام السابق، من حيث تسخيرها لتكون ناطقا، ومدافعا، بل ومروجا للسلطة القائمة، والمشكلة الأدهى هي الخطاب التحريضي الطائفي والقومي. باختصار إن الجهاز الإعلامي الجديد أقل بكثير مما تستحقه الثورة السورية.
كذلك يجري القول على قادة قسد، حيث أنهم يملكون الإمكانيات الإعلامية اللازمة، لتقديم رسالة إعلامية متناغمة ضمن الوعي الوطني السوري.
4- وضع قوانين عقابية، ومواجهة عميقة لخطاب التحريض والكراهية الطائفي والقومي والسياسي المستمر في الإعلام السوري، بما بذلك الإخبارية السورية، والسوشيال ميديا السورية من قبل كل الأطراف.
5- فتح الحوار عبر خطاب دوري ضروري يبدأه رئيس الجمهورية السيد الشرع وكبار المسؤولين مع الشارع السوري، وإنهاء سياسة الصمت بدءاً من السيد الشرع وباقي المسؤولين الكبار، فسنة كل الحكام حاضرا وتاريخيا، وحتى سنة الرسول الكريم، كانت أن يخاطب القائد الناس في الأحداث الكبرى.
6- اعتماد مبدأ الشفافية الكاملة أمام الشعب السوري، في كل القرارات والسياسات التي تتبعها الحكومة.
7- إطلاق عملية إعادة بناء مؤسسات الدولة ضمن سياسة شفافة بشكل كامل، وبالتالي كيف ستنتقل للمحافظات السورية.
8- إعادة النظر بالإعلان الدستوري وما بُنيَ عليه. وهذا بحاجة لفقرة مستقلة.
وهنا لا بد من التأكيد أن قيادة قسد تتحمل أيضا أخطاء مشابهة، كقيادة لمنطقة الجزيرة السورية، أي بما يناسب حجمها كقوة سياسية وعسكرية سورية.

إعادة النظر بالإعلان الدستوري ضمن نقاش سوري حقيقي:


قد يبدو هذا الطرح صادماً وغير عملي، لكن واقع الحال يقول أن هذا الإعلان الدستوري كان من أهم أسباب عدم بناء الثقة السياسية بين القوى السياسية والحكومة، وبين مكونات الشعب السوري.
1- الهوية الوطنية السورية تم تحديدها بشكل أيدلوجي عقائدي منحاز، من خلال فرض أن سورية هي جمهورية عربية، وتحديد دين رئيس الدولة بالإسلام، وتقييد الدستور والقانون بالفقه الإسلامي. وهذا البيان أتى ضمن قراءات خاطئة حتى للغالبية العربية السنية السورية، وضمن فوران عاطفي كردة فعل بناء على قراءة خاطئة لحكم وفساد عصابة حكم الأسد على أنها معادية بالذات للإسلام السني والعرب.
فيجب أن نقرّ أن خوف أي مكون سوري، بمن فيهم نسبة غير قليلة من المسلمين السنة العرب، هو خوف مبرر، وأن يرى بهذه البنود وضع للعربة أمام الحصان، وعملية إجبار على هوية سورية انتقائية. وبهذه الحالات فالادعاء أن هذا ما تريده الغالبية لا يعطيه الشرعية الكافية، ويعطي الحق للرافضين بالتشكك والتخوف من السلطة. الهوية تجمع الجميع، ولا تجبر الجميع على رؤية الأكثرية.
الهوية السورية يجب أن تشمل العربي والكوردي والآشوري والسرياني والتركماني والأرمني وكل القوميات، وكذلك يجب أن تشمل أتباع كل الأديان والطوائف.
فالصيغة الدستور الحالية تقع ضمن المجاملة الشعبوية العاطفية، وتمنع حلّ أكبر مشكلة تواجه سورية وهي الهوية الوطنية.
2- لا يوفر الدستور ضمانات كافية بالتوجه نحو الديمقراطية، والتي تتجاوز بكثير انتخاب الرئيس والبرلمان. وبالتالي فمن حق القوى السياسية والمكونات السورية أن تتخوف من هضم حقوقها القانونية التي عرفتها ووثقتها مبادئ الديمقراطية التي أقرتها الأمم المتحدة.
3- يراهن على نوايا الشخص الذي تسلم منصب الرئيس. فقد أعطى الرئيس صلاحيات كبيرة جدا، وبدون أي آليات رقابة ومحاسبة. فالدول لا تبنى على النوايا الطيبة، ولا على أمل أن يكون الحاكم صالحا، بل على أساس قانوني واضح، وآليات محاسبة ومراقبة قانونية.

الخطوات التقنية والإدارية للوصول لتفاهم مع قسد:


ما أوردته الورقة هو مسار تقني إداري معقول وفعّال، لكن لا يمكن أن ينجح إلا بعد تأسيس الثقة السياسية والثقة الشعبية وتعديل البيان الدستوري، وطريقة تشكيل المجلس التشريعي.
أما التوجه لمفاوضات بين الحكومة وقيادة قسد مع كل هذه الأخطاء البنيوية فسيبقى إما بدون أمل بالنجاح، أو إن حصل وتم التوصل لاتفاق بين الطرفين فسيكون اتفاقا وغير مُستدام. وستبقى هذه الخطوات ضعيفة، ويحكمها موازين القوى داخل وخارج سورية، ولا تملك صفة الاستدامة الضرورية.

الجيش الوطني السوري والهوية السورية:


بناء على ما سبق، وبسبب غموض توجه الحكومة السورية سواء حول شكل الدولة، او حول الهوية السورية، فليس من المنطقي القول إن ضم القوى العسكرية لقسد ممكن، طالما أن الجيش السوري الجديد يفرض عقيدة ذات رؤية إسلامية سنية ثم سورية. كما أن قوات قسد أيضا، رغم مشاركة العرب بها، تحمل عقيدة قومية كوردية ثم سورية.
موضوع العقيدة العسكرية في أي دولة هو سؤال أساسي وليس منتجا جانبيا، وبالحالة السورية يشكل صعوبة حقيقية أمام ضم القوات العسكرية.
الجيش السوري، ووفق تجارب سورية التاريخية والدول العربية، يقتضي أن يكون مبنيا على أساس وطني سوري خالص، مستقل عن أي رؤية قومية أو دينية أو مذهبية.

خاتمة:

تأسيس الثقة والعقد الاجتماعي السوري على أسس وطنية إنسانية وفق شرعة حقوق الإنسان الدولية، بدون تحفظات، ووضع خطة إعادة البناء الاجتماعي والثقافي والتعليمي والإعلامي خارج الأيدولوجيات الأضيق من الفضاء السوري، هو الخطوة الأهم والأكثر ضرورية ليتم البناء عليها في أي عمل سياسي واقتصادي. وهذا التأسيس يحتاج عمل مخلص من قبل الحكومة السورية بقيادة السيد الشرع أولا، وثانيا تعاون بقية القوى السياسية والشعبية والنخبوية والثقافية.

الباحثون المستقلون
الباحث والكاتب علاء الخطيب

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع