مقدمة:
في العاشر من نيسان/أبريل 2025، شهدت العاصمة السورية دمشق حدثًا دبلوماسيًا بارزًا تمثّل في توقيع اتفاق إقامة علاقات دبلوماسية رسمية بين الجمهورية العربية السورية وجمهورية كوريا الجنوبية، بحضور وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ونظيره الكوري الجنوبي تشو تاي يول.
هذه الخطوة التي باركها الرئيس السوري أحمد الشرع، ليست مجرد تقارب بروتوكولي، بل تحمل دلالات استراتيجية وتكتيكية تتقاطع مع مشروع إعادة البناء الوطني، وانتهاج سياسة خارجية مرنة تقوم على القوة الناعمة والانفتاح المتوازن.
أولًا: الدبلوماسية السورية في مرحلة التشكل الجديد:
إنّ التحول في السياسة الخارجية السورية من الانكماش إلى الانفتاح المدروس يُعبّر عن إدراك حقيقي لأهمية كسب الشرعية الدولية عبر القنوات الدبلوماسية وليس من خلال فرض الأمر الواقع.
فالتقارب مع كوريا الجنوبية، الدولة ذات الثقل الاقتصادي والدبلوماسي، يمثل نجاحًا للدبلوماسية السورية الحديثة، كما يعكس فاعلية التوجيه الرئاسي للرئيس أحمد الشرع في انتهاج الدبلوماسية كأداة بناء لا صراع.
ثانيًا: الدلالات السياسية والتكتيكية لهذا الانفتاح:
- انفكاك تدريجي عن إرث العزلة السابقة: الاتفاق مع سيول هو اختراق رمزي لجدار العزلة التي فُرضت على سورية لعقود.
- وهو يوجّه رسالة مفادها أن دمشق باتت تملك قرارها السياسي، وأنها مستعدة للانفتاح على العالم من بوابة التعاون لا التبعية.
- توازن استراتيجي شرق/غرب: في الوقت الذي تُبقي فيه دمشق علاقاتها الاستراتيجية مع دول في الشرق (كروسيا والصين)، فإن هذا الاتفاق مع كوريا الجنوبية يُظهر قدرتها على نسج علاقات مع أطراف حليفة لواشنطن أيضًا، ما يمنحها مساحة حركة أوسع ويقلل من ارتدادات الاستقطاب الحاد.
ثالثًا: الولايات المتحدة، قراءة بين السطور:
بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فإن هذا التقارب سيلتقط على مستويين:
- إيجابيًا: فقد تراه واشنطن مؤشرًا على تحول في السياسة السورية نحو الاعتدال والانفتاح، وهو ما قد يشجع دوائر معينة داخل الإدارة الأميركية على إعادة النظر في المقاربة العقابية الصلبة، خاصة إذا رافق هذا الانفتاح إصلاحات داخلية تدريجية.
- بحذر: في المقابل، فإن أي تلاقٍ بين سورية ودول محسوبة على المعسكر الغربي قد يُثير حفيظة صقور السياسة الأميركية إذا لم يأتِ متماهيًا مع شروط سياسية محددة.
رابعًا: إسرائيل، رادار مفتوح على التحولات:
من المرجّح أن ترصد إسرائيل هذا التقارب ضمن استراتيجية رصد أي تحولات في المشهد الإقليمي، وخصوصًا إن أثمر تعاونًا تكنولوجيًا أو تطورًا في البنية الدفاعية السورية. ورغم أن التقارب مع سيول لا يحمل طابعًا عسكريًا، فإن تل أبيب تُدرك أن سياسة التحديث المدني قد تكون لاحقًا رافعةً لتحديث أمني/تقني، وهو ما ستراقبه عن كثب.
خامسًا: المنطقة العربية والإقليمية: حالة من الحذر والتقييم
- الدول الخليجية: قد تنظر بإيجابية لهذا التقارب باعتباره خطوة نحو "تحرير القرار السوري" من المحاور المغلقة، وربما يُحفّز بعضها على فتح قنوات تواصل جديدة مع دمشق، لا سيّما إذا جرى تعزيز هذه الشراكة في أطر اقتصادية وتنموية شفافة.
- إيران: ستنظر طهران بريبة لأي انفتاح سوري على عواصم محسوبة على الغرب، خصوصًا إذا اقترن هذا الانفتاح بإعادة تنظيم العلاقات داخل سورية على أساس وطني مستقل.
سادسًا: الاقتصاد والتنمية، نموذج كوري يمكن إسقاطه على سورية:
كوريا الجنوبية تعد نموذجًا عالميًا في التحول من دولة محطّمة إلى قوة اقتصادية، وهو ما يمكن لسورية الاستفادة منه في عدة مجالات:
- الطاقة المتجددة والبنية التحتية.
- التعليم التقني والتدريب المهني.
- إعادة الإعمار وفق نماذج ذكية ومستدامة.
- تشجيع الصناعات الخفيفة والتكنولوجيا الصاعدة.
إن تيار المستقبل السوري يرى أن تفعيل هكذا مذكرات تفاهم لابد أن يعقبه تأسيس لمراكز تدريب متطورة، ومناطق صناعية مشتركة، مع إشراك القطاع الخاص السوري ضمن شراكة شفافة.
سابعًا: البعد الاجتماعي والثقافي، من العزلة إلى العالمية:
إن من الدروس الكورية المهمة أن الثقافة والفن والتعليم يمكن أن تسبق السياسة، فكما دخلت كوريا العالم عبر "الموجة الكورية"، فإن سورية التي تملك إرثًا ثقافيًا عظيمًا يمكنها استخدام هذه القوة الناعمة لاستعادة موقعها الحضاري العالمي.
وهنا يأتي دور المؤسسات الثقافية والإعلامية في تصدير صورة سورية الجديدة: المعتدلة، المتسامحة، والقادرة على النهوض.
خاتمة:
إن التقارب السوري – الكوري ليس عابرًا ولا تجميليًا، بل هو بداية لتأسيس نمط سياسي جديد يقوم على الانفتاح الذكي، والنديّة، والشراكة التنموية.
وإننا في تيار المستقبل السوري نعتبر أن أي انفتاح من شأنه تعزيز استقلال القرار السوري وبناء الدولة على أسس مدنية عادلة هو انفتاح مرحّب به.
ونراهن على أن هذه الخطوة ستكون بذرة لمسار طويل نحو النهضة والشرعية الدولية، وأن العالم بدأ يقرأ تحولات سورية الجديدة بشكل مختلف، بعد أن غيّرت لغتها، وحوّلت بوصلتها من البندقية إلى الدبلوماسية.
د. زاهر بعدراني
مكتب الرئاسة
مقال
تيار المستقبل السوري