مقدمة:
شهدت الساحة الدبلوماسية السورية خلال أسبوعٍ واحد نشاطاً مكثّفاً غير مسبوق، تجلّى في الزيارات الرسمية التي قام بها الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني إلى ثلاث دول ذات تأثير بالغ في الإقليم: تركيا، ثم الإمارات، وأخيرًا قطر.
هذه الجولة ليست مجرّد تحرّك بروتوكولي، بل تُعدّ بوصلة لإعادة تموضع سورية الجديدة في فضاءها الإقليمي والدولي، ورسالة واضحة من القيادة السورية الوليدة بأنّها تختار الانفتاح المتوازن وتعدد الشراكات بعيدًا عن المحاور الحادة.
أولاً: البعد الثلاثي وأثره على الاستقرار السياسي والأمني لسورية:
تمثل تركيا والإمارات وقطر أضلاع مثلث استراتيجي يمتد على امتداد الخليج والمشرق ويطوّق المنطقة الأشد اشتعالاً: سورية، العراق، لبنان، فلسطين، ومجرد الدخول في هذا المثلث يمنح دمشق الجديدة ثلاثة مكاسب متقاطعة:
- ضمانات أمنية غير مباشرة مع محيطها، خاصة مع النفوذ التركي على المعارضة المسلحة، والقطري على بعض الفصائل والملفات، والإماراتي في توازن العلاقات مع إسرائيل والغرب.
- نوافذ دبلوماسية متعددة للخروج من العزلة السابقة، والانفتاح على النظام الدولي من بوابات إقليمية موثوقة.
- كبح التوغلات الإسرائيلية أو الإيرانية من خلال شبكة مصالح إقليمية لا ترغب في انزلاق الساحة السورية مجددًا إلى صراعات مفتوحة.
ثانيًا: مدلولات التسلسل الزمني للجولة:
- البداية من تركيا:
- إن اختيار تركيا كبوابة أولى يعكس أولوية الملف الأمني والحدودي، وإرادة حقيقية لمعالجة موروثات الحرب، خصوصًا مع القوى الكردية المسلحة وقضية اللاجئين.
- كما يشير إلى أن سورية الجديدة منفتحة على تطبيعٍ ذكي مع تركيا ما دام يحترم السيادة السورية ويؤسس لشراكة لا وصاية.
- المنتصف في الإمارات:
- الإمارات تمثل العقلانية السياسية و"الدبلوماسية الباردة" في الإقليم، ومجرد التوقف في أبوظبي يعكس رغبة سورية في بناء رؤية اقتصادية وتنموية مدعومة بخبرة إماراتية في إدارة ما بعد الحروب، وشراكات استثمارية استراتيجية قادرة على تحفيز عملية إعادة الإعمار بعيدًا عن البعد الإيديولوجي أو الطائفي.
- الختام في قطر:
- لقطر ثقل إعلامي ومالي واضح، وهي ترتبط بملفات حساسة في سورية (المعارضة السياسية، الجهاديون، الملف الإنساني)، وتعمس الزيارة الأخيرة استعداد سورية للتعامل مع "الملفات الصعبة"، وفتح صفحة جديدة تتجاوز ما قبل 2011، بما يساهم في ضبط التوازن الداخلي والمعارضة في الخارج بطريقة ذكية، دون الانزلاق في الولاءات.
ثالثًا: الأثر الدولي – بوابة إلى واشنطن من مداخل إقليمية:
من خلال هذه الثلاثية، تبعث القيادة السورية الجديدة رسالة إلى الولايات المتحدة فحواها: "نحن لا نتبع محورًا، بل نعيد صياغة محور سورية نفسها"، معتمدين على شركاء إقليميين يمتلكون علاقات قوية مع واشنطن:
- تركيا عضو في الناتو ومفتاح للملف الكردي.
- الإمارات حليف استراتيجي موثوق للإدارة الأميركية واسرائيل، خاصة في ملفات التطبيع والطاقة.
- قطر مركز ثقل للحوار غير المباشر مع الفاعلين الدوليين، خاصة عبر القنوات الإعلامية والدبلوماسية المرنة.
رابعًا: قراءة في ثقل كل دولة على حدة وفائدتها المحتملة لسورية الجديدة:
- تركيا:
- مكامن قوتها الاستراتيجية:
- حدود مشتركة مع سورية، نفوذ مباشر على قوى ميدانية داخل الشمال السوري، وعضوية في حلف الناتو.
- الفائدة المحتملة لسورية الجديدة:
- ضبط الملف الكردي، تنسيق أمني مشترك، تهيئة البيئة لعودة اللاجئين الطوعية، وتعزيز التفاهمات الحدودية.
- الإمارات:
- مكامن قوتها الاستراتيجية:
- ثقل اقتصادي واستثماري كبير، خبرة في إدارة ملفات ما بعد الحرب، وانفتاح سياسي وعلاقات قوية مع الغرب.
- الفائدة المحتملة لسورية الجديدة:
- دعم مشاريع إعادة الإعمار، جذب استثمارات تنموية، توفير ممر آمن نحو المحافل الدولية، والمساهمة في استقرار الدولة ومؤسساتها.
- قطر:
- مكامن قوتها الاستراتيجية:
- نفوذ إعلامي دولي، علاقات مرنة مع الغرب والفصائل المعارضة، وقدرات مالية وإنسانية معتبرة.
- الفائدة المحتملة لسورية الجديدة:
- المساهمة في تحييد المعارضة الخارجية، تخفيف الحملات الإعلامية السلبية، فتح قنوات دبلوماسية غير مباشرة مع الدول الكبرى، ودعم المشاريع الإنسانية في الداخل السوري.
خاتمة:
رؤية تيار المستقبل السوري:
يرى تيار المستقبل السوري أن هذه الجولة ليست مجرد انفتاح على العواصم، بل انفتاح على أدوار جديدة لسورية في محيطها.
إنها محاولة لبناء توازنات استراتيجية خارج الاصطفافات القاتلة، وإعادة صياغة المشهد الإقليمي بيدٍ سورية خالصة.
وإننا في تيار المستقبل السوري نؤمن أن الانفتاح على دول متباينة في تموضعاتها – تركيا وقطر من جهة، والإمارات من جهة أخرى – هو ذكاء سياسي ناعم يجب أن يُبنى عليه، وأن يُدار بدبلوماسية متقدمة تستفيد من تنوع مصالح الآخرين لبناء مصلحة وطنية موحدة لسورية، أساسها السيادة، والتنمية، والاستقرار.
د. زاهر بعدراني
مكتب الرئاسة
مقال
تيار المستقبل السوري