العشر من ذي الحجة من المقدَّس إلى المجتمعي – قراءة حداثية مقاصدية في سياق التحول السوري

مقدمة:

الزمن المقدس وزمن الإنسان:

تُشكِّل الأيام العشر الأوائل من ذي الحجة فضاءً زمنياً فريداً في الوعي الجمعي الإسلامي، حيث يلتقي المقدَّس بالتاريخي، والروحي بالاجتماعي، في هذا العام (1446هـ – 2025م)، تبدأ هذه الأيام في 28 مايو/أيار، متزامنةً مع مرحلة تاريخية حاسمة في سورية ما بعد التحرير، حيث تشهد البلاد تحولاً جوهرياً نحو بناء دولة متعددة تحترم الدين والإنسان والحياة. 

ومن خلال عدسة الفكر الإسلامي المعاصر، نعيد قراءة هذه المناسبة لا كطقس ديني مجرد، بل كنظام رمزي حي قادر على إنتاج دلالات جديدة تخدم بناء المجتمعات.

العشر من ذي الحجة في الموروث الديني – البناء النصي والوظيفة الاجتماعية:

من لحاظ الأسس النصية للفضيلة الزمنية، تقوم فضيلة هذه الأيام على نصوص تأسيسية، الأول هو قٓسم قرآني {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1-2]، الذي فسره كثير من المفسرين بأنه إشارة إلى عشر ذي الحجة، والثاني، تأكيد نبوي "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام" (يعني عشر ذي الحجة) [رواه البخاري]. والثالث، خصوصية يوم عرفة "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة" [رواه مسلم].

ومن لحاظ التفاضل الزمني، نرى إشكالية التراتبية، حيث يطرح ابن تيمية تمييزاً دقيقاً: "أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، وليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة"، نجد هذا التفاضل معيداً لتشكيل الخارطة الزمنية للإنتاج الروحي للمسلم، حيث تتوزع المواسم لتحقيق التكامل لا التنافر.

العشر من ذي الحجة عبر عدسة الفكر الحداثي:

يقدم أركون في مشروعه لـ"نقد العقل الإسلامي" أدوات لقراءة الظواهر الدينية كأنظمة رمزية، عبر "الأنثروبولوجيا الدينية"، وحينها يصبح العشر من ذي الحجة:

  1. ظاهرة أنثروبولوجية، تجسد مثلث "العنف والتحريم والحقيقة" حيث تُذبح الأضاحي كرمز لتحويل العنف البدائي إلى طقس مقدس .
  2. آلية لبناء الذاكرة الجمعية، عبر إعادة تمثيل أحداث كبرى (كوقوف آدم بعد هبوطه، وخاتمة حياة إبراهيم عليهما السلام).
  3. منظومة رمزية مفتوحة قابلة لإنتاج دلالات جديدة تلبي حاجات المجتمعات المعاصرة.

بينما يقرأ حنفي (في مشروعه "من النص إلى الواقع") هذه المناسبة كرصيد ثوري من خلال:

  1. التكبير، ليس مجرد ذكر لفظي بل "رفض لألوهية السلطات المستبدة" عبر إعلان "الله أكبر" فوق كل قوة بشرية.
  2. الأضحية، حيث تمثل التضحية من أجل التغيير، وهو ما تمس الحاجة إليه في سورية اليوم.
  3. الحج، وهو نموذج مصغر عن المجتمع المثالي حيث المساواة في الإحرام والطواف.

بينما يكشف أبو زيد في "مفهوم النص" عن السياقات التاريخية لتشكل هذه المناسك، مؤكداً أن دلالاتها ظلت مرنة عبر العصور، تتكيف مع حاجات المجتمعات، كما أن الأيام المعلومات في القرآن (الحج: 28) تحمل دلالة مفتوحة قابلة لاستيعاب أبعاد جديدة .

العشر من ذي الحجة وسورية الجديدة – رؤية للتوظيف المجتمعي:

يمكن تحويل صوم يوم عرفة -الذي "يكفر السنة الماضية والباقية"- إلى رمز للمصالحة الوطنية، حيث تُكفر سورية عن "سنوات الحرب" عبر مشاريع العفو والتسامح. وأيضا آلية للعدالة الانتقالية، حيث أن نجاح الإسلام الحركي في سورية مرهون بـ"رهان الحريات" و"رهان المواطنة" .

وبخصوص الأضحية نراها بحسب هذه الرؤية مرتبطة بإعادة الإعمار في سورية حيث دمرت 7849 مدرسة وعدد كبير من المساجد، لهذا يمكن تحويل الأضاحي إلى مشاريع إعمار، حيث تصبح "اللحوم" رمزاً لمواد بناء للمدارس. والترميم كصدقة جارية، بمعنى "ترميم المساجد والمدارس هو إحياء لروح المجتمع" ، وهو ما يتوافق مع الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية…" [مسلم].

وبخصوص الحج، نراه مؤسساً لفكرة الهوية المتعددة، ففي سورية تعددية للمذاهب والإثنيات، لهذا يمكن استلهام نموذج الحج حيث الوحدة في التنوع "فيه يتساوى العربي والعجمي، ولا تفاضل إلا بالتقوى"، وأيضا تجاوز الخطاب الطائفي لصالح هوية جامعة كما تدعو "السلفية الشامية الإصلاحية" التي تميزت بـ"تقبلها للتنوع الفكري" كما نبه لذلك الكاتب محمد أمير ناشر النعم.

إعادة تشكيل الخطاب الديني – نحو نموذج سوري حديث:

يبدو أن إعادة تشكيل الخطاب الديني في سورية منطلقا من الطقسية إلى الأخلاقية، فكرة مُلهمة لترسيخ العامل الإيجابي للدين في المجتمعات، وذلك عبر تحويل التركيز من:

  1. إنجاز المناسك إلى إنتاج قيمها، كالعدل (في توزيع الأضاحي)، والتضامن (في الصوم)، والمساواة (في التكبير). إضافة لتوظيف آية: "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم" [الحج: 37] كأساس لتفعيل البعد الأخلاقي.
  2. العبادة كفعل تحرري، كما يرى محمد أركون، من تحرير المقدس من احتكاره من قبل السلطات الدينية التقليدية، وجعل أيام العشر منصة للحوار الوطني، عبر مؤتمرات تجمع رجال الدين والمفكرين ورجال الدولة.
  3. الدين في الفضاء العام، مثل الخروج من المساجد إلى ترميم المدارس، كشكل من "التقرب إلى الله" في سورية حيث 2071 مدرسة تحتاج صيانة ثقيلة، وجعل المساجد كمراكز مجتمعية، كما كانت تاريخياً، لا لأداء الصلاة فقط بل للتعليم وحل النزاعات.

يبدو من كل ذلك، أن مناسبة عشر ذي الحجة في السياق السوري الراهن تُشكل فرصة تاريخية لـ:

  1. تحويل الرصيد الرمزي الديني إلى طاقة مجتمعية لإعادة البناء.
  2. استعادة الدور الحضاري للمواسم الدينية كقوة دافعة للتجديد.
  3. بناء نموذج سوري يجمع بين الأصالة الدينية والحداثة السياسية، حيث "المواطنة تعني المساواة التامة"

ويبدو أيضا أن إعادة قراءة هذه الأيام عبر منهجية "الإسلاميات التطبيقية" (كما طورها أركون) تتيح لسورية أن تصنع من تراثها الديني جسراً للمستقبل، حيث يصبح "يوم النحر" -الذي هو "أعظم الأيام عند الله" كما في الحديث- رمزاً لذبح إله الحرب (يجوز إطلاق مصطلح الإله للحق والباطل مما يُؤله كما نقل ذلك ابن كثير وغيره)، وولادة إنسان جديد يؤمن بالحياة.

خاتمة:

تشكل عشر ذي الحجة – في الرؤية المقاصدية – نظاماً متكاملاً لتحقيق مقاصد الشريعة الخمسة:  

  1. حفظ الدين، عبر التكبير الجامع الذي يعيد الدين إلى فضاءاته العمومية دون احتكار  
  2. حفظ النفس، بصوم يوم عرفة كآلية لتجديد العهد الاجتماعي ضد العنف  
  3. حفظ العقل، بقراءة القرآن كحوار مجتمعي لا خطاب أحادي  
  4. حفظ النسل، عبر الأضاحي التي تتحول إلى رعاية للأسر المتضررة  
  5. حفظ المال، باستثمار فريضة الحج في تنمية السياحة الدينية  

وعليه، فإننا في المكتب الديني لـِ تيار المستقبل السوري نوصي بتوظيفٍ مقاصديٍّ لعشر ذي الحجة من خلال:

 أولاً: في المجال التشريعي والمؤسسي: 

  1. إقرار "يوم المصالحة الوطنية" في يوم عرفة، لتحقيق العدل والتراحم (تحقيق مقصد حفظ النفس)، عبر آلية سن تشريع للعفو عن قضايا النزاع المسلح البسيطة وتشكيل لجان مصالحة محلية، يكون أثره تحويل الصوم من تكفير فردي إلى تطهير للذاكرة الجمعية.
  2. إنشاء "هيئة الأوقاف التنموية"، أساسها المقاصدي عمران الأرض (تحقيق مقصد حفظ المال)، وآليتها توحيد إدارة أموال الأضاحي والتبرعات لتمويل مشاريع:  
  3. إعادة بناء 100 مدرسة سنوياً.
  4. ترميم المستشفيات في المناطق المتضررة.

ليكون أثر ذلك بتحويل الأضحية من طقس استهلاكي إلى استثمار تنموي  

 ثانياً: في المجال الاقتصادي والاجتماعي: 

  1. مشروع "لحم في مقابل حجر"، أساسها المقاصدي التكافل الاجتماعي (تحقيق مقصد حفظ النسل)، وآليتها تخصيص 30% من قيمة كل أضحية لصندوق إعمار البنى التحتية، وأثرها ربط العبادة بالعمران عملاً بالحديث: "إن الله جميل يحب الجمال"  
  2. برنامج "الحج السوري الداخلي"، وأساسه المقاصدي وحدة الأمة (تحقيق مقصد حفظ الدين)، وآليتها تنظيم رحلات مجانية لمواقع تاريخية (دمشق – حلب – بصرى) خلال العشر وبعده من وحي الحج، ليكون أثره استعادة الروح الجامعة للحج في السياق المحلي  

ثالثاً: في المجال الثقافي والتعليمي:

  1. مبادرة "الخطاب التجديدي"، وأساسه المقاصدي تجديد الفكر الديني (تحقيق مقصد حفظ العقل)، وآليته تدريب 500 إمام على منهج "قراءة النص في سياق الواقع"، وإصدار دليل خطب العشر برؤية مقاصدية حديثة، ليكون أثره مقاومة التطرف عبر تقديم نموذج إسلامي متصالح مع الحياة.
  2. مهرجان "التكبير الجامع"، أساسه المقاصدي توحيد الرمزيات (تحقيق مقصد الألفة الاجتماعية)، وآليته تنظيم مسيرات سلمية في الساحات العامة برعاية الدولة، وأثره تحويل "الله أكبر" من شعار صراعي إلى نداء وحدة وطنية  

رابعاً: في مجال السياسات العامة:

  1. دمج المنظور المقاصدي في التخطيط، والذي أساسه المقاصدي حكمة التشريع (تحقيق مقاصد الشريعة الخمسة)، وآليته اعتماد "البطاقة المقاصدية" كمعيار لجميع مشاريع القوانين:  
  2.    • كيف يحفظ القانون الدين؟  
  3.    • كيف يصون الكرامة الإنسانية؟  
  4.    • كيف يعمر الأرض؟

ليكون أثره: أسلمة الحداثة بدلاً من تحديث الإسلام.

ليس المقصود من مواسم العبادة تكرار الماضي، بل بناء مستقبل تُذبح فيه ثقافة الحرب على مذبح الحياة، هذه الرؤية التي تجسّد جوهر المقاصد الشرعية (حيث الغاية: "جلب المصالح ودرء المفاسد") لتفرض على الدولة السورية الجديدة:  

  1. تحرير المقدس من الاحتكار الطقسي إلى الفضاء المجتمعي.
  2. استثمار الرصيد الرمزي الديني في بناء العقد الاجتماعي. 
  3. إعادة تعريف العبادة لتشمل:  
  4. ترميم المدرسة كصدقة جارية. 
  5. المصالحة الوطنية كصيام جماعي. 
  6. إعادة الإعمار كأضحية معاصرة.

"إن الأيام العشر تصير مقدسة حقاً حين تتحول من ذكرى تاريخية إلى طاقة حية تلد سورية جديدة، متعددة في أبنائها، موحدة في مقاصدها، جامعة بين دينها وإنسانها."

إنَّ تجديدَ فهمِنا للعشرِ من ذي الحجة – في سورية ما بعد التحرير – هو تجسيدٌ حيٌّ لمقصد الإمام الشاطبي، حيث قال: "الشريعةُ وُضِعَتْ لإصلاحِ الدنيا والآخرةِ معاً".

فلا قداسةَ لزمنٍ يُكرّسُ الانقسام، ولا فضيلةَ لعبادةٍ لا تُنتجُ حياةً كريمة.

المكتب الديني

فريق البحث

قسم البحوث والدراسات

دراسات

تيار المستقبل السوري

 المراجع:

  1. الإسلام ويب (2025). "فضل العشر من ذي الحجة".
  2. مؤمنون بلا حدود (2025). "تقرير: الإسلام الحركي والدولة: أي ممكنات وآفاق في ضوء الحالة السورية؟".
  3. الإسلام سؤال وجواب (2007). "ما هو فضل العشر من ذي الحجة؟".
  4. صفحة حلب على فيسبوك (2025). "بداية صيام العشر الأوائل من ذي الحجة".
  5. المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية (2019). "محمد أركون: دراسة النظريات ونقدها".
  6. الإغاثة الإسلامية (2025). "عشر ذي الحجة كل ما تحتاج إلى معرفته".
  7. نيوز روم (2025). "بداية جديدة مشروطة بالإصلاح السياسي.. الاتحاد الأوروبي يرفع العقوبات عن سورية".
  8. مؤمنون بلا حدود. "بعض ملامح التحليل الأنثربولوجي في إسلامولوجيا محمد أركون".
  9. الجزيرة نت (2023). "عشر ذي الحجة.. دروس وفضائل".
  10. غراس الخير (2025). "ترميم المساجد والمدارس في سورية.. صدقة جارية في موسم الأجر".
  11. محمد أمير ناشر النعم (2025)، السلفية الشامية: آفاق وإمكانات.

شاركها على:

اقرأ أيضا

بيان تهنئة للقبة الوطنية السورية

تيار المستقبل السوري يتقدم بأسمى آيات التهاني والتبريكات إلى الرئاسة الجديدة المنتخبة في القبة الوطنية السورية، والتي جاءت ثمرةً لمسار

18 يونيو 2025

Media Office

أخبار يوم الثلاثاء 17/6/2025

أخبار التيار: أخبار داخلية: أخبار ذات صلة:

17 يونيو 2025

Media Office