المقدمة:
شكَّلت المياه في سورية عنصراً جيوسياسياً واقتصادياً حاسماً، إذ ارتبطت إدارتها بسياسات النظام السوري منذ سبعينيات القرن الماضي، وتفاقمت أزمتها مع تغير المناخ والحرب الأخيرة.
هذا وتعد سورية واحدة من أكثر دول العالم عرضةً لأزمات المياه، لا بسبب تغير المناخ فحسب، بل أيضاً نتيجة موقعها الجيوسياسي الحساس في قلب الشرق الأوسط، حيث تتداخل المصالح الإقليمية والدولية مع مواردها المائية المحدودة.
وفي هذا المقال يستكشف واقع المياه بالتاريخ الحديث، وكيف شكلت العوامل الإقليمية من سياسات الجوار إلى الصراعات العابرة للحدود واقع المياه في سورية.
المياه كأداة للسيطرة السياسية في عهد الأسد الأب والابن ومرحلة الثورة:
اتسمت سياسات النظام السوري البائد بإدارة المياه لتعزيز الولاءات السياسية، فمنذ تولي البعث السلطة عام 1970م، استُخدم توزيع الموارد المائية كآلية لشراء الولاءات، خاصة في المناطق الريفية السنية عبر توسيع مشاريع الري المكثفة.
وبحلول عام 2000م، استهلك القطاع الزراعي 90% من موارد البلاد المائية، مدعوماً بدعم حكومي لتحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي، ما أدى إلى استنزاف الطبقات الجوفية وتدهور البنية التحتية .
كما تم منح امتيازات حفر الآبار دون ترخيص للأسر الموالية للنظام، خاصة حول دمشق، حيث بلغت نسبة الآبار غير المرخصة 87% مقارنة بـ38% خارج العاصمة.
وتفاقم الجفاف بين 2006-2010م، مما أدى إلى تدمير 85% من الثروة الحيوانية في شرق سورية، وانهيار الإنتاج الزراعي، ما أجبر مئات الآلاف على النزوح إلى المدن، وساهم في تفجير الاحتجاجات عام 2011م.
وأما خلال مرحلة الثورة السورية (2011-2024) فقد كانت المياه سلاحاً، فتحولت الموارد المائية إلى ساحة حرب خلال الصراع المسلح من خلال:
- التسليح المائي، حيث سيطرت الفصائل المتنازعة على السدود والينابيع، مثل سد تشرين والفيجة، لاستخدامها كأداة ضغط، على سبيل المثال، قطعت بعض الفصائل الثورية إمدادات المياه عن دمشق عام 2015 كتكتيك عسكري لتخفيف حدة مخابرات الأسد على الناس.
- التدمير البيئي، تعرضت 25% من منشآت المياه لأضرار جسيمة، بما في ذلك تلويث الآبار بالنفط والكلور، ما أدى إلى تفشي الأمراض.
- الحصار الاقتصادي، حيث حرم النظام المناطق الخارجة عن سيطرته من المياه، مما أثر على 450 ألف مدني بحلول 2017، وزاد الاعتماد على المساعدات الدولية.
مرحلة ما بعد التحرير (2024م) تحديات الإعمار والتدخلات الخارجية:
بعد سقوط نظام الأسد نهاية 2024، برزت تحديات معقدة، على رأسها إعادة الإعمار المائي، حيث تحتاج سورية ما بين 500-700 مليون دولار لإصلاح شبكات التوزيع، وفقاً لتصريحات وزير الموارد المائية السوري.
إضافة للأزمة الإنسانية المستمرة، مثلا، في الحسكة، لا يزال 600 ألف شخص يعانون من انقطاع المياه منذ 2019 بسبب توقف محطة علوك. وأيضا التدخل الإسرائيلي، فقد سيطرت إسرائيل على موارد مائية استراتيجية في جنوب سورية، مثل سدود نهر الأردن، ما يهدد الأمن المائي ويُعمق التبعية الاقتصادية، وأخيرا، الفساد الموروث، حيث أشار وزير الاقتصاد السوري إلى أن الفساد المُمنهج في عهد الأسد حوَّل البنية التحتية إلى "منظومة فاسدة"، ما يعيق الإصلاحات.
التأثير الإقليمي على المياه في سورية: تفاعلات الجفاف والصراع والتدخلات الخارجية:
يُعد نهر الفرات، الذي ينبع من تركيا، المصدر الرئيسي للمياه في سورية، حيث يوفر 90% من احتياجات البلاد من المياه العذبة، ومع ذلك، استخدمت أنقرة هذا المورد كأداة ضغط سياسي، خاصة بعد بناء سلسلة سدود عملاقة مثل "أتاتورك" و"اليسو"، مما قلل التدفق إلى سورية بنسبة 40% بين عامي 2019 و2023.
أدى ذلك إلى انخفاض منسوب بحيرة الأسد بمقدار 6 أمتار، مما هدد مصدر الشرب لأكثر من 5 ملايين شخص في الرقة ودير الزور.
وفي اتفاقية 1987 كانت قد تعهدت تركيا بموجبها تزويدَ سورية بـ500 متر مكعب/الثانية سنوياً، لكنها خفضت الكمية إلى أقل من النصف خلال موجات الجفاف الأخيرة، مدعية "الظروف المناخية القاسية"، بينما تشير تقارير إلى استخدام المياه كورقة تفاوض في ملفات مثل دعم حلفائها من المعارضة السورية ضد قوات سورية الديمقراطية والنظام البائد.
ففي 2019م، سيطرت القوات التركية على محطة مياه علوك في الحسكة، مما تسبب في حرمان مليون شخص من المياه بشكل متكرر، واستُخدمت المحطة كأداة للضغط على الإدارة الذاتية الكردية.
ورغم عدم مشاركة إسرائيل مباشرة في الصراع السوري، فإن سياستها المائية في هضبة الجولان المحتلة تؤثر على الأمن المائي لسورية، حيث تسيطر إسرائيل على 30% من موارد المياه الجوفية في الجولان، وتستغل الينابيع التي كانت تُغذي نهر الأردن وبحيرة طبريا، مما قلل تدفق المياه إلى سورية والأردن، وفي تقرير معهد الأمن القومي الإسرائيلي (2020) كان قد حذر من أن تغير المناخ سيزيد من تدفق "لاجئي المناخ" نحو حدود إسرائيل، مما قد يدفعها إلى تعزيز سيطرتها على الموارد المائية كإجراء أمني استباقي.
كما يُتوقع أن تؤدي ندرة المياه في الدول المجاورة (مثل لبنان والأردن) إلى تفاقم الهشاشة الإقليمية، مما يعزز اعتماد سورية على التفاوض مع إسرائيل للحصول على حصص مائية.
التغير المناخي وتأثيره العابر للحدود:
تشترك سورية مع دول الجوار في التحديات المناخية، لكن ضعف بنيتها التحتية يجعلها الأكثر تأثراً، حيث توقعات مشروع RICCAR من خلال النمذجة المناخية قد أشارت إلى أن درجات الحرارة في سورية قد ترتفع بمقدار 4 درجات مئوية بحلول 2060، مع انخفاض هطول الأمطار بنسبة 25%، مما يهدد بتقلص التدفق السنوي لنهر الفرات بنسبة 30% .
وأيضا، الجفاف التاريخي (2006–2010) أودى بسبل عيش 1.3 مليون سوري، وأجبر 800 ألف على النزوح إلى المدن، مما جعل بعض المحللين يجعلونه أحد أسباب اشتعال فتيل الاحتجاجات عام 2011م، واليوم، يتكرر السيناريو مع توقعات بموجة جفاف أشد بحلول 2030م.
الجهود الإقليمية المحدودة والتعاون المائي:
رغم التحديات، تُبذل مبادرات إقليمية هشة لمعالجة الأزمة مثل:
- مشروع RICCAR، بقيادة "المركز العربي لدراسات المناطق الجافة" (ACSAD)، والذي يهدف إلى نمذجة تأثير المناخ على المياه الجوفية، لكن تطبيقه في سورية يعيقها عدم الاستقرار السياسي، وفي هذه المرحلة من المرجح تفعيل المشروع بشكل أكبر
- مشاريع أكساد، تشمل تحديث الخرائط الهيدروجيولوجية ودراسة تداخل مياه البحر مع المياه الجوفية، لكنها تبقى غير كافية دون تمويل دولي.
- الدبلوماسية المائية، حيث تُعتبر اتفاقيات تقاسم المياه مع العراق وتركيا ضرورية، لكنها تتعثر بسبب الخلافات السياسية واختلال موازين القوى.
الخاتمة:
تظل أزمة المياه في سورية انعكاساً لتشابك العوامل الإقليمية والدولية، من السدود التركية إلى الاحتباس الحراري العالمي.
بينما تقدم المشاريع العلمية مثل RICCAR أدوات لفهم التحديات، فإن الحلول العملية تتطلب إعادة هندسة العلاقات الإقليمية، وضمان إدارة عابرة للحدود للموارد المائية.
دون ذلك، ستتحول سورية من ساحة حرب إلى بؤرة لأزمات مناخية تهدد استقرار الشرق الأوسط بأكمله.
كما ظلت المياه في سورية سيفاً ذا حدين: أداة للسيطرة السياسية، ومصدراً للأزمات الإنسانية، فرغم التغيرات السياسية بعد 2024، فإن إرث النظام البائد والصراع الدولي يجعلان التعافي الاقتصادي مرتبطاً بإصلاح إدارة المياه والتعاون الإقليمي.
دون ذلك، ستظل سورية عالقة في حلقة مفرغة من الندرة والصراع.
وعليه، فإننا في المكتب الاقتصادي لـِ تيار المستقبل السوري نوصي بالآتي:
- التحول إلى اقتصاد السوق، ودعم سعي الحكومة الجديدة لتحرير القطاع الزراعي والصناعي، مع دعم الإنتاج المحلي لجذب العملة الصعبة .
- التعاون الإقليمي، وضرورة التفاوض مع تركيا لإدارة مشتركة لنهري الفرات ودجلة، خصوصاً بحال إنهاء ملف العلاقة مع قسد، وتقليل التوترات مع إسرائيل حول الموارد المشتركة.
- الاستثمار في التكنولوجيا، مثل تحلية المياه وإدارة الطبقات الجوفية، خاصة مع توقعات تفاقم الجفاف .
المكتب الاقتصادي
فريق البحث
قسم البحوث والدراسات
دراسة
تيار المستقبل السوري
المراجع:
1. نورثروب، صامويل. "الطاقة المتنامية للمياه في سورية". معهد واشنطن، 2025.
2. الحاج، إيلي. "السياسات المائية والفساد في سورية". مركز كارنيغي، 2006.
3. مقابلة مع وزير الموارد المائية السوري. CNBC عربية، 2025.
4. يلديز، دورسون. "سدود سورية أداة للحرب". مركز الدراسات الإنسانية، 2024.
5. ويكيبيديا. "القضايا البيئية في سورية". 2025. (فيها معلومات مهمة موثقة).
6. كرزم، جورج. "السيطرة الإسرائيلية على المياه السورية". ياللا سورية نيوز، 2025.
7. عبد الحنان، باسل. "خطط إنقاذ الاقتصاد السوري". الجزيرة نت، 2024.