بين التحول الديمقراطي والانتقال للديمقراطية وسؤال الواقع السوري

 المقدمة: 

يُعدّ التمييز بين مفهومي "التحول الديمقراطي" (Democratic Transformation) و"الانتقال إلى الديمقراطية" (Democratic Transition) إشكاليةً محوريةً في حقل الدراسات السياسية والفلسفية المعاصرة، ولا سيما في تحليل مسارات التغيير السياسي في المجتمعات العربية. 

فمع تعقّد تحولات ما بعد الربيع العربي، برزت الحاجة إلى أدوات تحليلية دقيقة تُفسّر طبيعة التحولات الديمقراطية وحدودها، يمتلك هذا التحليل أهميةً منهجيةً وعمليةً، كونه يمسّ جوهر تصوّرنا لطبيعة الزمن السياسي، وأدوار الفاعلين الاجتماعيين، ومعايير تقييم النظم الديمقراطية الناشئة.  

تتمحور الإشكالية الرئيسية حول السؤال: هل ثمّة فرق جوهري بين "التحول الديمقراطي" و"الانتقال إلى الديمقراطية" أم أنهما مصطلحان مترادفان؟

 إذ يختلط استخدام المفهومين في الأدبيات الأكاديمية بين:  

  1. الانتقال، كمرحلةٍ مؤسسيةٍ فاصلةٍ تركز على تغيير هيكل الحكم.  
  2. التحول، كعمليةٍ مجتمعيةٍ شاملةٍ تعيد تشكيل البنى الثقافية والاقتصادية.  

هذا الالتباس يُثير تساؤلاتٍ عن إمكانية حدوث انتقالٍ سياسيٍ ناجحٍ دون تحولٍ مجتمعيٍ عميقٍ يدعمه.  

تفترض هذه الورقة أن الانتقال إلى الديمقراطية يمثل لحظةً تأسيسيةً فاصلةً تتمحور حول إعادة هيكلة المؤسسات السياسية والدستورية، بينما التحول الديمقراطي عمليةٌ تراكميةٌ ممتدةٌ زمنياً تشمل إعادة صياغة العقد الاجتماعي والقيم الثقافية الداعمة للديمقراطية، ويستند هذا التمايز إلى ثلاثة أبعاد:  

  1. البعد الزمني، يكون فيه الانتقال مرحلة محدودة (كصياغة دستور)، والتحول مسار تاريخي طويل (كترسيخ قيم التعددية).  
  2. الفاعلون الأساسيون، إذ الانتقال تقوده النخب السياسية، بينما التحول يتطلب تفاعل المجتمع المدني.  
  3. المعايير التقييمية، حيث يُقاس الانتقال بالمؤسسات (كإجراء انتخابات)، والتحول بالسلوكيات (كاحترام حقوق الأقليات).  

تعتمد الدراسة على إسهامات نظرية رائدة في تحليل الديمقراطية، مع التركيز على التطبيقات العربية، وستناقش الورقة إشكاليته عبر:  

  1. تحليل الإطار المفاهيمي للمصطلحين.  
  2. مقارنة نماذج تطبيقية من التجارب العربية.  
  3. تقييم تداعيات هذا التمييز على مستقبل الديمقراطية في المنطقة.  

 الإطار النظري: التمييز المفاهيمي والنظري بين التحول الديمقراطي والانتقال إلى الديمقراطية  

 أولاً: التعريفات المحورية:

الانتقال إلى الديمقراطية (Democratic Transition)، يعرّف بأنه المرحلة الفاصلة التي تلي انهيار النظام السلطوي، وتركز على إعادة بناء المؤسسات السياسية الأساسية خلال فترة زمنية محدودة. 

فوفقًا لـِ غييرمو أودونيل وفليب شميتر ، يتميز بـ:  

  1. طابعه المؤسسي، مثل صياغة الدساتير، وإقرار التعددية الحزبية، وإجراء الانتخابات التأسيسية.  
  2. هيمنة التفاوض النخبوي، عبر تسويات بين إصلاحيين من النظام القديم وقوى المعارضة، أو بالحالة السورية بين قوى الأمر الواقع المختلفة بعد التحرير.
  3. معايير إنجازه، من خلال وضع دستور جديد، وتشكيل حكومة منتخبة، واحتكار الدولة للسلطة الشرعية.  
  4. التحول الديمقراطي (Democratic Transformation)، ويُقصد به عملية تاريخية ممتدة تشمل إعادة هيكلة البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع، حيث يرى روبرت دال (1998) أن جوهره يتمثل في:  
  5. الشمولية، عبر إصلاح التعليم، وتمكين المجتمع المدني، وإعادة توزيع الثروة.  
  6. التراكم التدريجي، عبر ترسيخ قيم التسامح والمشاركة عبر أجيال.  
  7. المعايير السلوكية، وقياسه بمدى تجذر الممارسات الديمقراطية (كاحترام التعددية) وليس بالشكليات المؤسسية فقط.  

وفي التكامل بين المفهومين يرى عزمي بشارة، أن الانتقال يشكل "اللحظة التأسيسية" بينما التحول يمثل "المسار الطويل لترسيخ الشرعية".  

 ثانيًا: النظريات المؤطرة:

مثل نظرية التحديث (Modernization Theory)، والتي تنطلق من فرضية أن الديمقراطية نتاج حتمي للتطور الاقتصادي-الاجتماعي، كما صاغها صموئيل هنتنغتون (1991)، وشروط هذا التحول:

  1. التصنيع والتمدين، وظهور طبقة وسطى تطالب بالحقوق.  
  2. ارتفاع مستوى التعليم، وتعزيز الثقافة الديمقراطية.  

على أن هناك انتقادات لهذه النظرية تفرض تجاهل الإرادة السياسية، إضافة للفشل في تفسير استثناءات كالهند (ديمقراطية في مجتمع زراعي).  

ومثل نظرية الانتقال الديمقراطي (Transitology)، التي تركز على ديناميات التفاعل الاستراتيجي بين النخب أثناء الانهيار السلطوي، وفق تصنيف أودونيل وشميتر، حيث مسارات الانتقال تقوم على:

  1. الإصلاح من أعلى (مثل إسبانيا فرانكو).  
  2. الثورة من أسفل (مثل أمريكا اللاتينية).  
  3. التسوية المفاوضة (مثل جنوب أفريقيا).  

على أن هذه النظرية تفرض قيد اختزال الديمقراطية في الإجراءات الانتخابية كما يرى عزمي بشارة، إضافة لإغفال دور العوامل الخارجية كالضغوط الدولية.  

وهناك النظريات التكاملية، التي سعت لربط العوامل البنيوية (التحديث) والاختيارية (الانتقال)، مثل نموذج لينز وستيبان، الذي يربط استقرار المؤسسات ببناء ثقافة المواطنة عبر:  

  1. سيادة القانون.  
  2. مجتمع مدني فاعل.  
  3. اقتصاد سوق عادل.  

ومثل رؤية الأمم المتحدة، القائمة على الجمع بين الإصلاح المؤسسي (فصل السلطات) والتحول المجتمعي (المشاركة الشعبية).  

خلاصة القضية، يبدو أن الإنتقال يُشكل الإطار المؤسسي الضروري للديمقراطية، بينما يضمن التحول استدامتها عبر تغيير البنى الاجتماعية، وكما يخلص كوفي عنان: "الديمقراطية ليست حدثًا بل رحلة تتطور مدى الحياة".  

المقارنة بين مفهومي التحول الديمقراطي والانتقال إلى الديمقراطية:

يبدو أن هناك فروقاً خمسة بين التحول والانتقال، وهي:

  1. الاختلاف الجوهري في الزمن والطبيعة، فالانتقال إلى الديمقراطية يُعرف بأنه مرحلة فاصلة قصيرة المدى تلي سقوط النظام السلطوي مباشرة، تركز على إعادة هيكلة المؤسسات السياسية عبر صياغة دساتير جديدة وإجراء انتخابات تعددية، هذه المرحلة تستغرق عادةً 2-5 سنوات وتتميز بطابعها النخبوي التفاوضي، كما حدث في تونس بعد 2011 حيث تم إقرار دستور ديمقراطي وانتخاب برلمان خلال 3 سنوات .  
  2. وأما التحول الديمقراطي، فيُمثل مساراً تاريخيًا طويل الأمد يمتد لعقود، ويشمل إصلاحات شاملة في البنى السياسية والاقتصادية والثقافية، فهو عملية تراكمية تعتمد على تغيير القيم المجتمعية، كما في إندونيسيا التي استغرقت 20 عامًا (من سقوط سوهارتو 1998 حتى ترسيخ آليات تداول السلطة) لتحقيق ديمقراطية مستقرة نسبيًا .  
  3. آليات التغيير ومحركاته، ففي الانتقال الديمقراطي يدفع بالتغيير عبر أحداث جذرية كالثورات (تونس 2011) أو الإطاحة العسكرية (مصر 2011)، ويعتمد على توافق النخب السياسية والعسكرية لإعادة بناء المؤسسات، كما يتطلب تسويات سياسية كـ"المؤتمرات الوطنية" (بنين 1990) أو "اتفاقيات المصالحة" (جنوب أفريقيا 1994) لضمان استمراريته .
  4. وأما في التحول الديمقراطي، فإنه يحدث عبر إصلاحات تدريجية من الأعلى (إصلاحات الملك في المغرب) أو من الأسفل (ضغوط المجتمع المدني في غانا)، ويشمل تعديلات تشريعية متتالية (كقوانين حرية التعبير) وبرامج تثقيفية لتعزيز قيم التسامح .  
  5. نطاق التغيير ومؤشرات النجاح، فالانتقال الديمقراطي يركز على المؤسسات الرسمية، فصل السلطات، الانتخابات الحرة، تعددية حزبية، ويُقاس نجاحه بمعايير إجرائية مثل: إقرار دستور جديد، تشكيل حكومة منتخبة، مثل انتخابات 2014 التأسيسية في تونس كمرحلة انتقالية ناجحة تقنيًا .  
  6. وأما التحول الديمقراطي فيشمل المجالات غير السياسية، مثل إصلاح النظام التعليمي (لتعزيز المواطنة)، وتمكين المرأة (كحصة 30% للمرأة في البرلمان الإندونيسي)، ومكافحة الفساد الهيكلي، ويُقاس بمعايير سلوكية، مثل قبول التعددية الدينية، وانخفاض العنف السياسي، ونمو الثقة بين المواطنين والدولة .  
  7. مخاطر الانتكاسة والاستدامة، حيث إن الانتقال الديمقراطي يُعرض لـ الانتكاس السريع إذا غاب التوافق السياسي، كما في مصر 2013 عندما أدى انقسام النخب إلى انقلاب عسكري، وقد ينتج "أنظمة هجينة" تجمع بين مؤسسات ديمقراطية شكلية وممارسات سلطوية (روسيا بعد 1993) .  
  8. وأما التحول الديمقراطي فيواجه خطر الركود أو الثورة المضادة إذا تباطأت الإصلاحات، كما في الجزائر حيث فشلت الإصلاحات الجزئية في منع انتفاضة 2019، ويحتاج لضمانات مؤسسية واجتماعية طويلة المدى، مثل استقلال القضاء في جنوب أفريقيا بعد 1994 .  
  9. التكامل بين المفهومين شرط الاستقرار، إذ الانتقال يوفر الإطار المؤسسي الضروري، لكن التحول يضمن الاستدامة، ففي غانا، نجح الانتقال عبر انتخابات 1992، لكن استمرارية الديمقراطية تأتي من التحول المجتمعي عبر تفكيك الولاءات العرقية وتعزيز الأحزاب البرامجية، بالمقابل، فشلت ليبيا رغم سقوط القذافي (انتقال) بسبب غياب التحول في بنى المجتمع القبلي وثقافة العنف، وهنا يؤكد عزمي بشارة أن "الانتقال دون تحول يُنتج ديمقراطية هشة"، فالتوافق المؤقت لا يكفي دون إعادة صياغة العقد الاجتماعي .  

ويُمكن القول: إذا كان الانتقال لحظة جراحية تُغير هيكل الحُكم، فإن التحول عملية علاجية طويلة تشفي جروح المجتمع. 

العوامل المؤثرة في التحول الديمقراطي والانتقال إلى الديمقراطية: 

ربما يمكن جمع العوامل المؤثرة بالتحول أو الانتقال إلى مسارين: عوامل داخلية وعوامل خارجية.

 أولاً: العوامل الداخلية، والتي يمكن جمعها باعتبار الديناميات البنيوية والإرادة السياسية إلى: 

  1. دور النخب السياسية، بين التوافق والانقسام، ففي الانتقال، تُعدّ النخب الفاعل المركزي وفق رؤية أودونيل وشميتر، حيث يُحدد "التوافق بين الإصلاحيين والمعارضة" مصير المرحلة الانتقالية، ففي تونس 2011، نجح "الرباعي الراعي للحوار" (نقابات وأحزاب) في منع الانهيار عبر تسوية تاريخية، بينما أدى انقسام النخب في مصر إلى انتكاسة 2013.  
  2. وفي التحول، تتجاوز النخب السياسية إلى نخب مجتمعية (مثقفون، إعلاميون) تُعيد تشكيل الخطاب العام، كما في نموذج غرامشي عن "الهيمنة الثقافية"، ففي المغرب، ساهمت إصلاحات الملك محمد السادس في تعزيز خطاب الاعتدال تدريجياً عبر تفكيك الخطاب الأصولي.  
  3. المؤسسات، والتي تتجلى بالإطار الشكلي مقابل الجوهر الوظيفي، ففي الانتقال تُعدّ المؤسسات الدستورية (كالمحكمة الدستورية) ضمانةً ضد الانتكاس، لكنها تبقى هشة دون شرعية اجتماعية، وهنا يُذكر أن 60% من الديمقراطيات الناشئة تعاني من "الديمقراطية الزائفة" حيث تتحول المؤسسات إلى أدوات لتكريس السلطة، كما في روسيا.  
  4. وأما في التحول، فإنه يتطلب مؤسسات غير رسمية كالمجتمع المدني التي تعيد إنتاج قيم الثقة، وهو ما أكده بوتنام في تحليله لـ"رأس المال الاجتماعي" في إيطاليا، ومما يلاحظ أنه في بولندا، أسهمت نقابة "تضامن" في تفكيك البنى السلطوية عبر عقود.  
  5. الثقافة السياسية، وهي البنية التحتية للديمقراطية، فالتحول يرتبط بتغيير العقلية الجمعية، حيث يرى ألموند وفيربا أن "الثقافة المدنية" (المشاركة، التسامح) شرطٌ لاستدامة الديمقراطية، ففي الهند، حافظت الديمقراطية رغم التحديات عبر قبول التعددية الدينية كقيمة راسخة.  

وأما الانتقال، فقد يحدث في مجتمعات تفتقر لثقافة ديمقراطية، لكنه يعرّض لخطر الارتداد، كما يوضح هنتنغتون: "الديمقراطيات دون ثقافة ديمقراطية هي ديمقراطيات مؤقتة".  

ثانياً: العوامل الخارجية، وهنا تبرز التدخلات والفضاء العالمي من خلال:  

  1. القوى الدولية، بمعنى ارتباط الدعم الخارجي بالهندسة الاجتماعية، فالدعم الإيجابي قد يُعزز الانتقال عبر الضغوط الدبلوماسية (كعقوبات الاتحاد الأوروبي على ميانمار) أو الدعم التقني (مساعدات الأمم المتحدة في صياغة دساتير، كما في تونس).
  2. أما التدخل السلبي فقد يُنتج "ديمقراطية مستوردة" تفتقر للجذور المحلية، كما في العراق 2003 حيث أدى الاحتلال إلى تفكيك الدولة دون بناء بديل شرعي.  
  3. العولمة، من خلال الفضاء الافتراضي وتأثير النماذج التي تُسرّع التحول عبر نقل النماذج مثل (تأثير نجاح الانتقال الإسباني على أمريكا اللاتينية)، إضافة لخلق فضاءات احتجاجية افتراضية مثل (دور فيسبوك في الربيع العربي).  
  4. لكنها تهدد بــ"استعمار ثقافي" يُهمّش الخصوصيات المحلية، كما يحذر إدغار موران.  
  5. التبعية الاقتصادية وإكراهات المؤسسات المالية، مثل شروط صندوق النقد الدولي، والتي قد تُحدث إصلاحات سياسية (شروط الحوكمة الرشيدة)، لكنها تُعيق التحول الحقيقي عبر:  
  6. تفكيك دولة الرفاه (برامج التقشف في مصر 2016).  
  7. تعميق الفجوات الطبقية التي تُضعف التماسك الاجتماعي.  

على أن التفاعل الجدلي بين الداخل والخارج قد يخلق نماذج متناقضة، مثل نموذج التبعية المزدوجة كما في أوكرانيا، حيث تحول الصراع بين روسيا والغرب إلى أداة لتفتيت السيادة الوطنية، ونموذج السيادة المقاومة كما في جنوب أفريقيا، حيث حُوّل الدعم الدولي إلى رافعة لتعزيز المشروع المحلي.  

ومما سبق، يبدو أن العوامل الخارجية قد تُشكل سياقاً، لكن جوهر العمليتين يبقى رهناً بالإرادة الداخلية، إذ "الديمقراطية لا تُصنع في واشنطن ولا بروكسل، بل في الميدان حيث يصنع الشعب مصيره".  

 دراسة حالات تطبيقية: 

لدراسة تطبيقية نأخذ مثالا للتحول ومثالا للانتقال، التحول الديمقراطي في إسبانيا والانتقال الديمقراطي في تونس  

فأما إسبانيا، فإن نموذج التحول الديمقراطي كان تدريجياً، حيث شكّلت وفاة فرانكو (1975) لحظة محورية، لكن التحول الإسباني تجاوز مجرد "انتقال" إلى عملية إعادة هيكلة شاملة استغرقت عقدين، أولا مع التسويات النخبوية، حيث قاد الملك خوان كارلوس عملية إصلاح متدرجة عبر تعيين أدولفو سواريث (1976)، الذي أطلق حواراً وطنياً مع المعارضة، متجنباً القطيعة مع مؤسسات النظام السابق .  

وثانيا، الإصلاح القانوني المتسلسل، والذي بدأ بـ "قانون الإصلاح السياسي" (1976) الذي أقرّ بالاستفتاء الشعبي، ثم دستور 1978 الذي كرّس دولة القانون، وانتهى بانضمام إسبانيا للسوق الأوروبية (1986) لترسيخ الضمانات المؤسسية .  

وقد واجهت العملية محاولة انقلاب فاشلة (1981) قادها ضباط موالون للفرانكوية، لكن صمود الملك والطبقة السياسية حال دون الانهيار.  

ولعل عوامل النجاح في التحول التدريجي هو:

  1. الدور الحاسم للثقافة السياسية، وظهور طبقة وسطى طالبت بالإصلاح بعد التمدين والتصنيع، وتجذير قيم التسامح عبر التعليم والمجتمع المدني .  
  2. التكامل بين المؤسسات والقيم، إذ لم يقتصر النموذج الإسباني على تغيير الدستور، بل شمل إصلاح الاقتصاد (تحرير الأسواق) والقضاء (استقلالية المحاكم) .  
  3. الزمن كعامل حاسم، حيث استغرق ترسيخ الديمقراطية 20 عاماً (1975-1996)، حيث انتقلت السلطة سلمياً من اليمين إلى الاشتراكيين (1982)، ثم إلى حزب الشعب (1996).  

يعطينا التحول الإسباني درساً واضحا مفاده: "لم تكن الديمقراطية حدثاً بل رحلة طويلة، حيث حوّلت المؤسسات الشكلية إلى قيم مجتمعية" .  

وأما تونس، فكانت نموذج الانتقال الديمقراطي السريع وتعثره، حيث انطلقت من لحظة ثورية فاصلة (2011) لكنها لم تتحول إلى عملية تراكمية، إذ كانت الإنجازات المؤسسية السريعة متجلية بإسقاط بن علي خلال 28 يوماً، وصياغة دستور 2014 الذي كرّس الحريات وحقوق المرأة، إضافة إلى إجراء 3 انتخابات تشريعية ورئاسية (2014، 2019، 2022) تحت إشراف هيئة مستقلة، مع ضمان تداول سلمي للسلطة .  

وأما الإخفاقات الهيكلية، فكانت بالاقتصاد، حيث ارتفعت البطالة إلى 18%، والمديونية إلى 100% من الناتج المحلي، بسبب سياسات القشف وغياب الرؤية التنموية، إضافة إلى الانقسام السياسي حيث تحوّل الحوار الوطني إلى صراع إسلامي-علماني، خاصة بعد سيطرة حركة النهضة على البرلمان (2019) .  

وقد كانت عوامل الانتكاسة والثورة المضادة متمثلة بـ:

  1. الشعبوية كعامل تفكيك، حيث استغل قيس سعيّد غياب العدالة الاجتماعية وخطاب "النخبة الفاسدة"، لتعليق البرلمان (2021) وإلغاء الدستور، مدشناً "الجمهورية الثالثة" بسلطات رئاسية مطلقة.  
  2. غياب التحول المجتمعي، إذ رغم المؤسسات الديمقراطية، بقيت الثقافة السياسية قائمة على الولاءات العائلية والجهوية، خاصة في الداخل المهمش حيث انطلقت الثورة.

ويمكن القول أن الانتقال دون تحول ينتج ديمقراطية هشة؛ فتونس بنت دستوراً راقياً لكنها أهملت بناء الإنسان التونسي فوصلت لما وصلت إليه اليوم .

ومن الدروس الجوهرية لسورية من المثالين السابقين، أن إسبانيا تثبت أن التحول الديمقراطي يحتاج إلى "تسلسل تاريخي" عبر البدء بإصلاح المؤسسات مثل (قانون 1976)، ثم دمج الاقتصاد في المنظومة الغربية (السوق الأوروبية).، وأخيراً تغيير العقلية الجمعية عبر الأجيال كما أن تونس تكشف مخاطر اختزال الديمقراطية في الانتخابات، حيث لم تدرك النخب أن الحرية لا تطعم خبزاً؛ فالديمقراطية تحتاج إلى عدالة اجتماعية كقاعدة مادية.

هذا ويشكل النموذجان الإسباني والتونسي متتاليتين تاريخيتين متعارضتين، فإسبانيا نجحت لأنها حوّلت "الانتقال" إلى "تحول" عبر دمج الإصلاح السياسي بالتحول الاقتصادي والثقافي.  

وأما تونس فقد انتكست لأنها حوّلت "الانتقال الثوري" إلى "صراع نخبوي" أغفل مطالب الشعار الأساسية: "شغل، حرية، كرامة وطنية".  

وهنا يذكرنا عزمي بشارة بأن "الانتقال مرحلة، أما التحول فهو عملية تاريخية تذيب ترسبات الاستبداد في المجتمع، لا في الدستور فقط" .  

التحديات والنتائج: 

تبرز إشكاليات التحول الديمقراطي والانتقال إلى الديمقراطية من خلال ما يأتي:

أولاً: تحديات التحول الديمقراطي (التدريجي)  

  1. المقاومة البنيوية، مثل قوى التقليد، حيث تشكل النخب المحافظة (كالكيانات القبلية والبيروقراطية العميقة) حاجزاً أمام التغيير المجتمعي، كما في المغرب حيث أعاقت "المخزن" إصلاح القضاء رغم التعديلات الدستورية ، ومثل الاقتصاد السياسي، إذ تؤدي الفجوات الطبقية إلى إفشال الإصلاحات، ففي مصر 2011، حُوِّلت الثورة إلى ثورة مضادة عندما هددت مطالب العدالة الاجتماعية مصالح رأس المال المتحالف مع الجيش .  
  2. ضعف المؤسسات غير الرسمية، مثل المجتمع المدني الهش، حيث يُعدّ غياب منظمات مجتمعية مستقلة (كنقابات عمالية) عقبةً أمام ترسيخ الديمقراطية، كما في الجزائر حيث فشلت الاحتجاجات في تحويل نفسها إلى قوة ضاغطة مؤسسية، إضافة إلى الثقافة السياسية المتكلسة، مثل استمرار قيم الولاءات الأولية (الطائفية، العشائرية) والذي يُعيق بناء ثقافة المواطنة، كما يظهر في لبنان .  

وعليه فإن النتائج طويلة المدى إن نجح التحول، ينتج ديمقراطية "متعمقة" (كجنوب أفريقيا) تستوعب التنوع عبر عقود، وأما إن فشل، فيؤدي إلى "جمود سياسي" (كمصر) حيث تُحافظ النخب على الوضع القائم بإصلاحات شكلية.  

ثانياً: تحديات الانتقال الديمقراطي (السريع)  

  1. فخاخ المرحلة الانتقالية، على رأسها الفراغ الأمني، فانهيار أجهزة الدولة يخلق فضاءً للفوضى، كما في ليبيا 2011 حيث تحولت الثورة إلى حرب أهلية، وأيضاً استقطاب النخب، مثل انقسام القوى الثورية إلى إسلاميين وعلمانيين، والذي يُجهض التسويات (تونس 2013-2021)، وهو ما يُسمى "لعبة الصفر" عند أودونيل وشميتر.  
  2. خطر الارتداد الاستبدادي، من خلال الثورة المضادة، عبر تحالف الجيش مع رجال الأعمال لاستعادة النظام القديم تحت شعارات "الاستقرار" (مصر 2013)، ومن خلال الشعبوية، مثل صعود قادة شعبويين (قيس سعيد في تونس) يستغلون إخفاقات النخبة لتعطيل المؤسسات .  

ومن النتائج طويلة المدى إن نجح الانتقال، فإنه يُنتج ديمقراطيات "هشة لكن قابلة للحياة" (كإندونيسيا)، وإن فشل، فيؤدي إلى "أنظمة هجينة" تجمع بين الانتخابات والقمع (مثل روسيا).  

لهذا فإن سيناريوهات المستقبل هو:  

  1. سيناريو التراكم الناجح (إسبانيا نموذجاً) : انتقال سلس → إصلاح مؤسسي → تحول اقتصادي → ترسيخ ثقافي.  
  2. سيناريو الحلقة المفرغة (العالم العربي): ثورة → انتقال معطل → انقسام → ثورة مضادة → استبداد جديد.  

وبينما يواجه التحول تحدياً وجودياً هو "إعادة صنع المجتمع"، يواجه الانتقال تحدياً زمنياً هو "منع الانزلاق للفوضى، لهذا فإن الانتقال يحتاج إلى لحظة، والتحول يحتاج إلى جيل، والأخطر هو اختزال أحدهما في الآخر.

 الخاتمة: من التمييز المفاهيمي إلى المستقبل السوري  

لقد كشف هذا التحليل أن الفرق بين الانتقال إلى الديمقراطية والتحول الديمقراطي ليس مجرد اختلاف اصطلاحي، بل يعكس رؤيتين متباينتين للتغيير السياسي، فالانتقال هو لحظة تأسيسية فاصلة تُعيد هندسة المؤسسات عبر تفاوض النخب، لكنها تظل هشة كـ"جسر فوق فوضى".  

وأما التحول فهو رحلة تاريخية طويلة تُعيد تشكيل العقد الاجتماعي والثقافة السياسية، وهي عملية أشبه بـ"تشييد أساسات الجسر في أعماق المجتمع. 

وفي السياق السوري الراهن، حيث تتداخل الحروب بالتدخلات، تبرز ثلاث حقائق جوهرية:  

  1. ١. مأزق الانتقال السريع، إذ أي محاولة لفرض "انتقال فوري" (كإعلان دستور جديد أو انتخابات دون توحيد الخريطة السورية) ستكرّس الفوضى، لأن:  
  2. غياب التوافق بين النخب السورية يحوّل المؤسسات إلى أدوات صراع.  
  3. المجتمع المُدمر يحتاج أولاً إلى مصالحة وطنية على نموذج "لجنة الحقيقة" في جنوب أفريقيا، قبل صياغة الدستور، وإلا ستُكرر أحداث الساحل.
  4. ٢. ضرورة التحول التراكمي، فيجب أن تسبق أي عملية انتقالية مرحلة تحول مجتمعي يعيد بناء الأسس عبر:
  5. إعادة الاعتبار للثقة، عبر مؤسسات وسيطة (تعليم، إعلام) تُعيد ربط السوريين بعد سنوات من التفتيت الهوياتي.  
  6. العدالة الانتقالية، عبر معاقبة مجرمي الحرب وردّ الممتلكات كشرط لإنهاء ثقافة الانتقام.  
  7. ٣. النموذج التكاملي، وهو "الانتقال" عبر "التحول"، فربما لن تنجح سورية إلا بدمج المسارين في استراتيجية واحدة تقوم على:
  8. مرحلة التحول الأولي (5-10 سنوات) من خلال إعادة إعمار البنى التحتية، وتفكيك خطاب الكراهية عبر مناهج تعليمية جديدة، وبناء مجتمع مدني مستقل.  
  9. مرحلة الانتقال المؤسسي (2-3 سنوات) ويكون عبر مؤتمر وطني شامل (يمثل كل الأطياف)، ودستور يُكرّس التعددية ويوزع السلطة.  

الخلاصة الجوهرية تبرز جلية بأن الفرق بين التحول والانتقال هو الفرق بين البناء من تحت والهندسة من فوق، فسورية التي دمرتها الحرب لا تحتاج إلى "انتقال سريع" يُنتج ديمقراطية زائفة، بل إلى تحول طويل يصنع شعباً قادراً على حماية ديمقراطيته، فالديمقراطية لا تُمنح في قاعات المفاوضات الدولية، بل تنبت من رحم مجتمع تعلم أن الحرية مسؤولية قبل أن تكون حقاً.

فهل تدرك القوى الدولية أن دعم التحول المجتمعي في سورية هو الطريق الوحيد لانتقال ديمقراطي حقيقي؟ الإجابة على هذا السؤال ستُحدد مصير جيل كامل.

ولكن ما يُمكن أن نقدمه في تيار المستقبل السوري هو توصيات نراها لمسار ديمقراطي سوري تقوم على:

أولاً: التأسيس لمرحلة التحول المجتمعي (5-10 سنوات)، وتكون عبر:

  1. تفكيك ثقافة الحرب عبر التعليم، من خلال إعادة بناء المناهج الدراسية لترسيخ قيم المواطنة والتعددية، مع إدراج مادة إلزامية عن "التاريخ النقدي للنزاع السوري"، إضافة إلى إنشاء مراكز حوار مجتمعي في كل محافظة (بدعم أممي محايد) لتحويل خطاب الكراهية إلى لغة مصالحة.  
  2. العدالة الانتقالية كعملية تحوّلية، تقوم على اعتماد نموذج "لجان الحقيقة المحلية" (على غرار رواندا) بدلاً من المحاكم الدولية، لضمان مشاركة الضحايا والمجتمعات في صنع العدالة، وتطبيق برامج "جبر الضرر المادي والمعنوي" والتي تشمل: إعادة الممتلكات، والتعويضات الرمزية، وبرامج الدعم النفسي.  
  3. بناء الاقتصاد التشاركي كأساس للديمقراطية، من خلال تفعيل التعاونيات الزراعية والحرفية في المناطق المدمرة (مثل حلب وإدلب) لخلق فرص عمل مستقلة عن سلطة الدولة أو الميليشيات، وربط الدعم الدولي للإعمار بـ"المشاركة المجتمعية" في صنع القرار (كآلية الميزانيات التشاركية في البرازيل).  

ثانياً: تهيئة شروط الانتقال المؤسسي الآمن، وتكون عبر 

  1. الدستور كنتاج مجتمعي لا مفاوضات نخبوية من خلال إجراء مسودة دستور عبر "الجمعيات التأسيسية المحلية" في كل محافظة، ترفع توصياتها لمؤتمر وطني شامل، وضمان تمثيل النساء والشباب بنسبة 40% على الأقل في أي هيئة صياغة دستورية قادمة.
  2. نزع السلاح المشروط ببناء الثقة، ويكون عبر ربط تسليم الميليشيات لأسلحتها بإنشاء "قوات أمن وطنية مختلطة" تحت إشراف دولي، وتحويل المؤسسة العسكرية إلى "هيئة دفاع وطني" تخضع لسلطة مدنية منتخبة.

ثالثاً: تجنّب أخطار المسار الدولي، عبر الشراكة الدولية الانتقائية، بمعنى رفض أي دعم مرتبط بشروط سياسية جاهزة (كالنموذج العراقي)، وقبول الدعم الفني فقط في مجالات: القضاء، الإدارة المحلية، الأرشيف الوطني، إضافة لإنشاء "صندوق إعمار سيادي" تُدار موارده بشفافية عبر منصة رقمية مفتوحة. ونوصي هنا بشدة، بالتعامل مع اللاجئين كرافعة للتحول عبر منح المغتربين السوريين حق التصويت الإلكتروني في الاستفتاءات المحلية، واستثمار كفاءاتهم في نقل الخبرات، وربط عودة اللاجئين بـ"برامج إعادة دمج مجتمعية" تضمن استعادتهم لأراضيهم.  

رابعاً: الرؤية الفلسفية للتغيير، حيث لا يُبنى الديمقراطية بقرارات فوقية، بل بتفكيك الاستبداد من أعماق المجتمع. لهذا فإن المسار السوري يحتاج إلى زمن تحوّلي يُذيب ترسبات 50 عاماً من الاستبداد، إضافة لإرادة مجتمعية تحوّل الضحايا إلى فاعلين سياسيين، وحكمة دولية تدرك أن السلام المستدام لا يُفرض من جنيف، بل يُصنع في مدارس حلب وزراعات درعا!.

إن الخيار السوري ليس بين "استبداد" أو "فوضى الثورة"، بل بين مسار تحوّلي طويل يبني ديمقراطية من القاعدة، ومسار انتقالي سريع يُنتج ديكتاتورية جديدة بوجوه قديمة، فالشعب الذي عاش الموت الجماعي، يستحق حياةً جماعيةً تُصنع بأنامله لا بأجندات السفارات، ليظل الجدل حول هذين المفهومين انعكاساً لسؤالٍ أعمق: هل الديمقراطية نظام حكمٍ يُعلن دستورياً، أم ثقافة مجتمعية تُبنى عبر الأجيال؟

المكتب السياسي

جمعة محمد لهيب

قسم البحوث والدراسات

بحث

تيار المستقبل السوري

المراجع:

  1. بشارة، عزمي. (٢٠٢٠)، الانتقال الديمقراطي وإشكالياته، مركز دراسات الوحدة العربية.  
  2. O’Donnell, G., & Schmitter, P. (1986). Transitions from Authoritarian Rule. Johns Hopkins University Press.  
  3. Anderson, L. (2011). "Demystifying the Arab Spring". .Foreign Affairs.  
  4. الشابي، علي، تحديات الاقتصاد التونسي في سياق المرحلة الانتقالية (2011-2017)، مركز الجزيرة.
  5. بركات، حليم. (2000). المجتمع العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية.
  6. انتقال إسبانيا نحو الديمقراطية. ويكيبيديا.  
  7. الحناشي، عبد اللطيف. (2019). تونس من الثورة التائهة إلى الانتقال الديمقراطي العسير.  
  8. الجابري، ستار. (2019). تجربة التحول الديمقراطي في إسبانيا، مجلة حمورابي للدراسات.  
  9. ASJP ، دور العامل الخارجي في مسارات التحول الديمقراطي بدول المغرب العربي، https://asjp.cerist.dz
  10. المفتي، محمد. (2020). العولمة والتحول الديمقراطي في العالم العربي. مجلة المستقبل العربي، العدد 502.
  11. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، العامل الخارجي والانتقال الديمقراطي في البلدان العربية. https://www.dohainstitute.org
  12. عبد الحميد علي، نادية. (2020). التحول الديمقراطي في إندونيسيا: من الاستبدادية إلى الديمقراطية الوليدة، تم الاسترداد من https://arabprf.com/?p=3066  
  13. مركز الجزيرة للدراسات. (2018). مسارات التحول الديمقراطي في إفريقيا: النجاحات والإخفاقات، تم الاسترداد من: http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2018/03/180329102036214.html
  14. عنان، كوفي. (2005). "خطاب في منتدى الديمقراطية". الأمم المتحدة.
  15. القريطي، سعيد. (2018). "التحول الديمقراطي في العالم العربي: الإشكاليات والآفاق"، المستقبل العربي، (478)، 34-51.
شاركها على:

اقرأ أيضا

حول المرسوم الرئاسي رقم 66 لعام 2025

يرى المنبر السوري الديمقراطي المكون من العديد من الأحزاب والتجمعات والتيارات ومنظمات المجتمع المدني، وبموجب اجتماعهم يوم السبت الموافق 14

18 يونيو 2025

Media Office

بيان تهنئة للقبة الوطنية السورية

تيار المستقبل السوري يتقدم بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى الرئاسة الجديدة المنتخبة في القبة الوطنية السورية، والتي جاءت ثمرةً لمسار

18 يونيو 2025

Media Office