العلاقات السورية – البريطانية: نحو شراكة استراتيجية في سورية الجديدة

استهلال:

لا تُقرأ العلاقات السورية–البريطانية بمعزل عن سياقها الجيوسياسي المتقلب، الذي جعل من سورية ساحةً لصراعات القوى الدولية، ومن بريطانيا لاعبًا خفيًّا أحيانًا، وصانعًا للتحوّلات أحيانًا أخرى. 

واليوم، وفي ظل التحولات الجذرية التي تشهدها سورية مع حكومة الرئيس أحمد الشرع، تبرز فرصة تاريخية لإعادة تعريف هذه العلاقة، لا كاستمرار لصفحات الماضي المُلتبسة، بل كشراكة استراتيجية تُبنى على أسس العدالة والديمقراطية والمصالح المتبادلة.  

الجذور التاريخية:

  لم تكن بريطانيا مجرد مراقبٍ لتدهور الإمبراطورية العثمانية، بل فاعلًا رئيسيًا في رسم خرائط المشرق العربي. فمراسلات حسين–مكماهون (1915–1916) لم تكن سوى جزء من استراتيجية طويلة لضمان هيمنة غير مباشرة على المنطقة، توجت باتفاقية سايكس–بيكو (1916)، التي سلّمت سورية للانتداب الفرنسي، بينما حافظت لندن على شبكة نفوذ أمني واقتصادي في الجنوب السوري، خاصة في حوران والسويداء، عبر تحالفات مع الزعامات المحلية.

ومع انطلاق الحرب الباردة، تحولت سورية إلى ساحة لتصفية الحسابات بين المعسكرين، حاولت بريطانيا، بشراكة أمريكية خجولة، احتواء المد الشيوعي عبر دعم انقلابات عسكرية وتمويل نخب سياسية، لكن صعود التيار القومي العربي، ثم وصول حزب البعث إلى السلطة (1963)، حوّل سورية إلى حليف استراتيجي للمعسكر الشرقي، ما دفع لندن إلى تعويض خسارتها الجيوسياسية عبر تعزيز نفوذها في الأردن ولبنان.  

هذا وقد اتبع حافظ الأسد سياسةً مراوغةً تجاه الغرب، عبر تعاون أمني محدود في ملفات مثل لبنان، وحوارٌ متقطع مع أوروبا، بينما ظلت بريطانيا في الظل، تنتظر فرصتها خلف التفاهمات الفرنسية–الألمانية، لهذا لم تتحول لندن إلى خصمٍ علني لدمشق، لكنها احتفظت بمسافة نقدية من سياسات النظام، خاصة بعد اغتيال الحريري (2005)، الذي حوّل العلاقات إلى توتر دبلوماسي مفتوح.  

ومع اندلاع الثورة السورية (2011)، اختارت بريطانيا الوقوف إلى جانب الحراك الشعبي، معتبرة أن نظام الأسد لم يعد قادرًا على تمثيل السوريين، فتحولت لندن إلى منصة دبلوماسية للمعارضة، ومركزٍ لصناعة القرار الأوروبي الداعم للعقوبات على النظام. 

هنا، لم تكن بريطانيا مجرد داعمٍ ثانوي، بل شريكًا في صياغة الرواية الدولية التي رأت في سورية ساحةً للصراع بين الديكتاتورية والإرهاب من جهة، وقيم الديمقراطية من جهة أخرى.  

سورية الجديدة وحكومة الشرع: لماذا يجب أن تلتفت لندن؟

إن انطلاق حكومة الرئيس أحمد الشرع، بوصفها أول حكومة مدنية تُشكّل خارج إطار النظام السابق، يضع بريطانيا أمام تحدٍّ وفرصة في آن واحد:  

  • التحدي: كيف تعيد لندن ترتيب أولوياتها في شرق المتوسط، خاصة مع تنامي النفوذ الروسي والإيراني، وتراجع الملف السوري على الأجندة الدولية؟  
  • الفرصة: كيف تستثمر بريطانيا في “النموذج السوري الجديد” لتعزيز مكانتها كقوة وسيطة بين أوروبا والعالم العربي؟  

للإجابة عن ذلك، يمكن طرح ثلاثة محاور استراتيجية:  

1. المحور السياسي–الأمني:  

  • ويكون عبر مطالبة بريطانيا بدور الضامن الدولي للمرحلة الانتقالية، عبر مجلس الأمن، إضافة إلى توظيف الخبرة البريطانية في مكافحة التطرف لبناء أجهزة أمنية سورية مهنية، بعيدًا عن ثقافة القمع.  

2. المحور الاقتصادي–التنموي:  

  • وذلك عبر إدراج سورية ضمن “مشاريع إعادة الإعمار” البريطانية في الشرق الأوسط، مع ضخ استثمارات في قطاعات الطاقة والتعليم، وربطها بشركات بريطانية كبرى، إضافة لتفعيل دور الجالية السورية–البريطانية كجسرٍ للاستثمار وتبادل الخبرات.  

3. المحور الثقافي–القيمي:

  • وهو ما نراه مهماً، من خلال إطلاق شراكات مع جامعات مثل كامبريدج وأكسفورد ولندن لإعادة تأهيل الكوادر السورية، وأيضا، تبني برامج عدالة انتقالية مستلهمة من نموذج جنوب إفريقيا، بدعمٍ بريطاني تقني وقانوني.  

نعم، لا يمكن اختزال الزيارة المرتقبة للرئيس الشرع إلى بريطانيا في بعدها البروتوكولي فهي محطةٌ لاختبار نوايا الطرفين، فمن جانب سورية، يتطلب النجاح تقديم رؤية واضحة لمشروع الدولة المدنية، مع ملفات تشغيلية جاهزة (اقتصاد، عدالة انتقالية، لامركزية).  

ومن جانب بريطانيا، يتطلب الأمر تجاوز منطق “الانتظار والترقب”، والانتقال إلى دعم ملموس، كرفع العقوبات تدريجيًا، وتمويل مشاريع إغاثية مباشرة.  

خاتمة ورؤية:

ليست إعادة بناء العلاقات السورية–البريطانية اختيارًا ثانويًا في ظل نظام عالمي جديد تتسارع فيه تحالفات الأزمات، بل نرى أنها استثمارٌ في استقرار إقليمي يخدم مصالح الطرفين.

 فبريطانيا، بقوتها الناعمة وخبراتها المؤسساتية، يمكن أن تكون شريكًا حاسمًا في تحويل سورية من دولة فاشلة إلى نموذجٍ للدولة المدنية في الشرق الأوسط. أما السوريون، فمطالبون اليوم بتقديم رؤيةٍ واضحة تثبت أن “سورية الجديدة” ليست شعارًا ثوريًا، بل مشروعًا قابلًا للتطبيق، قائمًا على الشراكة لا الاستجداء.  

لهذا فإننا نرى أن تنتقل العلاقة السورية-البريطانية إلى الواقع العملي، من خلال ثلاثية ذهبية نوصي بها، وهي:

  • أولا، تشكيل “تحالف أصدقاء سورية” في البرلمان البريطاني.  
  • ثانيا، إطلاق منصة حوار سورية–بريطانية حول العدالة الانتقالية.  
  • ثالثا، استضافة مؤتمر لندن الدولي لدعم إعادة الإعمار، مع ضمان شفافية تمويل المشاريع.  

أخيرا، إن التاريخ يعطي دروسًا، لكن المستقبل يُصنع بإرادة السياسيين، والسؤال الآن ونحن نرى سورية الجديدة وهي منفتحة على الغرب الحضاري: هل ستختار بريطانيا أن تكون في صفِّ التاريخ أم في خندق التردد؟

د. زاهر بعدراني

مكتب الرئاسة

مقال

تيار المستقبل السوري

Share the Post:

مقالات ذات صلة