مقدمة في السياق العام:
أدت الحرب السورية التي استمرت لأكثر من عقد إلى نزوح ملايين السوريين داخلياً وخارجياً، وتدمير البنية التحتية، وتشويه النظام القانوني، وتغييرات ديموغرافية حادة بسبب النزوح القسري أو التهجير المنظم.
ومع سقوط نظام الأسد وبدء مرحلة إعادة الإعمار، برزت أزمة ميراث معقدة مرتبطة بالعقارات والمنازل، حيث تتداخل عوامل اجتماعية وقانونية واقتصادية تهدد استقرار المجتمع وتعيق التعافي الاقتصادي، فكانت العوامل المُفاقمة للأزمة هذه منقسمة إلى أربعة مناظير:
- انهيار النظام القانوني، بسبب تدمير سجلات الملكية العقارية الرسمية في العديد من المناطق، وفقدان الوثائق الشخصية أثناء النزوح، إضافة إلى غياب مؤسسات قضائية فاعلة لفض النزاعات، خاصة في المناطق التي شهدت سيطرة عسكرية متنافسة.
- التشابك الأسري والوفيات، حيث أدى ارتفاع عدد الوفيات خلال الحرب إلى تفرع الورثة وتداخل المطالبات، خاصة مع غياب وثائق تُثبت الوراثة الشرعية، وأيضا صعوبة تحديد الورثة الشرعيين في ظل تشتت العائلات بين دول اللجوء.
- التغيير الديموغرافي والاستيطان العشوائي، مثل استيطان عائلات أو جماعات في عقارات مهجورة، ما خلق نزاعات بين المالكين الأصليين والمستوطنين الجدد، عدا عن تحوُّل بعض المناطق إلى ساحات لصراع الهويات (مثل المناطق ذات التركيبة الطائفية المُعاد تشكيلها).
- الاقتصاد الأسود والمضاربات، وظهور سوق سوداء للعقارات، حيث تُباع ممتلكات بدون سندات قانونية بأسعار زهيدة، مما يغذي الفساد ويُعمق عدم المساواة.
آثار وحلول:
قمنا في قسم البحوث والدراسات لـ تيار المستقبل السوري خلال الأسبوع الماضي بأخذ عينة من خمسين شخصاً وسؤالهم عن قضية الميراث بين الأهل بعد التحرير، فكانت النتيجة الآتية: 65% قالوا سيكون هناك شقاق أسري بسبب الميراث، وأنها أكبر عائق حقيقي للسلم الأهلي، ولكن 20% أكدوا أنه لن تكون لديهم مشكلة مهددة عائلياً وأسرياً بسبب الإرث، بينما 15% ذكروا أنه لا يوجد لديهم إرث ليختلفوا عليه.
وانطلاقاً من هذا الاستبيان، نرى أن هناك ثلاث قضايا تؤثر بها حالة الميراث المعقدة، وهي:
- تعطيل إعادة الإعمار، فعدم وضوح حقوق الملكية يثني المستثمرين المحليين والدوليين عن المشاركة في إعادة الإعمار، خوفاً من المخاطر القانونية، وأيضاً تحوُّل العقارات المتنازع عليها إلى “رأسمال ميت” (Dead Capital) غير قادر على توليد قيمة اقتصادية.
- تفاقم الفقر وعدم الاستقرار، وتحوّل النزاعات العقارية إلى صراعات محلية تُهدر الموارد وتُعيق توفير الخدمات الأساسية، كما اعتماد جزء من السكان على اقتصاد غير رسمي لاستغلال العقارات (كالايجارات العشوائية)، مما يُضعف الإيرادات الضريبية.
- تآكل الثقة في المؤسسات، عبر لجوء الأفراد إلى آليات غير رسمية (كالعشائر أو الميليشيات) لتسوية النزاعات، مما يُعمق انهيار الدولة القانونية.
وعليه، فإننا في المكتب الاقتصادي لـِ تيار المستقبل السوري نرى أن الحلول المقترحة يجب أن تكون من منظور اقتصادي بعيداً عن العصبية العشائرية أو السياسية أو الدينية، وبالتالي ومن خلال قراءة موضوعية فإننا نرى أن الحلول تأتي على الشكل التالي:
- إعادة بناء السجل العقاري الرقمي، واستخدام التكنولوجيا (مثل البلوك تشين) لتوثيق الملكيات بالاعتماد على الشهادات الشفوية للجيران أو الصور القديمة، بدعم من منظمات دولية متخصصة.
- محاكم متخصصة لفض النزاعات، مثل إنشاء هيئات قضائية سريعة تُركز على قضايا الميراث، مع تبسيط الإجراءات وتوفير الحماية للشهود والورثة.
- برامج التملك التعويضي، وذلك عبر منح سندات ملكية بديلة للمستوطنين الجدد في مناطق محددة، مقابل تعويض المالكين الأصليين بشكل نقدي أو عيني، بتمويل من صناديق إعادة الإعمار الدولية.
- تشجيع الاستثمار عبر الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتحويل العقارات المتنازع عليها إلى مشاريع إسكانية أو خدماتية تُدار من خلال شراكات تضمن حقوق جميع الأطراف.
- دمج النوع الاجتماعي في الحلول، بمعنى ضمان حصول النساء على حقوقهن في الميراث (التي غالباً ما تُهمل بسبب العادات الاجتماعية)، مما يُعزز العدالة ويدعم تمكين الأسرة اقتصادياً.
على أن هذه الحلول لن تخلو من تحديات متوقعة، والتي ندعو لمعالجتها، مثل:
- الفساد والضعف المؤسسي، إذ قد تُستغل عمليات تسجيل الملكيات لصالح النخب أو الميليشيات المسيطرة.
- التمويل الدولي المشروط، فربما تُربط حلول إعادة الإعمار بأجندات سياسية خارجية.
- الذاكرة الجمعية الجريحة، وصعوبة تحقيق مصالحة مجتمعية مع استمرار انقسامات الحرب.
الخاتمة:
لا يمكن فصل أزمة الميراث في سورية عن السياق الأوسع لغياب العدالة الانتقالية وانهيار العقد الاجتماعي.
لهذا فإن حل هذه الأزمة يتطلب نموذجاً اقتصادياً وقانونياً يدمج الكفاءة التقنية مع الحساسية الثقافية، ويعيد تعريف حقوق الملكية كأداة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، لا كمصدر للصراع!.
وبدون ذلك، ستظل العقارات السورية ساحة خصبة للفوضى، تعيق ولادة سورية جديدة قادرة على النهوض من رماد الحرب.
المكتب الاقتصادي
فريق البحث
قسم البحوث والدراسات
مقال
تيار المستقبل السوري