استهلال:
مدخل إلى مركزية دمشق في الحكم السياسي:
لطالما مثّلت دمشق نواة الحكم والإدارة في سورية عبر العصور، حيث ارتبط استقرارها السياسي بمشاركة أعيانها وكبارها ووجهائها في منظومة السلطة، ومنذ التاريخ، برزت ظاهرة التفاعل بين الحكام وأعيان دمشق كعامل حاسم في تشكيل المشهد السياسي، حيث أثبتت التجارب أن إقصاء هذه النخب عن صناعة القرار يؤدي إلى اضطراب سياسي وفشل إداري.
واليوم، مع وجود شعور لدى الدمشقيين بأن الفاتحين الجدد يتجاهلون أعيانها، يعود السؤال الأساسي إلى الواجهة: هل يمكن لحكم دمشق أن ينجح دون رضا نخبها التقليدية؟
سياق تاريخي:
شكّلت دمشق في الحقبة العثمانية أحد المراكز الإدارية الرئيسية، حيث كان لأعيانها دور جوهري في استقرار الحكم، وقد شهد التاريخ توترات سياسية عندما حاولت السلطة العثمانية تقليص نفوذ هؤلاء الأعيان أو فرض ولاةٍ غرباء غير مرتبطين بالنسيج الدمشقي المحلي، ومن أبرز هذه الأحداث:
- إقالة والي دمشق درويش باشا عام 1585م بعد احتجاجات قادها أعيان المدينة على الضرائب الباهظة وسوء الإدارة.
- الإصلاحات العثمانية في القرن التاسع عشر التي همّشت بعض العائلات الدمشقية مثل آل العظم وآل العمري، ما أدى إلى اضطرابات سياسية في المدينة.
وعندما دخل إبراهيم باشا دمشق، حاول كسب ولاء النخب الدمشقية عبر منحهم امتيازات إدارية واقتصادية، لكنه اصطدم برفضهم التجنيد الإجباري، مما أدى إلى ثورة 1834م التي أجبرته على استخدام القوة العسكرية لإخمادها.
أما الفرنسيون فقد أخطأوا عند دخولهم سورية في تجاهلهم النخب الدمشقية التقليدية فيها، مفضلين التعامل مع شخصيات هامشية أو مستجلبة من خارج الإطار الوطني السوري، ظنًا منهم أن ذلك سيُضعف من الحاضنة الشعبية للمقاومة، إلا أنّ هذا التهميش أسهم في توسيع الفجوة بينهم وبين المجتمع المحلي، وخلق حالة من السخط السياسي والاجتماعي، أدت إلى اندلاع انتفاضات متتالية، كان أبرزها الثورة السورية الكبرى عام 1925م، والتي قادها أو دعمها عدد من الشخصيات الوطنية المتصلة بالطبقة الدمشقية التقليدية، مثل فخري البارودي وسعد الله الجابري.
ومع تصاعد الرفض الشعبي، أدرك الفرنسيون خطأهم في التعامل مع نخب دمشق وخطورة تجاهلهم للحواضن المجتمعية الأصيلة فيها، فحاولوا لاحقًا احتوائها عبر إدماج بعض العائلات التقليدية في مؤسسات الإدارة المحلية والحكم الذاتي، ظنًا أن ذلك سيحقق لهم الاستقرار، إلا أن تلك المحاولات جاءت متأخرة وناقصة، إذ انحاز معظم رموز النخبة إلى الحركة الوطنية، ليشكلوا عماد المعارضة السياسية.
ومن بين هؤلاء برزت شخصيات محورية مثل هاشم الأتاسي، الذي تولى قيادة الجهود السياسية نحو الاستقلال، وفارس الخوري، الذي تميز بقدرته على التفاوض والدفاع عن السيادة السورية، وعبد الرحمن الشهبندر، الذي قاد العمل المعارض على الأرض.
بعد نيل سورية استقلالها من الاحتلال الفرنسي عام 1946م، لعب أعيان دمشق دورًا محوريًا في الحياة السياسية، مستندين إلى شرعيتهم الاجتماعية والتاريخية، وعلاقاتهم مع الحركة الوطنية. وقد تمثّل ذلك في قيادات مثل شكري القوتلي وجميل مردم بك وسعد الله الجابري، والذين نشطوا ضمن الحزب الوطني والكتلة الوطنية، حيث سعى هؤلاء الأعيان إلى تأسيس دولة مدنية تقوم على التعددية الحزبية والدستور، وكان لهم دور رئيسي في خلق التوازن بين مختلف القوى الإقليمية والداخلية.
إلا أنّ انقلاب حسني الزعيم عام 1949م أدى إلى تهميش النخب التقليدية لصالح سلطة الجيش، ما أدّى إلى خلق عدم استقرار سياسي متكرر بسبب تصاعد الصراعات بين العسكريين والمدنيين.
ومع وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970م، نجد أنه اتبع نهجًا مزدوجًا تجاه أعيان دمشق يقوم على رافعتين:
- إقصاء النخب السياسية التقليدية مثل آل القوتلي وآل العظم ومردم بك وغيرهم.
- احتواء العائلات التجارية والإدارية مثل آل المهايني وآل الشهابي وآل القباني والبزرة والمنجد وسنقر وغيرهم، حيث اقتصرت مهمتهم على ضمان دورة اقتصادية مستقرة وتجميل وجه النظام في دمشق، عبر منحهم امتيازات محدودة ضمن غرف التجارة والصناعة، شريطة الولاء التام لنظام الحكم، ودونما أي دور سياسي فعلي!
وسعى بالموازاة إلى تصنيع نخب جديدة من شخصيات ريفية أو طائفية، وصعّد واجهات سُنية بديلة، لتأدية أدوار شكلية لا تعبّر عن عمق دمشق الاجتماعي.
وبهذا، دمّر حافظ الأسد الدور التاريخي لأعيان العاصمة، وأعاد تشكيل النخبة بما يخدم سلطة أمنية مغلقة لا تقبل الشراكة ولا تمت للتاريخ بصلة!.
ومع تولي بشار حافظ الأسد سدّة الحكم في سورية، شهدت بنية السلطة تحوّلًا جذريًّا في تركيبة النخب المتصدّرة للمشهد السياسي والاقتصادي، حيث انتقل مركز الثقل من النخب التقليدية الدمشقية التي شكّلت لسنوات طويلة وجه العاصمة السياسي وهويتها الاجتماعية، إلى طبقة جديدة من رجال الأعمال الطيعين الذين ارتبطوا بالنظام بعلاقات شراكة غير معلنة، قائمة على الولاء والتبعية لا على الكفاءة أو الامتداد الاجتماعي، حيث تغوّلت مصالحهم في مفاصل الاقتصاد الوطني، ما جعل السوق محتكَرة بيد قلّة قليلة تدور في فلك النظام وتُموّله وتستثمر نفوذه لقمع المنافسين وإقصاء كل من لا يدخل ضمن هذه الدائرة المغلقة.
هذا التحالف المصلحي القذر بين المال والسلطة أدّى إلى تهميشٍ منهجيٍّ للنخب الدمشقية التقليدية التي كانت تمثّل الامتداد التاريخي للهوية الوطنية المدنية في العاصمة، وتفكيكاً للبنية الاجتماعية والسياسية التي شكّلت نسيج المدينة لعقود، ناهيكم عن فرض طبقة هجينة من الأعيان الجدد الذين صُنِعوا في أقبية الأمن لا في أروقة التاريخ أو من نضال المجتمع، فكانوا واجهات شكلية بلا عمق ولا شرعية اجتماعية، ما خلق فيما بعد خللاً واضحاً في بنية المجتمع الدمشقي نفسِهِ وخلطاً للأوراق متعمّد.
هل يمكن لحكم دمشق أن يستمر دون رضا أعيانها؟
هذا السؤال يفرض نفسه بقوة عند قراءة المشهد الدمشقي الراهن! فمنذ بدايات الحكم الوطني في سورية، ظلّت دمشق تمثل أكثر من عاصمة إدارية، فهي ولاريب الواجهة الرمزية للشرعية، وبيضة القبان بين الدولة والمجتمع.
إن التجربة السورية في قرنها الأخير تؤكد أن تهميش أعيان دمشق لم يكن يومًا خيارًا ناجحًا أو طويل الأمد!.
فالعائلات العريقة، والقيادات المجتمعية، والشخصيات الرمزية التي شكّلت تاريخ المدينة السياسي والثقافي، لم تكن مجرد ديكور اجتماعي، بل كانت تمثل عمقًا توافقيًا ضمن النسيج الوطني، وضمانة لاستقرار الحكم ومصداقيته.
واليوم، ومع تولي الرئيس أحمد الشرع قيادة البلاد، تزداد المخاوف من تكرار نمط الإقصاء تحت عناوين مختلفة، إذ يرى كثير من الدمشقيين أن هناك حالة من التجاهل المتعمد لبيوت المدينة التاريخية، وللنخب التي لطالما ساهمت في صنع القرار أو حفظ التوازن، ما يعيد إلى الأذهان سياسات سابقة لم تنتج إلا القطيعة والانكفاء.
وحرصاً منا كي لا يتحول هذا الإشكال إلى أزمة، فإن المقاربة الذكية تقتضي إعادة تعريف العلاقة بين السلطة والعاصمة عبر ثلاثة مسارات:
- إعادة الاعتبار للأعيان بمفهومهم المدني الواسع، وذلك عبر إدماج الأكاديميين، ورموز المجتمع الأهلي، وشيوخ المهن، وأئمة الاعتدال، في المشهد العام، بدل حصر التمثيل في أطر بيروقراطية أو أمنية.
- تأسيس مجلس شرف دمشقي مستقل ووازن، يضم شخصيات موثوقة ذات تمثيل معنوي، تكون مهمته تقديم المشورة والتعبير عن المزاج العام للمدينة، بما يسهم في إعادة بناء الجسور بين السلطة والمجتمع.
- إعطاء دور فعلي للمؤسسات المحلية المنتخبة في دمشق، عبر تعزيز دور البلديات، وإطلاق أدوات اللامركزية، وتوسيع صلاحيات المجالس المحلية، مما يتيح للدمشقيين أن يكونوا شركاء لا متفرجين.
- تخصيص مقاعد في مجلس الشعب القادم لأعيان حقيقيين يُعيّنهم الرئيس مباشرة، وهذا يُعد خطوة رمزية وفاعلة، تؤكد التقدير الرسمي للنخبة الدمشقية، وتمنحهم فرصة التعبير والمساءلة من موقع شرعي داخل المؤسسة التشريعية، مما يعزز التمثيل ويعيد التوازن دون إخلال بآليات الانتخاب.
خاتمة:
لم تكن دمشق يوماً مجرّد عاصمة جغرافية، بل كانت ولا تزال مركزَ التوازن في الشرعية والتاريخ والهوية السورية! فمن يحكمها لا يكتفي بسطوة السلطة، بل يحتاج إلى شرعية تُولد من عمق نسيجها الاجتماعي، وعلى رأسه نُخبها التقليدية.
لقد أثبتت التجارب أن تجاوز هذه النُخب أو تهميشها لا يمر دون كُلفة سياسية، بل ويفتح الباب لاختلالات تُفضي إلى توتر داخلي قد ينسحب أثره على كامل البلاد.
وفي هذا المنعطف التاريخي الجديد، ومع صعود الرئيس أحمد الشرع إلى سدة الحكم، يعود السؤال ليُطرح بصيغته الجوهرية: هل سيُعيد إنتاج نموذج حكم يُراعي خصوصية دمشق ويُصغي إلى رموزها، أم سيسلك طريقًا مغايرًا يُراهن على هندسة جديدة للشرعية بمعزل عن الأعيان؟
لقد أظهرت حقب متعددة أن التوافق مع نخب دمشق لم يكن خيارًا تكتيكيًا بل ضرورة استراتيجية، وأن كل محاولة لتجاوز هذا المعطى سرعان ما تُقابل بانكفاء اجتماعي، أو ارتداد سياسي يعقّد مشهد الحكم.
وعليه، فإن بناء استقرار دائم يمر عبر قراءة دقيقة لمعادلة دمشق وتفاعلاتها الداخلية.
وتوصياتنا في هذا السياق تنطلق من ستة مرتكزات أساسية:
- ترسيخ الشراكة مع النخب الدمشقية التقليدية، من خلال مجالس تشاورية أو صيغ تمثيلية تحفظ مكانتها التاريخية وتُعيد لها دورها في صياغة القرار.
- تحقيق توازن بين الكفاءات الصاعدة والعائلات المؤثرة، عبر نموذج إداري يجمع الأصالة بالخبرة الحديثة، ويمنع تغوّل طرف على حساب الآخر.
- اعتماد سياسة الاحتواء المدروس بدل الإقصاء المتهور، لضمان تحصين العاصمة من التوترات المتكررة التي أنتجتها سياسات العزل السابقة.
- الاستفادة من الذاكرة السياسية للعاصمة، بوصفها خزاناً لتجارب النجاح والإخفاق، وعدم إعادة تدوير أخطاء كرّست الانفصال بين الحكم والمجتمع.
- احترام الخصوصية الدمشقية عند طرح برامج الإصلاح، تفادياً لأي ارتداد مجتمعي قد يُعطل العملية التغييرية أو يُفرغها من محتواها.
- إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع الدمشقي، عبر مبادرات ذات طابع اجتماعي واقتصادي تُعيد التوازن وتمنح السكان شعوراً بالشراكة في صناعة المستقبل.
إن تجاهل هذه الحقائق سيُدخل الحكم الجديد في مواجهة صامتة لكنها عميقة، وقد تُفضي إلى فقدان دمشق ليس كأرض، بل كحاضنة سياسية واجتماعية، وهو ما لا يتحمله أي مشروع وطني يسعى للاستقرار والانفتاح.
د. زاهر بعدراني
مكتب الرئاسة
مقال
تيار المستقبل السوري